الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى) . انتهى.
وقد ذكرت في باب «تربية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق» أن المقصود بالحكمة في قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً
(34)
[الأحزاب: 34] ، أنها السنة الشريفة.
الفائدة الثّالثة:
يؤخذ من الآيتين الكريمتين، استحالة وجود تعارض أو تناقض بين القرآن الكريم والسنة الشريفة، أو تعارض بين القرآن والقرآن، أو بين السنة والسنة، إذ كلها وحي من الله- تبارك وتعالى، ويستحيل أن يتكلم الله بما فيه التعارض، قال تعالى-: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)[النساء: 82] ، ووجود شبهة التعارض عند الإنسان، قد يرجع إلى قلة علمه، خاصة بالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والخاص والعام، أو لقلة الفهم، فقد يكون الإنسان عالما، وليس لديه حاسة التدبر والاستنباط والتوفيق بين ما ظاهره التعارض، وقد فرق الله- سبحانه وتعالى بين العلم والفهم في قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 79] ، وإثبات ملكة الفهم من السنة، نستشهد عليه بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال:(قلت لعليّ رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلّا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما أعلمه إلّا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصّحيفة. قلت: وما في الصّحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألايقتل مسلم بكافر)«1» . وقد يرجع شبهة التعارض والتناقض إلى سوء القصد واتباع الهوى.
4- تزكية بصره صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ، هذه الآية الكريمة من أعظم الآيات التي تدلل على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم عامة ورفيع أدبه خاصة، ولو لم يكن في القرآن ولا في السنة غير هذه الآية في ذكر خلق النبي صلى الله عليه وسلم لكفته صلى الله عليه وسلم فخرا، وللأسف الشديد قد يمر المسلم عليها ويقرأها كثيرا ولا يستشعر ما فيها من كريم خلقه صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية وردت في معرض ذكر حادثة المعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة ثم إلى سدرة المنتهى ثم إلى ما شاء الله تعالى، وبالرغم أن من جملة حكم هذه الحادثة هو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه الكبرى قال تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
(1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، برقم (3047) .
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] إلا أنه صلى الله عليه وسلم من كمال أدبه ورفيع خلقه لم يلتفت يمنة أو يسرة للنظر في هذا الملكوت العظيم، والذي ليس به موضع شبر واحد، إلا وفيه آية من آيات الرب- تبارك وتعالى، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يمتد بصره إلا لما أذن الله له أن يرى، ولن يستطيع أحد مهما أوتي من علم وحكمة أن يتصور مثل هذا الخلق الرفيع أو يقيمه أو يقدره، وليس هذا من باب المبالغة، والسبب في ذلك أن أحدا منا لن يستطيع أن يتصور بعقله عظيم ملكوت الله وما به من آيات كبيرة، والتي استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بخلقه أن يقصر نظره عنها، فهو خلق عظيم يتناسب مع ما في ملك الله من آيات، فهل بعد هذا الخلق من خلق.
وتصور أخي القارئ أنك دخلت قصرا لملك من ملوك الدنيا تعلم أن فيه ما لم تره عينك ولم تسمع به أذنك ولم يخطر من قبل على قلبك، فكم من أدب تحتاج أن يكون معك حتى لا تنظر يمنة أو يسرة، وشتان شتان بين ما عند الله- تبارك وتعالى من آيات وما عند الملوك، والفارق بينهما كالفارق بين الثرى والثريا، بل الفارق أعظم من ذلك بكثير، ولولا أن هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقا رفيعا منه، ما ذكره الله- سبحانه وتعالى في القرآن العظيم في سياق الثناء والمدح.
وأقول: إذا كان هذا خلقه صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه غيره، فكيف يكون خلقه فيما يقدر عليه غيره، وإذا كان هذا الأدب منه صلى الله عليه وسلم فيما لم يؤمر، فكيف يكون أدبه صلى الله عليه وسلم فيما أمر به أو نهي عنه. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (قال ابن عباس- رضي الله عنهما: ما ذهب يمينا ولا شمالا وما جاوز ما أمر به، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي، وما أحسن قول الناظم:
رأى جنة المأوى وما فوقها ولو
…
رأى غيره ما قد رآه لتاها «1»
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (وهذا كمال الأدب منه صلى الله عليه وسلم أن قام مقاما أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور إما ألا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينا وشمالا وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلى الله عليه وسلم «2» .
(1) تفسير ابن كثير (4/ 253) .
(2)
تيسير الكريم الرحمن (819) .