الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذاهبهم ومشاربهم ولغاتهم، لأنه لو لم يكن صالحا لكل أحد لوجب الاستحداث فيه لجبر عدم الصلاح، فمنع الشارع الحكيم للاستحداث دلّنا على صلاحه ومناسبته، ويتبين من ذلك ضلال من يستحدث في العبادات- خاصة الذكر والأوراد- بدعا بحجة مناسبتها للعوام من المسلمين، وأن تلك الأذكار ترقق قلوبهم وهي على قدر عقولهم، وهذا منكر من القول، بل طعن في كما لهذا الدين، فهل نسي الشارع الحكيم أو غفل- حاشا لله- أن يشرع للعوام ما يناسب عقولهم ويفي بحاجاتهم، أم أن هناك قصورا في الشرع الحنيف في هذا الأمر، فجاء من يتمه ويكمله؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم.
الفائدة الثالثة:
في الحديث بيان ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، حيث إن أعمال العباد لا تخرج عن قسمين: قسم دل عليه الكتاب والسنة، وقسم ليس له أصل من كتاب أو سنة، فحكم صلى الله عليه وسلم على القسم الثاني من الأعمال بالرد وعدم المشروعية بجملة في غاية القصر «فهو رد» ، وحكم صلى الله عليه وسلم على القسم الأول من الأعمال بالقبول بمقتضى مفهوم المخالفة.
الفائدة الرابعة:
الخير كل الخير في اتباع السنة، بل هو مدار الأمر كله، وهو الأحب إلى الله عز وجل، فمن أتى باتباع مع قصد العبادة، فهو أحب إليه- سبحانه وتعالى ممن أتى بكثرة في العبادة مع ابتداع فيها، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب ممن أخذ بالعزيمة في بعض الأمور التي أخذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النّبيّ صلى الله عليه وسلم شيئا فرخّص فيه، فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثمّ قال:«ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية» «1» .
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله: (والمراد هنا أن الخير في الاتباع سواء كان ذلك في العزيمة أو الرخصة، وأن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت أولى من استعمال العزيمة بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموما إذا كان رغبة عن السنة كترك المسح على الخفين، وأومأ ابن بطال إلى أن الذي تنزهوا عنه القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر، ونقل ابن التين عن الداودي أن التنزه عما ترخص منه النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا إلحاد)«2» .
(1) البخاري، كتاب: الأدب، باب: من لم يواجه الناس بالعتاب، برقم (6101) .
(2)
انظر «فتح الباري» (13/ 279) .
وأضاف الحافظ ابن حجر- رحمه الله كلاما جميلا تعليقا أيضا على هذا الحديث فقال: (أعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه وإن كان غفر الله له لكنه مع ذلك أخشى الناس لله وأتقاهم، فما فعله صلى الله عليه وسلم من عزيمة ورخصة فهو في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجد في العمل قياما بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط، وأشار بقوله- أعلمهم- إلى القوة العلمية وبقوله- أشدهم له خشية- إلى القوة العملية، أي أنا أعلمهم بالفضل وأولاهم بالعمل به)«1» .
وأعتقد أن من الحكم في أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالرخص في بعض الأمور؛ هو التوسعة على الأمة، وإرادة رفع الحرج عنها، ولذلك كان الذم كل الذم لمن لم يرض بالتوسعة فرد الرخص. قال الإمام النووي- رحمه الله: (وإنما يكون القرب إليه- سبحانه وتعالى، والخشية له على حسب ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لا بمخيلات النفوس وتكلف أعمال لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم «2» . لذلك قلت انفا: إن مدار الأمر كله في الاتباع وليس في التعمق في العبادة. والحرص على نشر السنة وتبليغها للناس أمر عظيم من أبواب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه؛ لأن في ذلك سعيا لإعلاء سنته، ونشرا لهديه بين الناس، ومن مقتضيات ذلك الحرص على إماتة البدع والضلالات المخالفة لأمره وهديه، ولا شك في أن الابتداع في دينه من خوارم المحبة الصادقة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» .
ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية «3» - قدس الله روحه حيث يقول: (ومن المعلوم أنه لا تجد أحدا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط الحديث من قلبه، وقيل عن بعض رؤوس الجهمية- إما بشر المريسي «4» أو غيره: أنه قال: ليس شيء أنقص لقولنا من القران، فأقرّوا به في
(1) انظر «فتح الباري» (13/ 279) .
(2)
انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (15/ 107) :
(3)
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام ولد في حران، عام (661 هـ) ، ومات بدمشق عام (728 هـ) .
(4)
هو بشر بن غياث ابن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي، العدوي بالولاء، أبو عبد الرحمن: فقيه معتزلي عرف بالفلسفة يرمى بالزندقة، وهو رأس الطائفة «المريسية» القائلة بالإرجاء وإليه نسبتها، كان قصيرا دميم المنظر، مات عام (218 هـ) .