الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابه إلى هرقل وأثره
578-
بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة بكتاب هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي.
أما بعد. فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت، فإنما عليك إثم الأريسين.. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64- آل عمران) .
وقد كان هذا الكتاب الكريم له أثره فى أوساط الرومان، وأهل الشام ومشركى قريش، لم يأخذ هرقل الكتاب كما يأخذ ملك من رجل يخشى على ملكه منه، بل أخذه عالم يلقى خبرا له صلة بعلمه، فقد كان هرقل حزاء له علم بالملاحم والنجوم وأخبار النبيين، فكان عالما من علماء النصرانية الذين يريدون أن ينتشر الحق فى ذاته، لولا الملك وسورته.
عندما وصل الكتاب إليه، أرسل يبحث عن بعض قوم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى البلاد الشامية فعلم بركب تجار من مكة المكرمة، على رأسهم أبو سفيان قائد الشرك، فدعاهم إلى مجلسه، وحول (هرقل) عظاماء الروم، ثم دعا أبا سفيان ومن معه ودعا الترجمان، وإليك الحديث كما جاء فى البخارى.
قال هرقل بلسان الترجمان: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى.
فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا، فقال هرقل أدنوه منى وقربوا أصحابه عند ظهره، ثم قال لترجمانه قل لهم إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبنى فكذبوه، قال أبو سفيان، فو الله لولا أن يؤثروا عنى كذبة فى العرب لكذبت عنه، ولنترك الحكاية كلها لأبى سفيان.
يقول: أول ما سألنى عنه أن قال: كيف نسبه فيكم. قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قلت لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك. قلت لا، قال فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت بل ضعفاؤهم، قال أيزيدون أم ينقصون؟ قلت بل يزيدون، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. قلت لا، قال: فهل يغدر؟ قلت لا ونحن منه فى مدة، لا ندرى ما هو فاعل
فيها، ولم يمكنى كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم، قال فكيف قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا، وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق والعفاف والصلة.
قال للترجمان بعد ذلك قل له: سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك، هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أهم يزيدون أم ينقصون؟ فقلت إنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا يغدرون، وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
كان لهذا الكلام أثره فى نفس أبى سفيان العدو المشرك، فقال: «لقد أمرّ أمر ابن أبى كبشة (زوج المرضع التى أرضعت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم) أنه يخافه ملك الأصفر، وهذه بلا ريب كلمة الشرك، ولكن كان الكلام من هرقل له أثر أعمق من ذلك فى نفس أبى سفيان، فقد قال:
ما زلت موقنا أنه سيظهر، حتى أدخل الله تعالى على الإسلام. ولكن فتحت له مغاليق كانت متكافئة فى نفسه، حتى لا تكشف فيه قلب المسلم.
579-
هذا أثر الكتاب فى قلب هرقل، ونراه يصدق كل ما فيه، ويميل إلى الإسلام، وقبول ما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن هل أذعن للحق، وقبل الإسلام دينا!! يظهر أنه حاول ذلك ولكن قومه لم يقبلوه، وتخير بين الإسلام والإذعان، وبين البقاء على الملك، فاختار الملك، وبذلك اشترى الضلالة بالهدى، فبارت تجارته عند الله.
ولنذكر الأمر كما وقع، وما كان ينبغى أن يقع، ولكنه الابتلاء:
لقد كان هرقل كما قلنا عالما، وكان حزاء أوتى علم النجوم، وعلم الملاحم، وكان حين قدم من إيلياء، وهى الأرض التى التقى فيها مع أبى سفيان ومن معه من التجار- خبيث النفس، فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك، فقال لهم إنى رأيت حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر، وعلم من تحريه أن العرب يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
وقد أرسل إلى صاحب له برومية على مثل منزلته من العلم.
وسار إلى حمص، فلم يتركها حتى جاءه كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ونرى من هذا أنه كانت عنده أمارات قد علم بها بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت الصور التى تتراءى له أنه ملك، ولكن الله تعالى قد آتاه ما هو أعظم من ذلك، وهو النبوة التى تأتى بخير الدنيا والآخرة.
وكانت هذه المعلومات سواء أكانت منتجة فى ذاتها، أم غير منتجة فإنها أثرت فى نفسه، وجعلته على استعداد لقبول الحق إذ جاء إليه، وإن المقدمات هنا، وإن كانت ظنية فى ذاتها قد مهدت لقبول الحق.
اقتنع هرقل كما قلنا بأنه الحق، وأراد أن يعرضه على الملأ من قومه داعيا إليه، فأذن هرقل لعظماء الروم أن يحضروا فى دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع عليهم فقال:
يا معشر الروم، هل لكم فى الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم، فاتبعوا هذا النبى. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت.
فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من إيمانهم، قال: ردوهم على، وغير وبدل من قوله ونيته، وقال:«إنى إنما قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه» .
وهكذا غلبت عليه الشقوة على الهداية، ولقد برق له نور الحق وأضاء له، فلما هم أن يمشى فيه، وقف الملك وسلطانه، فكان الظلام بعد النور، والضلالة بعد الهداية، وأمر بقتل من قتل من المسلمين وجيّش الجيوش لحرب المسلمين فى مؤتة، وفى تبوك، ومن بعد ذلك فى اليرموك ومهما يكن من أمر نهاية الكتاب بالنسبة لهرقل والملأ من قومه، فإن الإسلام قد عرف فى وسط الرومان، وعرف فى الشام، وتذاكر به الناس، وعرف ما كان من هرقل لعظماء ملته، والنور دائما يخترق الظلام مهما تكن الحجب، والغياهب والظلمات، فالكتاب أثمر ثمراته، وإن لم يكن الإيمان عاجلا، فإنه آجل والأجل قريب.