الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصوت العالي فيها، لأهل الزيغ والضلال، لأن عندهم شبهات كثيرة، وانظر مثلا إلى الشيخ/ أحمد ديدات رحمه الله، عندما حاور وجادل في أصول الشريعة، كيف كانت له الغلبة والنصر في كل الأحيان، وذلك لأن له في تلك المناظرات دليلا وبرهانا من الكتاب والسنة، ومن الحديث الذي بين أيدينا نعلم إن كان المجادل يريد الحق أم يريد أن يثير الشبهات؟!
الفائدة الحادية عشرة:
لماذا إذن لم يعلن هرقل إسلامه بعد كل تلك الأسئلة وما ذكرته من إرادته الحق؟ أقول: إن هرقل وبلا أدنى شك علم بهذه الأسئلة صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه النبي المنتظر ولكن منعه حبّ الملك عن الدخول في الإسلام. قال الإمام النووي رحمه الله: (ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح في الملك، ورغب في الرياسة، فاثرها على الإسلام وقد جاء ذلك مصرحا به في صحيح البخاري: (ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة)«1» . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (لو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أرسل إليه: (أسلم تسلم) وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه) «2» .
الفائدة الثانية عشرة:
في الحديث ذم الكذب، وأنه عادة سيئة وطريقة مشينة، يستقبحها الكفار، فهذا أبو سفيان رضي الله عنه، وهو كافر عدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل عنه من رجل يقال عنه: عظيم الروم، ويود ألايرتفع للإسلام راية، وأصحابه معه كلهم على دينه، ويبغضون الإسلام ويكرهون نبيه صلى الله عليه وسلم، ومع كل هذا لا يستطيع أبو سفيان أن يكذب ولو مرة واحدة على هرقل، هو لا يخاف أن يكذبه قومه في مجلس هرقل، بل كان يخاف فقط أن يأثروا عليه الكذب عندما يعودون إلى مكة، قال الإمام ابن حجر:(وفي قوله: يأثروا دون قوله: يكذبوا، دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا) . انتهى «3» .
وأقول: لم يستطع أبو سفيان أن يدخل كلمة واحدة كذبا في حديثه، إلا في إجابته عن سؤال هرقل، هل يغدر؟ فكانت إجابته:(نحن معه في مدة- أي هدنة- لا ندري ما هو صانع فيها) . أي: لا نعلم أيحفظ ويصون العهد أم لا؟ وهذا في الحقيقة كذب؛ لأنه على
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) .
(2)
فتح الباري (1/ 38) .
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) .
يقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يغدر، وليس من خلقه الغدر، ولكن لا أحد من أصحابه يمكن أن يأخذها عليه كذبة، لأن ما في الغيب لا يعلمه إلا الله، وإذا حكم الإنسان عما في الغيب بقوله: لا أدري، فليس بكذب صريح، قال الإمام ابن حجر:(ولما كان الأمر مغيبا- لأنه مستقبل- أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده بالتردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه) .
وما كان هذا التفصيل مني في هذا الأمر إلا لأبين شناعة الكذب، فكيف يتنزه الكفار قبل الإسلام عن الكذب، ويقع فيه المسلمون دون مواربة ولا مداراة من الصغير والكبير، من الرجل والمرأة، من طلبة العلم أحيانا والعوام في أغلب الأحيان، يكذب الرجل لا لشيء إلا أنه اعتاد الكذب، يتكلم الرجل ولا يبالي أكاذب هو أم صادق، يكذب الرجل أمام زوجته وأولاده، دون أدنى درجات الحياء منهم، يتكلم الرجل في المجلس ويكذب ويعلم أن كل من في المجلس يعلمون كذبه ولا يبالي، الأدهى من ذلك أنهم لا يعيرونه بكذبه، وقد يقبلون شهادته بعد ذلك، والأعظم والأدهى، أن الرجل يكذب، ولو استحلف على صدق كلامه ما استحيا من الله- عز وجل بل أكد كلامه بأغلظ الأيمان، لا يبالي بغضب الله وسخطه.
ولا يتسع المجال أن أستفيض في شناعة هذه الخصلة الحقيرة، إلا أني سأذكر كلمات قليلة جدّا للترغيب في الصدق، وتشنيع أمر الكذب، فأقول: كيف يكذب المسلم ولا يصدق في كلامه؟ وقد رأى في الحديث أن الكافر لا يكذب، أيصدق الكافر ويكذب المسلم؟ أقول: كيف يكذب المسلم ولا يتحرى الصدق وقد ورد في الصحيح عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصّدق فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . كيف يكذب المسلم وقد رأى ما أحدثه الكذب بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعة الإفك؟ ويكفي أن الكذب قد آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يصدق المسلم وقد رأى فضل الصدق على الذين خلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فنجّاهم الصدق، بل رفعهم وهم الذين ارتكبوا معصية بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: إن الصدق رفعهم حتى أنزل فيهم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، ما كان ذلك إلا لصدقهم، بل إن هرقل في هذا الحديث قد استدل على صدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم