الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منها، وتعظيما لشأنها، وتخويفا من عاقبتها؟!، لا شك أنهم كانوا يكرهونها بقلوبهم وعقولهم.
الحديث الرابع:
عن ابن شماسة المهريّ قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، قال: فأقبل بوجهه، فقال: إنّ أفضل ما نعدّ: شهادة ألاإله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله، إنّي كنت على أطباق ثلاث:
لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منّي، ولا أحبّ إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال، لكنت من أهل النّار، فلمّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي. قال: «ما لك يا عمرو؟» قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي.
قال: «أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟» وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيّ منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأنّي لم أكن أملأ عينيّ منه، ولو متّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنّة، ثمّ ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنّوا عليّ التّراب شنّا، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتّى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربّي) «1» .
الشاهد في الحديث:
قول الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه (وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلّم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في مناقب الصحابي الجليل، عمرو بن العاص رضي الله عنه.
1-
شدة خوفه من الله تبارك وتعالى وعلمنا ذلك من بكائه الطويل، عندما حضرته الوفاة، قال الراوي:(فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار) . وما كان هذا لردّه ما بشّره به
(1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، برقم (121) .
النبي صلى الله عليه وسلم من خير الآخرة، وإنما لتوليه بعضا من أمور المسلمين، يخشى أن يكون قد قصر في بعضها، وقد وضح ذلك في قوله:(ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها) ، فهو يبكي كل هذا البكاء، ليس لجزمه أنه وقع منه التقصير، بل لعدم يقينه أصاب فيها أو أخطأ، وهذا من ورعه وتقواه، أن اتهم نفسه.
وقد فرق رضي الله عنه بين عصر الوحي والتنزيل، والعصر الذي بعده، بأمر دقيق، في قوله:(ما أدري ما حالي فيها) ، حيث إنه كان يعرف حاله قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يبشرهم برضى الله، سبحانه وتعالى، والفوز بالجنة، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فهم يعملون ويحسنون، لكن من يبشرهم بقبول أعمالهم وأنها موافقة للصواب، لذلك بكى طويلا، لعدم وجود المصوّب لعمله والمبشّر له بالفوز والفلاح.
يتفرع على ذلك، ضرورة أن يبكي المسلم على نفسه طويلا، لأنه لم يشهد الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يبشره أحد بالجنة، وليس له من الأعمال الصالحة، مثل ما كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلام كل ذلك الاطمئنان الذي نشعر به؟!!، أعمال قليلة وذنوب كثيرة وغفلة عظيمة.
2-
فقهه رضي الله عنه ويتضح من الأمور التالية:
أ- رؤيته أن الشهادتين، هي أفضل ما يدخره العبد للقاء الله، سبحانه وتعالى، وهذا هو الصواب، لما رواه أنس بن مالك: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرّحل. قال:
«يا معاذ بن جبل» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال: «يا معاذ» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا. قال: «ما من أحد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله صدقا من قلبه إلّا حرّمه الله على النّار» «1» .
ب- إقراره أن الله، سبحانه وتعالى، هو الهادي إلى سواء السبيل، وأن الهداية للإسلام هي محض فضل منه عز وجل لقوله رضي الله عنه:(فلما جعل الله الإسلام في قلبي) ، وعلمه أن القلب هو محل الإيمان أو الكفر.
ج- أنه اشترط عند إسلامه، أن يغفر له كل ما أسلف من الذنوب، فلم يكن أمر الشهادتين عنده، كلمة يقولها، بل فكّر وتدبر في عواقب ما فعل قبلها، فعظم تلك الذنوب التي اقترفها، وكأنه شعر أنها ستكون عائقا له في طريقه إلى الله، سبحانه وتعالى، فاشترط أن تغفر تلك الذنوب أولا، قال:(أردت أن أشترط) قال: «تشترط
(1) البخاري، كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم، برقم (128) .
بماذا؟» قلت: (أن يغفر لي) ، كما أنه علم أن الاشتراط إنما يكون قبل البيعة، وأن الشرط بعد القبول والإيجاب لا يعتد به.
ويتفرع عليه: أن من علامات حكمة الرجل، ألايتعجل أمره في الأمور العظيمة، بل يجب أن يتروى ويتدبر عاقبة كل أمر من حيث محاسنه ومساوئه، وأن علامات سفه الرجل وهذا كثير في وقتنا الحاضر العجلة وعدم التروي، وأن يقبل ما لا يطيق القيام به.
