الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام المحدث الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد أبو محمد المقدسي رحمه الله في كتاب العمدة:
1 - كتاب الطهارة
(1)
1 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ــ وَفِي رِوَايَةٍ: بِالنِّيَّةِ (2) ــ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» (3).
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (4).
3 -
عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» (5).
(1) بداية الشريط الأول من شرح الشيخ سجَّل بتاريخ 5/ 3/ 1409هـ.
(2)
في نسخة الزهيري: «إنما الأعمال بالنية» ، وفي رواية: بالنيات: قدم كلمة النية على النيات.
(3)
رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، برقم 1، وأوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى
…
»، ورقم 54، وأوله: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى
…
»، ورقم 2529، وأوله: «الأعمال بالنية، ولامرئ ما نوى
…
»، ورقم 3898، ورقم 5070، وأوله: «العمل بالنية
…
»، ورقم 6689، وأوله: «إنما الأعمال بالنية
…
»، ورقم 6953، وأوله: «يا أيها الناس، إنما الأعمال بالنية
…
»، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية
…
»، برقم 1907.
(4)
رواه البخاري، كتاب الحيل، باب في الصلاة، برقم 6954، واللفظ له، مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 225 ..
(5)
رواه البخاري، كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، برقم 60، بقظ:«ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثاً. ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، برقم 241، ولفظه:«ويل للأعقاب من النار: أسبغوا الوضوء» ، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فرواه البخاري، برقم 165، ومسلم، برقم 242، وفي رواية لمسلم، 9 - (242):«ويل للعراقيب من النار» ، وأما حديث عائشة رضي الله عنها، فرواه مسلم، برقم 240.
1 -
قال الشارح الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله:
الحمد للَّه، وصلى اللَّه وسلَّم على رسول اللَّه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالطهارة، والطهارة هي: رفع الحدث، وإزالة النجس، يقال له: طهارة. والوضوء من الأحداث يقال له: طهارة، والغسل من الجنابة والحيض يقال له: طهارة، وإزالة النجاسة من البدن، والثوب، والبقعة تسمى طهارة، فالطهارة في الشرع هي: رفع الأحداث، وإزالة الأخباث.
والطهارة طهارتان: طهارة حسية، وطهارة معنوية.
والطهارة الحسية شطر الإيمان، كما في الحديث، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«الطهور شطر الإيمان» (1)؛ لأنها طهارة ظاهرة حسية في الوضوء، والغسل.
والطهارة المعنوية: التوحيد، والأعمال الصالحات، هي الشطر الثاني.
واللَّه جل وعلا شرع للعباد الطهارتين:
الطهارة من الأحداث والأنجاس فيما شرع من: الوضوء، والغسل، والتيمم عند العجز عن الماء، أو عند فقد الماء.
وشرع لهم الطهارة الثانية بما أمرهم به من الطاعات، وترك المعاصي، هي طهارةٌ لقلوبهم، وصلاحٌ لها، فَفِعْلُ العبدِ للأوامر،
(1) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223.
وتركه للنواهي طهارةٌ لقلبه، وصلاحٌ لدينه، وسببٌ لنجاته في الدنيا والآخرة. والأعمال مبنية على أمرين:
[1]
صلاح الباطن.
[2]
وصلاح الظاهر. والعمل لا يُقبل إلا بالأمرين:
النية للَّه الخالصة، وهذا يتعلق بالباطن بالقلوب، ويتعلق بهذا حديث عمر رضي الله عنه:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» هذا يتعلق بالقلوب، فلا يقبل العمل إلا إذا صدر عن إخلاص للَّه.
ولا بد من أخذ أمر ثانٍ، وهو موافقة الشريعة؛ ولهذا قال جمع من أهل العلم: إن حديث عمر يعتبر شطر الدين؛ لأن مبنى الأعمال على أمرين:
[1]
الإخلاص في الباطن.
[2]
وموافقة الشريعة في الظاهر.
فكل عملٍ لا يكون خالصاً للَّه يكون باطلاً.
وكل عمل لا يوافق الشريعة يكون باطلاً.
وحديث عمر فيما يتعلق بالإخلاص، فالأعمال بالنيات، وليس للعبد إلا ما نوى.
وحديث عائشة رضي الله عنها الآتي (1)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في
(1) يأتي في أحاديث المتن، برقم 376.
أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1).
وفي لفظ آخر: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) هذا يتعلق بالظاهر.
فلا تقبل الأعمال، ولا تصحّ جميع الأعمال التي يتقرّب بها العباد إلى اللَّه، يتعبدون بها، لا تصحّ إلا بإخلاص للَّه، وموافقة لشريعته التي جاء بها نبيه عليه الصلاة والسلام.
وقال بعض أهل العلم: إن حديث عمر ربع الدين، وأنشد في ذلك:
عمدة الدين عندنا كلمات أربعٌ
…
من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد
…
ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
فقوله: (واعملن بنية) حديث عمر، فجعله ربع الإسلام.
والأول أظهر، فهو في الحقيقة شطر الإسلام؛ لأنه يتعلق بما يصلح الأعمال في الباطن، وهو الإخلاص للَّه في جميع العبادات، ولابد مع هذا موافقة العمل لشريعة اللَّه، كما قال عليه الصلاة والسلام:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3)، «من أحدث في أمرنا
(1) رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، وردّ محدثات الأمور، برقم 1718.
(2)
رواه البخاري معلقاً، كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، قبل الحديث رقم 2142، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، وردّ محدثات الأمور، برقم 1718.
(3)
رواه البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718، وتقدم تخريجه في شرح الحديث رقم 1 من أحاديث المتن.
هذا ما ليس منه فهو رد» (1) أي فهو مردود.
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً لهذا، فقال عليه الصلاة والسلام:«فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ للَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (2) ، وهذا مثال للنية.
فالأعمال في الظاهر قد تكون مستوية متشابهة، لكن تُميِّزها النّيَّات، فالمهاجر إذا أراد وجه اللَّه، والدار الآخرة، فهذا هجرته إلى اللَّه ورسوله، وعمله صالح، وإن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فليس بمهاجر شرعي، إنما هجرته لما هاجر إليه من قصد النكاح، أو الدنيا، وهكذا سفر الإنسان من بلاد إلى بلاد إن كان لطلب العلم، أو للجهاد؛ فله ما نوى، وإن كان للدنيا والتجارة، فله ما نوى.
وهكذا خروجه من بيته، إن كان للمسجد، أو لعيادة مريض، ونحو ذلك، فله ما نوى، وله أعماله الصالحة في ذلك.
وإن كان خروجاً لمعنىً آخر من زيارة، أو أسباب أخرى، فله ما نوى، وله ما قصد.
والحديث الثاني حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا
(1) رواه البخاري، قبل رقم 2142، ومسلم، برقم 1718، وتقدم تخريجه في شرح الحديث رقم 1 من أحاديث المتن ..
(2)
رواه البخاري، برقم 1، ومسلم، برقم 1975، وتقدم تخريجه في شرح الحديث رقم 1 من أحاديث المتن.
تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (1)، هذا الحديث يدل على أنه لابد من طهارة للصلاة، ولا تقبل إلا بذلك، ومن صلى بغير طهارة فلا صلاة له.
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقةٌ من غلول» (2) خرَّجه مسلم في صحيحه.
فلابد من طهور للصلاة، طهور كامل من الحدث الأكبر: كالجنابة، والحيض، والنفاس، ومن الحدث الأصغر، وهو الذي يوجب الوضوء كالريح والبول، ونحو ذلك.
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» (3)، فلابد من مفتاح، ومفتاحها الطهور. أي التطهر، فمن دخلها بغير مفتاح فلا صلاة له، إلا عند الضرورة، كالذي لا يستطيع طهوراً: لا ماءً، ولا تيمماً؛ فهذا معذور: كالمريض العاجز الذي لا يستطيع.
(1) رواه البخاري، برقم 6954، وتقدم تخريجه في شرح الحديث رقم 2 من أحاديث المتن.
(2)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 224.
(3)
رواه أحمد، 2/ 292، برقم 1006، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يحدث بعدما يرفع رأسه من آخر ركعة، برقم 618، والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في فضل الطهور، برقم 3، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب مفتاح الصلاة الطهور، برقم 275، قال محققو المسند، 2/ 292:«صحيح لغيره، وإسناده حسن» ، وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 102:«إسناده حسن صحيح» .
4 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً (1)، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنِ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلاثاً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؟» (2).
وفي لفظٍ لمسلمٍ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ» (3).
وفي لفظ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ» (4).
5 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» (5).
وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» (6).
(1)(ماء): ليست في نسخة الزهيري.
(2)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب الاستجمار وتراً، برقم 162، واللفظ له، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار، والاستجمار، برقم 20 - (237)، وباب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، برقم 278.
