الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشاهد في الحديث:
هو قول ضماد: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في النبي صلى الله عليه وسلم:
1-
تعظيم الصحابي الجليل، ابن عباس- رضي الله عنهما لشأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف من تكلم في النبي صلى الله عليه وسلم بالسفه؛ لقوله:«فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون» وهذا الذي اعتقده الصحابي، صدق وعدل، فإن كل من يتكلم عن الرسول بما ينقصه، فهو سفيه، لأنه لم يميز بين ما ينفعه وما يضره، ولم يميز بين الحق الذي جاء به الأنبياء، والباطل الذي وجد عليه الآباء، فهو سفيه لأنه لو كان عنده مسحة عقل، لآمن واتبع، وقدّم الباقي على الفاني، واشترى أخراه بدنياه، ولو كان عنده عقل، لتدبر وتفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، في صدقه، وأمانته، وتقواه، ونصحه، وجوامع كلمه، وعظمة القرآن الذي أنزل عليه، فعلم- بواحدة من هؤلاء- أنه نبي حقّا وأنه ليس بمجنون.
وعلينا جميعا أن نعتقد سفه من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو أعطي من العقل أكمله فيما يرى الناس؛ لأن العقل إذا لم يدل صاحبه لما خلق له، وهو التوحيد والاتباع، كان هذا العقل في حكم العدم، وقد حكم الله عز وجل على من لم يؤمن بعدم وجود العقل، مع أننا نرى منه فيما نظن، أنه أعقل الناس، قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179] .
2-
بيان ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، وعظيم البيان، وحلاوة المنطق، ورصانة القول، إذ إن ضمادا لما سمع منه خطبة الحاجة، ولم يسمع منه أكثر من ذلك، قال:
«فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر» ؛ أي: وسط البحر ولجته، مع أن ضمادا رضى الله عنه، سمع من كل الطوائف ولكنه علم أن كلام النبوة له طابع خاص يختلف تماما عن كلام الناس جميعا، ولو أن أحدا من الناس تكلم بمثل هذا الكلام من قبل، أو يمكن أن يتكلم به من بعد، ما حكم ضماد بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، لهو من أعظم الأدلة على نبوته صلى الله عليه وسلم، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
3-
حسن ثنائه على الله عز وجل، وتأدبه الجم مع مقام الألوهية، والإقرار أنه- سبحانه وتعالى، المتصرف في كل شيء؛ حيث تضمنت خطبة الحاجة ما يلي:
أ- إثبات أن الحمد كله لله- سبحانه وتعالى، واللام في لفظ (لله) ، هي للاختصاص، والحمد هو الثناء على الله بكل صفات الكمال والجمال، ونفي كل صفات النقص ومشابهة الخلق، فالثناء على الله، كان سببه، أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
والثناء كان سببه أيضا، أن له الأسماء الحسنى والصفات العلا. ومعناه، أنه قد تنزه عن النوم والأكل والشرب واتخاذ المعين والناصر والولي من الذل. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال:
«إن الحمد لله» ، ذكر كل ذلك، وما من أحد يحب الثناء عليه، مثل حب الله له، لما رواه البخاري، عن عبد الله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ما من أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرّم الفواحش، وما أحد أحبّ إليه المدح من الله» «1» .
ب- إثبات أن الله- سبحانه وتعالى هو المستعان على قضاء الأمور، ودفع الكروب. وفي الاستعانة بالله عز وجل، إعلان لضعف العبد؛ لأنه لا يطلب الاستعانة إلا من رأى ضعف نفسه، وأنه لا حول له ولا قوة، كما أنه لا يطلب الاستعانة إلا من قوي قادر على قضاء الحاجات، عليم سميع، يعلم ويسمع لمن استعان به، كما أننا لا نطلب الاستعانة إلا ممن نحسن الظن به، أنه يرحم من يدعوه، ويعطي من يرجوه، نحسن الظن به، أنه لا يخذل من استجار به، ولا يرد من استعان به، كما نحسن الظن به، من حيث إنه لا يعجزه أي شيء، ويقدر على كل شيء، فالاستعانة، هي الخروج من حول الإنسان وقوته، إلى حول الله وقوته، وهي إعلان غاية الضعف والعجز في مقابل غاية القوة والقدرة.
والحاصل أن الاستعانة هي من أعظم مظاهر التعبد لله، التي تحققت كلها، في شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
ج- إثبات أن الهداية- وهي أعظم النعم- بيد الله وحده، وكذا الضلالة، وأنه لا أحد ينازع الله- سبحانه وتعالى في ذلك، فإن الله إذا أراد الهداية لأحد، فلن يمنع وصولها أو حجبها عنه أهل السماوات والأرض، وكذا إذا أراد أن يضل أحدا، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» ، وفي هذا تعليم للأمة، أن على العبد
(1) رواه البخاري، كتاب: النكاح، باب: الغيرة برقم (5220) .
دائما أن يطلب الهداية والتوفيق والثبات من الله تعالى، كما يسأله أن يجنبه كل أسباب الضلالة والغواية.
