الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
أبلغ مظاهر هذا التحريم جاءت في ختام الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53]، وفيها:
أ- بدأت بأداة التوكيد (إن) لتوكيد أمر التحريم عند الله لدى السامع.
ب- الفعل الماضي (كان) أفادنا بتحقق هذا التحريم وثبوته.
ج- قوله: عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] أفادنا أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو التزوج من أزواجه قد بلغ المنتهى في التحريم، وأن الله- سبحانه وتعالى يغضب لهذا أشد الغضب بمقتضى كونه عظيما عنده؛ ولذلك فلا غرابة فيما نقله القرطبي عن الإمام الشافعي- رحمهما الله تعالى- قال:(وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن ومن استحل ذلك كان كافرا)«1» .
فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
تحريم فعل ما فيه أدنى إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان هذا الإيذاء بسبب إضافة ما لا يليق إلى شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم، أو لشرعه المطهر، أو لسنته الشريفة، أو لأهل بيته الكرام الميامين، أو لأحد من أصحابه، فكل ذلك في الإيذاء سواء، ودليله أن الآية نهت عن مطلق إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم دون تقييد بإيذاء مباشر أو غير مباشر، أو إيذاء صغير أو كبير، وذكرت الآية أن هذا الإيذاء- المطلق- هو أمر عظيم عند الله.
الفائدة الثانية:
في حكمة هذا التحريم الأبدي للزواج من أمهات المؤمنين، ذكر العلماء أسبابا لهذا التحريم، نورد بعضها:
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (اجتمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين)«2» .
وقال الإمام القرطبي- رحمه الله: (حرّم الله نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم من بعده، وجعل لهن حكم أمهات المؤمنين، وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلى الله عليه وسلم ، وأضاف قائلا: (وإنما منع من التزوج بزوجاته لأنهن أزواجه في الجنة وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها)«3» .
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) .
(2)
انظر تفسير ابن كثير (3/ 507) .
(3)
انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) .
وقال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى-: (هذا من جملة ما يؤذيه فإنه صلى الله عليه وسلم له مقام التعظيم والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته بعده يخل بهذا المقام، وأيضا فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته؛ فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته)«1» .
ما أجمل ما قاله الإمام القرطبي حيث قال ما نصه: (وإنما جعل الموت في حقه لهن بمنزلة المغيب في حق غيره كونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس)«2» .
وأضيف أن من الحكم الجليلة لهذا التحريم:
1-
أن أي بيت من البيوت لا يخلو أبدا من الخلافات الزوجية، والتي يحدث فيها أن يرفع الرجل صوته على زوجته أو يوبخها، بل قد يصل الأمر إلى ضربها وهجرها، وهذا قطعا لو تصوّر حدوثه لإحدى أمهات المؤمنين فإنه يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يفلح رجل آذى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا كان هذا الإيذاء في أهل بيته.
2-
أعتقد أن من الحكمة الشرعية تحريم مثل هذا الزواج لأنه- كما نقول في كلامنا الدارج- أنّ نسب فشل مثل هذا الزواج أكبر من نسب نجاحه، بل إنه سيكون زواجا محكوما عليه بالفشل، وذلك لاستحالة وجود رجل مهما بلغ من الحكمة والقوة والدين أن يرضي امرأة عاشت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورأت منه ما رأت من الكمال والجمال في كل شيء، فلن يمر موقف أو حادث إلا وقارنت بين زوجها وبين ما كانت ترى من النبي صلى الله عليه وسلم، وستكون نتيجة المقارنة أنها لن ترضى من زوجها شيئا، وستسخط عليه في كل شيء، فشتان بين اثنين أحدهما: مشرع متبوع ظهر فضله وسيادته على الناس كلهم جميعا، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: مشرّع له تابع مفضول بأنبياء وأولياء، وإذا كان هذا هو حال الرجلين، فهل من الأدب أن يحل الأدنى مكان الأكمل؟!
3-
إذا كان من الشروط التي يجب مراعاتها عند الزواج- وهي الضمان الأكبر لنجاح الزواج- هو إعمال مبدأ التكافؤ بين الرجل والمرأة، فأين الرجل الكفؤ لامرأة تزوجت من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فكانت تفضي إليه ويفضي إليها.
فالحمد لله الذي وافق هذا الحكم الإلهي- وهو تحريم الزواج من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن النقل والعقل.
(1) انظر تفسير السعدى (1/ 671) .
(2)
انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) .