الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله» . ثمّ قال: لعليّ: «امح رسول الله» ، قال: لا والله لا أمحوك أبدا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله) «1» .
هذه الواقعة حدثت في صلح الحديبية، عام ستة من الهجرة، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ذهبوا إلى مكة معتمرين، فأبى أهل مكة، أن يدعوه يعتمر، وكانوا يريدون قتاله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الهدنة، وبعد عدة مفاوضات اشتركت فيها طائفة من كفار مكة، أتى إليه سهيل بن عمرو، من عسكر المشركين ليعقد الصلح مع المسلمين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي على كاتبه، وكان سهيل بن عمرو يعترض على كتابة ما لم يؤمن به في المعاهدة، فكان مما اعترض عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أول المعاهدة، بسم الله الرحمن الرحيم، وقال:(أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب) . ثم اعترض أيضا على كتابة: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) . وقال: (والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله) . واشترط الكفار في المعاهدة عدم دخول المسلمين البيت من عامهم هذا معتمرين، ولكن يحلون إحرامهم، ويقيمون بمكة ثلاثة أيام، ثم يأتون العام المقبل لأداء العمرة (عمرة القضاء) ، كما اشترط المشركون، ألا يأتي منهم رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ردّه إليهم ولو كان مسلما، قال سهيل:(وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا) . وقد وافق النبي صلى الله عليه وسلم على كل شروط المشركين في المعاهدة، وذلك لقوله، صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» «2» .
الشاهد في الحديث:
قول علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمره أن يمحو لفظ (رسول الله) بناء على طلب سهيل بن عمرو، قال علي:(لا والله لا أمحوك أبدا) . ووجه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس الصحابة في هذه الواقعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر عليّا أن يمحو لفظ (رسول الله) ، ومع ذلك ما استطاع عليّ أن يفعل ذلك، تعظيما للفظ، رسول الله، وهو لن يمحو اللفظ من قلبه، ولا من قلوب الناس، ولن يمحو واقعا، بل سيمحوه من السطور فقط، فهل المحو من السطور يقدّم أو يؤخر، مع أن الله. تبارك وتعالى. عذرهم فيما هو أعظم من ذلك بمراحل عظيمة، وهو النطق بكلمة الكفر مرغمين، طالما كان القلب مطمئنا بالإيمان، ومع ذلك ما استطاع،
(1) البخاري، كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، برقم (2700) .
(2)
البخاري، كتاب: الشروط، باب: في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، برقم (2734)
وأقول: لماذا لم يستطع؟ هل- كما ذكرت- تعظيما لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، أم خوفا على يديه أن تمحى منها البركة كما محت لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أم خاف أن يلوم نفسه يوما من الأيام على إقدامه على هذه الفعلة أو حتى يلومه غيره، أم أنه خاف من كل تلك العواقب، كما أقول: لماذا لم يعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على قسمه بالله ألا يفعل ما أمره به؟ هل لأن الأمر لم يكن للوجوب، وهذا أستبعده لعدم وجود دليل عليه، أم لعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفيذ مثل هذا الأمر كان فوق طاقة علي رضي الله عنه النفسية ومن القواعد المقررة في الشرع، أن الله. سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهل وازن علي رضي الله عنه، قبل أن يرد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بين رد الأمر، والمحو، فوجد أن المحو أعظم من رد الأمر، كل ذلك علمه عند الله. سبحانه وتعالى. ولكن ما يهمنا في الأمر، هو استشعار تعظيم هؤلاء الأصحاب، للنبي صلى الله عليه وسلم. فوجه التعظيم الذي أردت أن أبينه في هذا الباب، لم أستدل عليه، من كونهم كانوا يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه صلى الله عليه وسلم وإنما استدللت عليه من كونهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يكون ظاهره أو صورته فقط توهم بسوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم أو أن صورة الأمر ستكون مخالفة لما يشعرون به في نفوسهم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أبلغ في تقريب الصورة للقارئ.
فتدبر أخي القارئ، كيف أبى أبو بكر الصديق أن يصلي إماما للرسول صلى الله عليه وسلم رغم أنه هو الذي أمره، وكيف شق على أبي أيوب أن يسكن في العلو والنبي صلى الله عليه وسلم يسكن في السّفل، ويقول مستعظما الأمر:(أنمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم . بالإضافة إلى الأنصاري الذي غضب غضبا شديدا من اليهودي لما قال: (والله الذي اصطفى موسى على البشر) . أضف إلى ذلك ما مر من أمر الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه ما كان يستطيع أن يملأ عينه من النبي صلى الله عليه وسلم ولو سأل أن يصفه ما استطاع؛ إجلالا وإكبارا له صلى الله عليه وسلم.
ونأخذ أمثلة أخرى لهذا الإجلال والإكبار، وردت في قصة، صلح الحديبية، كما رواها البخاري:
1-
لما قال عروة بن مسعود، وهو مفاوض آخر من عسكر كفار مكة، للنبي صلى الله عليه وسلم:
(فإني والله لأرى وجوها أوشابا- أي أخلاطا- خليقا أن يفروا ويدعوك) ، غضب أبو بكر غضبا شديدا، ورد عليه قائلا:(امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه) ، والبظر قطعة بين جانبي فرج المرأة، وكان من عادة العرب أن يقولوا لمن يسبونه أو يشتمونه: امصص بظر أمه، فاستعار أبو بكر رضي الله عنه باللات لتعظيمهم إياها بقصد المبالغة في سبه.
2-
كان عروة بن مسعود كلما كلم النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بلحيته، فماذا فعل الصحابي