(3)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، برقم 237.
(4)
أخرجه بلفظه ابن أبي شيبة، 1/ 23، برقم 156، ويؤيده لفظ مسلم السابق، أما لفظ البخاري، برقم 161 لهذا اللفظ، فهو:«من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر» ، ولفظ مسلم، برقم 237:«إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً، وإذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر» .
(5)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، برقم 239، ومسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد، برقم 282.
(6)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، برقم 283.
6 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً» (1).
وَلِمُسْلِمٍ: «أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ (2).
7 -
وله في حديث عبد اللَّه بن مُغَفَّل أنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِناءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» (3).
2 -
قال الشارح رحمه الله:
هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بأحكام تتعلق بالطهارة.
في الحديث الأول: الدلالة على وجوب الاستنشاق في الوضوء؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ» (4)، وفي اللفظ الآخر:«فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ» (5).
وهذا يدل على وجوب الاستنشاق، والاستنثار، وأن الواجب على المتوضئ أن يستنشق الماء، وأن ينثره؛ لما فيه من النظافة، والنشاط، وإخراج الأذى.
(1) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، برقم 172، ومسلم، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم 279.
(2)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم 279.
(3)
رواه مسلم كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم 280.
(4)
رواه البخاري، برقم 162، ومسلم، برقم 278، وتقدم تخريجه في تخريج حديث المتن رقم 4.
(5)
رواه مسلم، برقم 237، وتقدم تخريجه في تخريج حديث المتن رقم 4.
والواجب مرة واحدة، وإذا كرر ثلاثاً فهو الأفضل، وهكذا بقية فروض الوضوء ما عدا الرأس (1)، السنة ثلاثاً (2)، والواحدة مجزئة كافية، وإن كرر ذلك ثنتين كان أفضل، والكمال ثلاث. أما الشيء الواجب فهو واحدة: غسلة واحدة لوجهه ويديه، وهكذا المضمضة مرة واحدة، واستنشاق واحد، كله يكفي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، فالواجب في الوضوء مرة، والثنتان أفضل، والثلاث أكمل، إلا المسح؛ فإنه يمسح رأسه مرة واحدة مع أُذنيه. هذا هو الأفضل، ولا يكرر.
وفيه دلالة على وجوب غسل اليدين إذا استيقظ من النوم ثلاث مرات؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بهذا، ونهى عن إدخالهما في الإناء إلا بعد غسلهما ثلاثاً، فدل ذلك على وجوب غسلهما عند قيامه من نوم الليل.
واختلف العلماء: هل يلحق نوم النهار في ذلك، أم هذا خاص بنوم الليل؟ والأقرب - واللَّه أعلم - أنه يَعُمُّ، وأن التعبير:«أين باتت يده» نصٌّ أغلبي؛ لأن الغالب من النوم في الليل، وإلا فالحكم يعمّ الجميع؛ فإذا استيقظ من نومه، وجب عليه غسلهما ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء، كما دل عليه هذا الحديث العظيم الصحيح.
(1) أي مرة واحدة.
(2)
أي للأعضاء ما عدا الرأس.
الحديث الثاني: فيه دلالة على أن الجنب لا يغتسل في الماء الدائم، ولا يبول فيه، لا يجوز البول في الماء الدائم مطلقاً، ولا يجوز للجنب أن يغتسل فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وعن هذا:
نهى عن البول في الماء الدائم، وعن الاغتسال فيه من الجنابة، وما ذلك - واللَّه أعلم - إلا لأنه وسيلة إلى تقذيره، وتنجيسه؛ لأنه إذا توالى فيه البول والغسل من الجنابة أفضى إلى تنجيسه، أو على الأقل تقذيره على الناس، حتى لا يُشتهى، ولا يُرغب فيه بسبب ما يحصل فيه من الغسل من الجنابة، والأبوال، التي قد تتكرر، وتكثر، فتؤثر في طعمه، أو لونه، أو ريحه، فيكون نجساً، وهكذا الغسل من الجنابة؛ لأنه قد يؤثر في الماء؛ لأن الجنب يكون عليه آثار من الجنابة مني، أو مذي، فيؤثر ذلك في الماء كدراً، أو تقذيراً، وربما كانت عليه نجاسة، فأثَّر في الماء أيضاً؛ فلهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك بالكلية؛ حسماً لمادة إفساد الماء (1) ، فلا يبول فيه، ولا يغتسل، ولكن يغترف لحاجته، والمفهوم من ذلك أنه إذا كان جارياً لا يضر الاغتسال في الماء الجاري كالنهر، أو بال فيه، لا يضر ذلك؛ إنما يضر إذا كان الماء دائماً، كالأحواض الدائمة، وأشباهها، فلا يجوز البول فيها، ولا الاغتسال فيها من الجنابة.
