الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- حرصها رضي الله عنها على أخذ كل ما يخرج من النبي صلى الله عليه وسلم من عرق، وألا يفوتها شيء منه، رغم أن الأمر كان يتكرر في بيتها، ففي الحديث:(فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها) . ولفظ «تعصره» يوحي بحرصها على تجميع كل نقطة عرق.
ج- من أجلّ مظاهر تعظيمها رضي الله عنها لعرق النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تحفظ ذلك العرق في عتيدتها، وهو الصندوق المعد لحفظ المتاع النفيس، ومما يدل على أن هذا الصندوق كانت تحافظ عليه مغلقا حرصا على ما فيه قول الراوي:(ففتحت عتيدتها) . فالفارق بيننا وبينهم شاسع، كالفارق بين الثرى والثريا، خزائنهم يحفظون فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم وخزائننا نحفظ فيها الورق والذهب.
2-
نوم النبي صلى الله عليه وسلم على فراشها، الذي هو في بيتها، وأي منقبة يمكن أن يحوزها أي صحابي، أعظم من تلك المنقبة، ولا أدري كيف كان شعورها إذا أوت بالليل لتنام على فراش نام عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولامس جسده ذلك الفراش.
3-
ادخارها رضي الله عنها، عرق الرسول صلى الله عليه وسلم لتداوي به أعز ما تملك وهم صبيانها، قالت:
(نرجو بركته لصبياننا) .
4-
لم يكن هذا التعظيم لآثار النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أم سليم وحدها، بل كان من قبل أنس بن مالك، رضي الله عنه؛ إذا أوصى عند موته أن يجعل في حنوطه، وهو العطر الذي يطيب به الميت، من الطيب الذي كان يخلط به عرق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعند البخاري من حديث ثمامة:(فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليّ أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، قال: فجعل في حنوطه) ، ولولا أن الأمر كان يشغله ويهتم به في أوقات صحته، ما تذكره يوم وفاته رضي الله عنه. وتدبر أخي القارئ كم مكث هذا الطيب عقودا طويلة عند أنس رضي الله عنه حتى مات.
سابعا: التبرك بأثر قدحه الذي شرب فيه صلى الله عليه وسلم
عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ حتّى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثمّ قال: «اسقنا يا سهل» . فخرجت لهم بهذا القدح، فأسقيتهم فيه فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه. قال: ثمّ استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له)«1» .
(1) البخاري، كتاب: الأشربة، باب: الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم، برقم:(5637) ، مسلم، كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد
…
، برقم (2007) .
في الحديث بيان ما كان عليه الصحابة والتابعون من تعظيم آثار النبي صلى الله عليه وسلم والحرص على اقتنائها والتبرك بها، ويظهر ذلك من الأمور التالية:
1-
احتفاظ سهل بن سعد رضي الله عنه بالقدح الذي شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه المدة الطويلة، وما يتصور أن قدحا يبقى مثل تلك الفترة الزمنية الطويلة إلا إذا حافظ عليه صاحبه أشد المحافظة.
2-
الظاهر من الحديث- والله أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرب من هذا القدح إلا مرة واحدة، عند ما نزل سقيفة بني ساعدة، ورد في الحديث على لسان سهل بن سعد:
(فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه) ، ولو تكرر شرب النبي صلى الله عليه وسلم فيه أكثر من مرة لحرص سهل أن يذكر ذلك، وهذا يدل على تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لآثار النبي صلى الله عليه وسلم والحرص على التبرك بها والمحافظة عليها بأقل مماسة أو ملامسة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قدح لم يشرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة ويكون كل ذلك الحرص عليه.
3-
حرص الصحابة على إعلام التابعين باثار النبي صلى الله عليه وسلم، بل وحرصهم أيضا على أن ينال التابعون شرف ملامسة تلك الآثار وبركتها، لأن أبا حازم راوي الحديث ما علم أن القدح الذي شرب فيه عند سهل بن سعد هو نفسه الذي شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإخبار سهل له، بل يمكن أن يقال: إن سهلا رضي الله عنه كان من حفاوته بضيوفه وحرصه على حسن ضيافتهم أنه كان يسقيهم من هذا القدح المبارك.
4-
حرص التابعين على اقتناء آثار النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى- يسأل سهلا أن يهب له القدح الذي شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعل ذلك إلا حرصا منه على أن ينال بركة ملامسة ما لامسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده وفمه، وقد فعل ذلك الخليفة الصالح وهو الذي يعلم كراهة سؤال الغير، ولكن إذا كان الأمر يتعلق باثار النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج عندهم، فكأن هذا الخليفة الراشد استطاع أن يزهد في الدنيا وزينتها، ولكن لم يستطع أن يزهد في قدح شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الحديث:(ثم استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز فوهبه له) .
5-
وإن تعجب أخي القارئ مما ذكر، فالعجب كل العجب هو اعتقاد الصحابة الجازم ومن تابعهم أن بركة النبي صلى الله عليه وسلم التي حلت في القدح الذي شرب فيه مرة واحدة تبقى فيه فلا تذهب بكثرة الشاربين والملامسين لهذا القدح وبطول المدة التي تبقى فيها القدح.
وانتقال القدح من الصحابة إلى التابعين هو من جنس ما ذكر في باب: (التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم ، فقد توارث الصحابة والتابعين شعرة واحدة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأختم بما قاله الإمام النووي- رحمه الله (في الحديث التبرك باثار النبي صلى الله عليه وسلم وما مسه أو لبسه أو كان منه فيه سبب، وهذا نحو ما أجمعوا عليه وأطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، ومن هذا إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أبا طلحة شعره ليقسمه بين الناس، وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم حقوه تكفن فيه بنته رضي الله عنها، وجعله الجريدتين على القبرين، وجمعت بنت ملحان عرقه صلى الله عليه وسلم وتمسحوا بوضوئه صلى الله عليه وسلم ودلكوا وجوههم بنخامته، وأشباه هذه كثيرة مشهورة في الصحيح، وكل ذلك واضح لا شك فيه)«1» .
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، (13/ 179) .