د- اعتقاده أن من أتى بالشهادتين على الوجه الأكمل، مع اقترافه بعض الأعمال غير الصالحة، فإن عليه أن يخاف ما فعل، ويعتقد أنه قد يحاسب على تلك الأعمال يوم القيامة، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، فليست الشهادتان تعفي من سؤال الله العبد عن ذنوبه، ولا الذنوب تلغي انتفاع العبد بالشهادتين، والدليل أن عمرو بن العاص رضي الله عنه يأمل في الشهادتين رغم حذره من الذنوب، يقول:(إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) .
هـ- علمه أن مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للرجال تكون باليد لقوله: (ابسط يمينك فلأبايعك) .
وتكون باليمين من اليدين.
وعلمه بتحريم النياحة على الميت، واصطحاب النار في الجنازة، وأنه بالوصية بذلك فقد استبرأ لدينه، إن حدث في جنازته مخالفة شرعية، ودليله قوله رضي الله عنه:(فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار) . فما كان قوله هذا لابنه الفقيه عبد الله بن عمرو، ليعلمه تحريم تلك الأمور؛ لأنه لا شك كان على علم بتحريمها، ولكن ذكرها للبراءة منها إن حدثت.
ز- علمه أن الميت، يسمع ما يكون حول قبره لقوله:(ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور) . كما علم أن سؤال الملكين إنما يكون فور نزول الميت قبره؛ لأنه رضي الله عنه أمرهم أن يقيموا حول قبره قليلا، وعلل ذلك بقوله:(وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) ، ودليل الأمرين، ما رواه البخاري من حديث أنس وفيه:«إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه» «1» .
3-
بلاغته وحكمته، في التقسيم والاستقصاء، حيث إنه قد قسم حياته إلى ثلاثة أقسام، راعى فيها أساسا واحدا للتقسيم، وهو تأكده من رضى الله- سبحانه وتعالى من
(1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، برقم (1338) .
عدمه، وهذا التقسيم يدلنا على أكبر همهم، والهدف الأسمى الذي كان يعيشون من أجله، والأقسام الثلاثة هي:
أ- قسم ما قبل الإسلام، وهذا لا خوف منه، حيث إن الإسلام يجبّ ما قبله، وكانوا يشترطون قبل البيعة على الإسلام أن يغفر لهم.
ب- قسم ما بعد الإسلام (طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرجو فيه الصحابي لنفسه الجنة، إن مات في هذه الحقبة، وذلك لتبشير النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، وعظيم أعمالهم من نصرته وصحبته ومؤازرته، فضلا عن نزول الوحي بتأييد ما يفعلونه ومباركته، أو تصويبه وبيان الحق فيه، وكذا تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم وإرشادهم وتوجيههم.
ج- قسم ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى الصحابي فيه على نفسه، لا نفتاح الدنيا عليه وولايته المناصب، وكيف تستوي عندهم دنيا كانوا فيها يرون النبي صلى الله عليه وسلم صباحا ومساء، ودنيا حرموا فيها هذا الفضل العظيم. وهذه الأقسام الثلاثة يشترك فيها جل الصحابة، رضي الله عنهم.
كما تظهر حكمته أيضا في بيان أقسام حياته من قوله: (إني كنت على أطباق ثلاث) .
فأجمل أولا ثم فصّل ثانيا، ويظهر في ذلك تأثرهم الكبير بلغة القرآن، قال- تعالى-:
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] . وأمثلة ذلك في القرآن والسنة كثيرة.
4-
أدبه مع الله عز وجل ويتبين ذلك من:
أ- قوله رضي الله عنه: (لرجوت أن أكون من أهل الجنة) فأتى بلفظ «رجوت» لأنه لو جزم أنه من أهل الجنة، لكان من الآمنين لمكر الله- سبحانه وتعالى قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)[الأعراف: 99] ، ولو نفى هذا الرجاء لكان كالمكذّب لما بشّره به النبي صلى الله عليه وسلم فكان من أدبه أن توسط في القول.
ب- قوله رضي الله عنه: (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) ، فهو مع إعداده أفضل ما في هذا الدين الحنيف، وهي الشهادتان، لقوله:(إن أفضل ما نعد شهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله) . ومع أن سؤال الملكين إنما يكون عن الشهادتين، إلا أنه يخاف أيضا من السؤال، ويحتاج إلى من يأنسه ويقيم حول قبره حتى يجيب الملكين.
كما أن من أدبه رضي الله عنه أنه أضاف الملكين إلى الرب تبارك وتعالى كما أضاف الرب إلى نفسه، ليشعر بتمام العبودية في هذا الوقت الذي سيقبل فيه على مولاه.