والحديث الثالث: حديث أبي هريرة فيه الدلالة على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ
(1) أي: حتى لا يفسد الماء بكثرة تكرر ذلك.
أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» (1). هذا الواجب، هذا من خصائص الكلاب، لا يقاس عليها غيرها، فلا يجب غسل الإناء من ولوغ الخنزير، أو الذئب، أو الأسد، أو الحمار، أو البغل، لا، إنما هذا خاص بالكلب، إذ ورد فيه النص وحده، فلا يلحق به غيره.
وفي رواية مسلم: «طَهُورُ إنَاءِ أحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيه الْكَلْبُ أن يَغْسِلَهُ سَبْعَ مرات، أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» (2) ، دل على أنه لنجاسته، وأن نجاسته مغلظة، لابد فيها من سبع، ولابد فيها من تراب في إحداهن، والأفضل أن تكون الأولى. لقوله:«أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» ، حتى يكون ما بعدها من المياه منظفاً للإناء من التراب ومن الولوغ جميعاً.
وفي حديث عبداللَّه بن مغفل «وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» (3) ، يعني ليكن إحدى الغسلات فيها تراب، فتكون ثامنة بالنسبة إلى التراب، وإلا فهي سبع بالنسبة إلى الماء.
وظن بعض العلماء: أن المراد ثمان غسلات، وليس الأمر كذلك، وإنما المراد أنَّ الثامنة بالنسبة إلى كونها من التراب، تعتبر
(1) البخاري، برقم 172، ومسلم، برقم 279، وتقدم تخريجه، وهذا اللفظ في مسند الشافعي، ص 7، ومسند أحمد، 12/ 415، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، برقم 363، والنسائي، كتاب الطهارة، سؤر الكلب، برقم 64، وقال محققو المسند، 12/ 415:«إسناده صحيح على شرط الصحيح» ، وقال الألباني في إرواء الغليل، 1/ 60:«صحيح» .
(2)
رواه مسلم، برقم 91 - (279)، وتقدم تخريجه في تخريج حديثي المتن رقم: 6، و7.
(3)
رواه مسلم، برقم 280، وتقدم تخريجه في تخريج حديثي المتن رقم: 6، و7.
ثامنة، وبالنسبة إلى كونها مخلوطة مع الماء، فهي سابعة، وهذا من باب التنظيف، وإزالة آثار هذا الولوغ تكون سبع غسلات، إحداهن بالتراب، والأفضل أن تكون الأولى، حتى يكون ما بعدها منظفاً للإناء، ومزيلاً لآثار الولوغ، وإذا لم يتيسر التراب فما يقوم مقامه يكفي من أشنان، أو صابون، أو سدر، ونحو ذلك.
وأما إذا تيسّر التراب؛ فينبغي استعماله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نصّ على ذلك، فينبغي الأخذ بذلك عند وجوده؛ فإن عدم التراب استعمل ما يقوم مقامه من سدر، أو صابون، أو أشنان، أو نحو ذلك.
8 -
(1) في نسخة الزهيري: «يتوضأ» ، وهذا لفظ البخاري، برقم 164.
(2)
في نسخة الزهيري: «غُفِرَ له» ، وهذا لفظ مسلم، برقم 226.
(3)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، برقم 164، ومسلم، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، برقم 226.
9 -
وفي رواية: «بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَاسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» (9).
وفي رواية: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنِ صُفْرٍ» (10).
(1) في نسخة الزهيري: «أبي حسن» ، وهذا لفظ البخاري، برقم 186.
(2)
في نسخة الزهيري: «النبي صلى الله عليه وسلم» .
(3)
في نسخة الزهيري: «يده» .
(4)
«التور» ليست في نسخة الزهيري.
(5)
في نسخة الزهيري: «يديه» .
(6)
في نسخة الزهيري: «يده» .
(7)
«بهما» : ليست في نسخة الزهيري.
(8)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله، برقم 185، ومسلم، كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 235.
(9)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله، برقم 185، ومسلم، كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 235.