ويتفرع على ذلك: إثبات ضعف أهل السماوات والأرض، فإذا كانوا لا يستطيعون أن يهدوا أحدا، ولا يستطيعون أن يضلوا أحدا، فمن باب أولى لا يستطيعون أن ينفعوا أحدا أو يضروه، وكذا في أبواب الرزق والإحياء والإماتة، فكل ذلك لا يطلب إلا من الله وحده، القادر عليه.
وقد يسأل سائل: لماذا هدى الله هذا وحجب الهداية عن ذاك؟
فأقول: إن مشيئة الله- سبحانه وتعالى النافذة في عباده، تدور بين الفضل والعدل، فهداية العبد من تمام فضله، وضلاله من كمال عدله، والإنسان الذي يقبل بقلبه وعقله على الله عز وجل، يسلّم بحكمة الله في كل شيء، ولن يرد عليه هذا السؤال أصلا، وإذا ورد تذكر قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فدفع بهذه الآية كل وسواس، وردّ بها كل شيطان.
د- مراعاة الأدب مع مقام الألوهية، حيث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الهداية نسبها إلى الله، قال:«من يهده الله فلا مضل له» ، ولما ذكر الضلالة، لم يذكر لفظ الجلالة تأدبا مع الله، فقال:«ومن يضلل فلا هادي له» فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد راعى كمال الأدب مع الله، حتى في الأمور الثابتة لله، فيجب علينا من باب أولى، عدم إضافة أو إثبات أي أمر من الأمور لله إلا بدليل صحيح وصريح، خاصة في الأسماء والصفات وما يختص بالقضاء والقدر، وجميع الغيبيات التي لا تعلم إلا من الكتاب والسنة.
وكذا التأدب مع الله عز وجل في حديث بعضنا مع بعض، فلا نذكره- سبحانه وتعالى، في النكات والقفشات، ولا نكثر من القسم باسمه، في الجد والهزل، ولا نذكر اسمه تبارك وتعالى إلا باستحضار الخوف والرهبة والخشية، فالمذكور- جل فى علاه- عظيم الشأن رفيع القدر.
قال- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] كما أن من عظيم أدبه مع الله- تبارك وتعالى أنه لما نطق بالجزء الثاني من الشهادة، وهو قوله:«وأن محمدا عبده ورسوله» راعى أمرين عظيمين؛ وهما:
- الأول: أنه أثبت لنفسه صفة العبودية، قبل مقام الرسالة، ليعلم الخلق أجمعين بعظيم صفة العبودية لله عز وجل، وأنها مقدمة على مقام الرسالة، وإذا كانت صفة الرسالة لم تتحقق إلا لبعض البشر فإن تحقيق صفة العبودية لله، متاح للبشر أجمعين، يتنافسون فيها.
كما نلمح من تقديم العبودية، إقرار النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله قد امتن عليه بالرسالة، لأنه حقق كمال العبودية، وأنه مهما بلغ من الدرجات العاليات في الدنيا والآخرة، ومهما تحقق على يديه من المعجزات الباهرات، فإنه لن يخرج من مقام العبودية لله- سبحانه وتعالى ولن ينازع الله- سبحانه وتعالى في أمر من أموره، وانظر كيف أثبت لله الحمد والثناء والاستعانة والهداية والإضلال، وفي المقابل أثبت لنفسه أنه عبد الله ورسوله وكم تحمل لفظة العبد، من الذل والخضوع والاستكانة والافتقار، للمعبود- تبارك وتعالى.
الثاني: أنه انسلخ من نفسه، فلم يأت بالشهادة بصيغة المتكلم بأن قال:«وأني عبده ورسوله» وذلك لأمرين:
أولهما: ألايرى نفسه ولا يذكرها، بعد ذكره للخالق الباري المنعم عليه بكل فضل، وهذا نهاية الأدب والتواضع.
ثانيهما: الإشعار بأنه ينطق بالشهادة امتثالا لأمر الله- سبحانه وتعالى، فكأنه يتكلم عن آخر، ولا يتكلم عن نفسه، وكأنه مأمور كبقية العباد، أن يشهد أن محمدا عبده ورسوله، وهذا نهاية الطاعة والامتثال.
هـ- إثبات وحدانية الله- سبحانه وتعالى وأنه لا معبود بحق إلا هو، وأنه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في حكمه، حيث إن قوله:«لا شريك له» نفي لكل أنواع الشركاء، كما أن قوله:«لا إله إلا الله» نفي لكل أنواع الآلهة وإثبات لألوهية الله وحده، وتوسط لفظ «وحده» لتوكيد عدم وجود الآلهة، أو الشركاء، سبحان الذي تفرد بالخلق كله، والأمر كله، والحكم كله، فلا نعبد إلا إياه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نثق إلا به، ولا نتوجه إلا إليه. وقد جاءت كلمة التوحيد في الحديث، كالدليل على كل ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، لله عز وجل، وليعلمنا أن الحمد والاستعانة والهداية لا تكون إلا لله الذي لا إله إلا هو، فمن أثبت لله هذه الأمور، فقد جاء توحيده كاملا لا نقص فيه، مستقيما لا عوج فيه، ومن باب مفهوم المخالفة، أن من أتى بما يناقض الحمد والثناء أو الاستعانة بالله وحده، أو أثبت التصرف في ملك الله لأحد سوى الله، فقد ناقض كلمة التوحيد.