الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشاهد الثاني:
قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)[عبس 1- 10] ، لا خلاف في سبب نزول هذه الآية، كما لا خلاف فيمن نزلت فيه الآية، وتتشابه أقوال المفسرين في بيان ذلك، وأكتفي بما قاله الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى-:(ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب أحد عظاماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلحّ عليه، وودّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله الآية) . انتهى «1» .
ثانيا: وجه اللطف في العتاب:
وجه اللطف في هذا أن الله- سبحانه وتعالى وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم العتاب بصيغة ضمير الغائب، قال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) ، ولما انتهى العتاب وجه إليه الخطاب بصيغة المخاطب، قال- تعالى-: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)[عبس: 3]
…
إلى آخر الآيات، وهذا يدل على عظيم حب الله- سبحانه وتعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وعظيم شفقته به أن توجّه إليه كلمة تحزنه مع بيان علو منزلته عند ربه، قال الإمام القرطبي- رحمه الله:(أنزل الله على نبيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيما له، ولم يقل: عبست وتوليت ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: وَما يُدْرِيكَ) «2» .
بعض فوائد الآيات الكريمات:
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية:
1-
عناية الله- سبحانه وتعالى به صلى الله عليه وسلم ويتبين ذلك من:
أ- تربيته أحسن التربية، حيث لامه- سبحانه وتعالى في كل ما فعل مع ابن أم مكتوم رضي الله عنه، ويتضمن أمرين: الأمر الأول: في الوجه وهو العبوس، والثاني:
بالجسد كله وهو الإعراض.
(1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 471) .
(2)
انظر الجامع لأحكام القرآن (19/ 213) .
ب- لما كان توجيه العتاب قد يفهم منه وقوع النبي في التقصير في الدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى، بيّن- سبحانه وتعالى أن هذا العتاب نتج بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم حّمل نفسه ما لم يكلف شرعا وهو التصدي للكافر، قال- تعالى-: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) ، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر السهل، وهو إجابة سؤال المسلم، وتعرض للصعب، وهو دعوة الكافر للإسلام.
ج- إرادة التهوين على النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته ورفع ما يشق عليه، فبين الله عز وجل له أنه رسول ومبلغ، وليس عليه هداية الناس، إنما هذا لله وحده، قال تعالى: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) .
2-
ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من اجتهاد في تعليم الأمة حيث كان يقصده كل أحد من الناس- حتى الضرير الذي يشق عليه ذلك- ليسأله عن حاجته.
3-
صحة وقوع الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم، فيما لا وحي فيه- وأن الله عز وجل لا يقره على اجتهاد صدر منه إلى خلاف الأولى، وموضع الاجتهاد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن الاسترسال مع الكافر ومحاولة هدايته إلى الإسلام أولى من إجابة سؤال المسلم الحريص على أمر دينه، فالمسلم الذي جاء بمحض إرادته يسأل لا يخشى عليه الفتنة، فالأمر بالنسبة إليه فيه سعة.
قال الإمام القرطبي- رحمه الله: (قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله- تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة)«1» .
4-
بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئا من أمر الوحي أبدا، وأنه قد أدى أمانة تحمّل القرآن وتبليغه أحسن ما يكون، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي أو كان يسعه أن يكتم شيئا، لكتم آيات العتاب.
5-
بذل النبي صلى الله عليه وسلم غاية جهده لنشر دين الله عز وجل والدعوة إلى الإسلام، واستنقاذ البشر من الكفر والضلال، ولو تعرض في سبيل ذلك لأبلغ الأذى المادي والمعنوي، المادي: كما حدث له صلى الله عليه وسلم في الطائف، أما المعنوي: لما عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل، وفي الحادثة التي معنا التي تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصدى للكفار، وقيل: معنى يتصدى أي:
يتعرض لهم كما يتعرض العطشان للماء، وانظر كيف كان حاله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (19/ 213) .