(10)
البخاري، كتاب الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، برقم 197بلفظ: (أتى رسولُ اللَّه
…
).
التَّوْرُ: شِبْهُ الطَّسْتِ.
10 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَانِهِ كُلِّهِ» (1).
11 -
عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنِ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» (2).
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (3): «رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرَّاً مُحَجَّلِينَ مِنِ أثَرِ الْوُضُوءِ» ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ (4) فَلْيَفْعَلْ (5).
(1) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم 168، ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم 268.
(2)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء والغرُّ المُحجَّلون من آثار الوضوء، برقم 136، واللفظ له، ورواه مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة، والتحجيل في الوضوء، برقم 246.
(3)
كلمة: «لمسلم» ليست في نسخة الزهيري
(4)
كلمة: «تحجيله» ليست في نسخة الزهيري.
(5)
مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم 246.
12 -
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» (1).
3 -
قال الشارح رحمه الله:
هذه الأحاديث الأربعة تتعلق بالوضوء.
الحديث الأول: حديث عثمان رضي الله عنه وهو عثمان بن عفان القرشي رضي الله عنه، ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة - رضي اللَّه عن الجميع - يخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ غسل يديه ثلاث مرات، وهذا الغسل سنة، فيستحب للمتوضئ أن يبدأ وضوءه بغسل كفيه ثلاث مرات في جميع الأوقات، إلا إذا قام من النوم؛ فإنه يغسلهما وجوباً ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، في حديث عبد اللَّه بن زيد، وحديث علي رضي الله عنه ، وأحاديث أخرى: أنه تمضمض، واستنشق واستنثر ثلاث مرات بثلاث غرفات، هذا السنة: يتمضمض، ويستنشق، ويستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات، وإذا اقتصر على واحدة أجزأ ذلك.
لكن الأفضل والأكمل ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، هذا هو الكمال، وإن غسل واحدة كفى؛ لأنها فرض، ثم غسل يديه: اليمنى ثلاثاً، واليسرى ثلاثاً، كما في حديث عثمان رضي الله عنه غسلهما ثلاثاً، [و] في حديث عبداللَّه بن زيد غسلهما مرتين، وذلك يدلّ على جواز الاقتصار
(1) رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، برقم 250.
على ثنتين، وجاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة» . رواه البخاري في صحيحه (1) ، وهو يدل على جواز الاقتصار على مرة، والثنتان أفضل، والثلاث هي الكمال، ثم مسح رأسه، وفي حديث عبداللَّه بن زيد مرة واحدة، وحديث عبداللَّه بن عمرو بن العاص، و [في] الأحاديث [الأخرى]: أنه مسح رأسه وأذنيه، ثم غسل رجليه: اليمنى ثلاثاً، واليسرى ثلاثاً، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: أنه غسل ذراعيه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، يعني غسل الكعبين مع الرجلين، وغسل المرفقين مع اليدين؛ فدل ذلك على أن المرافق تُغسل، وهكذا الكعبان يغسلان، وهذا هو معنى قوله جل وعلا:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (2) يعني مع المرافق، وقوله:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (3)،
يعني مع الكعبين، كما تقدم، وفي حديث عبداللَّه بن زيد أنه بدأ بمقدم رأسه عند المسح حتى ذهب إلى قفاه، ثم ردّهما إلى المكان الذي بدأ منه، هذا هو الأفضل أن يبدأ بمقدم الرأس، ثم يذهب بيديه إلى قفاه، ثم يردّهما إلى المكان الذي بدأ منه، هذا هو الأفضل، وكيفما مسح أجزأ على أي صفةٍ مسح رأسه، أجزأ بيدٍ واحدة، أو باليدين، بدأ بالمقدم، أو بالمؤخر، كله يجزئ، لكن يجب أن يعمّم الرأس على الصحيح،
(1) البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء مرة مرة، برقم 157.
(2)
سورة المائدة، الآية:6.
(3)
سورة المائدة، الآية: 6 ..
ولا يجزئ البعض على الصحيح، فالأفضل أن يبدأ بمقدمه إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، كما في حديث عبداللَّه بن زيد، ثم غسل عليه الصلاة والسلام رجليه مع الكعبين ثلاثاً، هذا هو الأفضل، وإن غسلهما واحدة، أو ثنتين أجزأه ذلك.
