الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الصحابة رضي الله عنهم وحكى الإمام أبوبكر الصيرفي «1» في شرحه لرسالة الشافعي- رحمهما الله- أنه روي عن أكثر من ستين صحابيّا مرفوعا وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن منده «2» عدد من رواه فبلغ بهم سبعة وثمانين ثم قال وغيرهم، وذكر بعض الحفاظ أنه روى عن اثنين وستين صحابيّا وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، قال: ولا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة إلا هذا ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيّا إلا هذا، وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة) «3» .
وأقول: إن تواتر هذا الحديث لهو أدل دليل على إرادة الله- سبحانه وتعالى تعظيم أمر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم باشتهار هذا الحديث وتواتره مثل هذا التواتر العجيب، من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عصرنا هذا، كما يدلنا هذا التواتر على بالغ عناية الصحابة بهذا الحديث لأن فيه حفظ سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: مظاهر تعظيم الحديث للكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم:
باستقراء روايات الحديث الصحيحة والتي وردت في صحيحي البخاري ومسلم والوقوف على ألفاظها يتبين لنا ما في هذا الحديث من التخويف الشديد والوعيد الأكيد بحق من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:
1-
الحكم باستواء عقوبة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان الراوي يدعي السماع يقظة من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه أو التابعين، أو يدعي أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مناما، وذلك لما ورد في البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«سمّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، ومن راني في المنام فقد راني، فإنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» «4» . فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر عقوبة الكذب بعد أن ذكر رؤيته في المنام، قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله تعالى--: (ختم البخاري الباب بحديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه سواء كانت دعوى السماع منه في
(1) هو محمد بن بدر الصيرفي، أبوبكر، من موالي بني كنانة: قاض، فقيه. ولي القضاء بمصر ثلاث مرات. وتوفي بها وهو على القضاء، عام (330 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (6/ 51) .
(2)
هو عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق، ابن منده العبدي الأصبهاني، أبو القاسم: حافظ، مؤرخ جليل القدر، واسع الرواية، توفي في أصبهان، عام (470 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (3/ 327) .
(3)
انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 68) .
(4)
البخاري، كتاب: الأداب، باب: من سمى بأسماء الأنبياء، برقم (6197) .
اليقظة أو في المنام. وهذا مما يعظّم أمر التحريم جدّا) «1» .
2-
المباينة الشديدة بين الكذب عليه صلى الله عليه وسلم والكذب على غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد» ، فإذا كان الكذب على الناس مذموما شرعا، وهو من كبائر الذنوب، التي تفضي إلى الفجور ثم إلى النار، لما ثبت عند مسلم، عن عبد الله رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكون صدّيقا، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» «2» .
وهو إحدى علامات المنافق، لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«اية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» «3» . فإذا كان الكذب على الناس يؤدي بصاحبه إلى النار، فكيف الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا كان الكذب على الخلق من علامات المنافق فما بالكم بالكذب على سيد الخلق، ولتقريب الصورة أكثر وأكثر إلى ذهن القارئ، فإني أقول: إذا كان أبو سفيان رضي الله عنه قد استقبح- قبل إسلامه- أن يكذب على كافر- وهو هرقل عظيم الروم- في شأن عدو لهما- وهو النبي صلى الله عليه وسلم وخاف أن يجلب له هذا الكذب المعرة، فكيف لا يستقبح المسلم أن يكذب على صاحب أعظم منة وفضل عليه من البشر، وهو النبي صلى الله عليه وسلم أما يخشى المعرة في الدنيا والآخرة؟!، أما يخشى العقوبة الشديدة التي وردت في الحديث، أما يستحي من الله- تبارك وتعالى أن يكذب في دينه وشرعه.
وللتذكرة فإني أقول: إن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يدخل قطعا في الكذب على الله تبارك وتعالى، من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا مبلغ عن ربه تبارك وتعالى، والذي يتقول عليه، فكأنما يتقول على الله، لأن لسان حاله يقول: (إن الذي أدعيه من القول وأنسبه للنبي صلى الله عليه وسلم هو وحي من الله تعالى أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم . فادعى أن كلام البشر الناقص الذي يفتقر إلى كمال الحكمة والبيان هو من كلام النبوة الموافق لعظيم الحكمة وجميل البيان، قال- تعالى-: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
(1) انظر «فتح الباري» (1/ 202- 203) .
(2)
مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، برقم (2607) .
(3)
البخاري، كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ برقم (6095) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، برقم (59) .