وقوله: وَضوء، وطَهور - بالفتح -، وهو الماء المعد للوضوء، وبالضم هو نفس الوضوء، توضأ وُضوءًا - بالضم -: وطَهُرَ طُهوراً - بالضم - هو نفس الفعل، وبالفتح نفس الماء المعدّ للوضوء.
والتور: نوع من الصُّفر، وهو يدل على جواز استعمال الأواني من الصفر كالنحاس، كما يجوز استعمال الأواني من الحديد والحجر والفخَّار، وغير ذلك، ما عدا الذهب والفضة؛ فإنه لا يجوز استعمال الأواني منهما؛ الرسول صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك، أما ما سوى ذلك، فلا بأس.
لا يجوز للمسلمين استعمال أواني الذهب والفضة، لا للرجال ولا للنساء.
وفي حديث عثمان الدلالة على شرعية صلاة ركعتين بعد الوضوء، يستحب أن يصلي ركعتين، يقبل عليهما بقلبه وقالبه، ويخشع فيهما لربه، وأن هذا من أسباب المغفرة، يتوضأ الإنسان الوضوء الشرعي، ثم يصلي ركعتين، لا يحدّث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه، هذا فضل عظيم، هذه يقال لها: صلاة سنة الوضوء، فيستحب للمؤمن إذا توضأ أن يُصلي ركعتين، يُقبل عليهما
بقلبه، وقالبه ويخشع فيهما، وأن هذا من أسباب المغفرة.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها الدلالة على أن السنة التّيامن في الوضوء وغيره، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التَّيمُّن» وفي لفظ الآخر (1): «يُحِبُّ التَّيَمُّنَ في تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ» ، أي تطهره، وفي شأنه كله، وهذا يدل على شرعية التيمن في الوضوء، والغسل، وتقدم ذلك أنه يبدأ باليمين قبل اليسار، هل هذا واجب أم لا؟ على قولين لأهل العلم:
منهم من رآه واجباً في الوضوء.
ومنهم من رآه مستحباً، وهم الجمهور.
وهكذا يستحب في الغسل، يبدأ بالشق الأيمن قبل الأيسر، وهكذا في لباسه، يستحب أن يبدأ باليمين، يدخل كمه الأيمن قبل الأيسر، في القميص، والسراويل، والبشت عند اللُبس يبدأ بالأيمن، وعند الخلع يبدأ باليسار، هذا هو الأفضل، وبالنعلين والخفين كذلك.
وفي الحديث الرابع: حديث أبي هريرة، وهو العاشر من كتاب الطهارة، الدلالة على أن هذه الأمة لها علامة يوم القيامة، وأنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، هذه علامة أمة محمد عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، يُحشرون غُرّاً محجلين من آثار الوضوء،
(1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد، برقم 426، ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم 268.
الغرة في الوجه، والتحجيل في اليدين والرجلين، أي لهم أنوار في وجوههم، وفي أيديهم، وأرجلهم من آثار الوضوء الذي فعلوه في الدنيا.
في الحديث الذي رواه مسلم: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» (1)، يحلّون بحلية مما أعدّ اللَّه لهم من الجنة إلى نهاية الوضوء مواضع الوضوء، وفي رواية مسلم: أن أبا هريرة كان يبالغ في الوضوء من أجل هذا الحديث، فكان إذا غسل يديه بالغ حتى يكاد يصل المنكبين، وهكذا في الرجلين، يبالغ في غسل الساق، يرتفع في الوضوء. وهذا الذي فعله أبو هريرة اجتهاد منه، والصواب خلاف ذلك، الصواب أنه يكتفي بغسل المرفقين والكعبين، ولا حاجة إلى أن يزيد إلى المنكب أو إلى الركبة، لا، فالسنة الاكتفاء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم يغسل الرجلين مع الكعبين واليدين مع المرافق، فلا يطول إلى المنكب أو إلى الركبة، لا، وأما قوله:«فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ فَلْيَفْعَلْ» هذا فيه اختلاف بين أهل العلم: هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرفوع، أو من كلام أبي هريرة موقوف مدرج، وقد رجَّحَ جمعٌ من الأئمة في الحديث أنه مدرج، وأنه من كلام أبي هريرة استنباطاً من الأحاديث، فلا يستحب للمؤمن أن يزيد على الوضوء الشرعي، فيغسل ذراعيه مع المرفقين، ويغسل رجليه مع الكعبين، ويكفي ذلك، فلا يُشرع له الإطالة إلى
(1) رواه مسلم، برقم 250، وتقدم تخريجه في تخريج حديث المتن رقم 12.