الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخالق البارئ، هذا الله الواحد الصمد المتفرد بصفات الجمال والكمال، التي لا ينازعه فيها أحد، قد قدر وقضى بل ورضي أن يرفع ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بحيث لا يذكر هو العظيم الحكيم، إلا وذكر معه نبيه صلى الله عليه وسلم.
فهل بعد هذا الحب من حب، وهل بعد هذا التكريم والتشريف من رتبة أعلى؟ لا والله، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم الغاية في التشريف والتعظيم.
تنبيه وتحذير:
ليس معنى أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر الله- سبحانه وتعالى مثل التشهد والأذان، أن ذلك يعني التشريك في الأمر أو المساواة في التعظيم أو أن للنبي صلى الله عليه وسلم أدنى أدنى تصرف في ملك الله- عز وجل حاشا لله، فما زال الله خالقا مالكا معبودا وحده، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مخلوقا مملوكا عبدا، وهو يفتخر بذلك أشد الافتخار، وقد ذكرت ذلك في هذا الكتاب كثيرا، فلا يجب أن نخلط بين الأمرين، فكما أن الله- عز وجل هو الذي علمنا أنه رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصدقنا ربنا في ذلك، هو نفسه الذي علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، قال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] ، فلماذا نصدق الأولى، ونماري في الثانية، ألهوى في قلوبنا؟ من فعل ذلك فقد خسر الدنيا والآخرة، فعلينا أن نؤمن بالكتاب كله، ونقول:
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7] .
2-
ذكره صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى وفي الحضرة الإلهية، وذلك بصلاة الله والملائكة عليه، بالثناء والذكر الحسن بل العجيب أن ينسحب هذا الثناء والذكر الحسن إلى المؤمنين ببركة صلاتهم عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من صلى علّي صلاة صلى الله عليه بها عشرا» . [رواه مسلم]«1» .
3-
ذكره صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، ليس ذكر اسمه فحسب بل نعته كاملا، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] ، وقد بلغ أمره صلى الله عليه وسلم من الشهرة والصيت، أن أهل الكتاب يعرفون أوصافه وشمائله وسيرته صلى الله عليه وسلم كمعرفتهم أولادهم الذين جاؤا من
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (384) .
أصلابهم، وتربوا أمام أعينهم يوما بعد يوم، فهل يضل الوالد عن ولده، والله إنه ليعرفه من صوته أو من مشيته أو من رائحة عرقه، حتى ولو غاب عنه عقدا من الزمان، هكذا يعرف أهل الكتاب رسولنا صلى الله عليه وسلم، لا تختلف عليهم أوصافه أبدا، وما كانت هذا المعرفة لتتم إلا بوصف دقيق له صلى الله عليه وسلم في كتب الله المنزلة وهذا بلا شك من رفع الذكر، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] .
4-
حفظ عرضه صلى الله عليه وسلم من سب ولعن كفار قريش، روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتمون مذمّما ويلعنون مذمّما وأنا محمّد» «1» ، فمن تمام رفع ذكره صلى الله عليه وسلم أن لا يخدش بأدنى ذم أو لعن، فمن كمال رفع الذكر أن يذكر الإنسان بكل الصفات الحميدة وأن يبرأ من كل سب ولعن، فمن الذي تكفل بإثبات الأولى ودفع الثانية عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنه الله وحده، الأولى: بالصلاة عليه في العالمين العلوي والسفلي، والثانية: أنه هو الذي صرف كفار قريش عن سبه ولعنه لما ورد في الحديث: «ألا تعجبون كيف صرف الله عني شتم قريش ولعنهم» . فأثبت الحديث ثلاثة أمور:
الأول: أن قريشا كانت حريصة على السب واللعن.
الثاني: أن الذي صرف عنه السب واللعن هو الله سبحانه وتعالى.
الثالث: أن أمر صرف هذا اللعن والسب مع حرص كفار قريش عليه، من الأمور العظيمة التي يتعجب منها، وما يتعجب منه يجب الوقوف عنده للتأمل والتدبر.
5-
لم يناده الله، سبحانه وتعالى باسمه أبدا في القرآن العظيم، فلم ترد آية واحدة بصيغة (يا محمد) كما ورد عن بقية الأنبياء، عليهم جميعا الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى على سبيل المثال: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وقوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، وهكذا مع كل الأنبياء، ولما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم كان على سبيل الإخبار وأتبع بصفته، قال تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ولا شك أن توجيه الخطاب إليه في القرآن الكريم، دائما بصيغة الرسالة: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ أو بصفة النبوة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لهو من علامات رفع الذكر.
وتدبر أخي القارئ، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد توجه إليه الخطاب في القرآن الكريم (سواء بخبر أو أمر أو نهي) بكل أنواع الخطاب الممكنة، فقد توجه إليه الخطاب بصيغة النداء بدون ذكر
(1) سبق تخريجه.
اسمه، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64]، وتوجه إليه الخطاب بكاف المخاطبة قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، كما توجه إليه الخطاب بضمير الفاعل المحذوف قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، وكذا بضمير الغائب قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، ولا يشك قارئ القرآن أن كل هذه الصيغ المقصود بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحدث ذلك في القرآن إلا معه صلى الله عليه وسلم وهذا فضل عظيم من الله- سبحانه وتعالى.
6-
من أجلّ مظاهر رفع ذكره صلى الله عليه وسلم أن الله- عز وجل قد أبطل كل شبهات الكافرين وأكاذيبهم حوله صلى الله عليه وسلم، فما من شبهة أثارها الكفار أو أكذوبة مثل الجنون والسحر وادعاء كتابة القرآن من عنده أو من غيره من البشر إلا أقام القرآن الحجج الدامغة على كذبها وفريتها، حتى لا تبقى أي حجة للكافرين يظن ظان أنها تشوب رفع الذكر، وقد بينت ذلك في باب (دفع شبهات وأكاذيب الكفار حوله صلى الله عليه وسلم .
7-
ومن مظاهر رفع ذكره صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أمر بعدم التسوية بين دعائه ودعاء غيره، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: من الآية 63] .
8-
من كمال رفع ذكره صلى الله عليه وسلم بعض الأمور التي جمعتها في فقرة واحدة؛ لتشابهها وهي:
أ- جعل الله- سبحانه وتعالى كتابه أحسن الكتب، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: 23] ، بل جعل كتابه صلى الله عليه وسلم مهيمنا على بقية الكتب، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: من الآية 48] .
ب- أظهر الله- سبحانه وتعالى له دينه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]، قال القرطبي:(أي: في جزيرة العرب) .
ج- أتم الله له أمر هذا الدين؛ لما رواه البخاري من حديث الخباب بن الأرت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله أو الذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون» «1» ، وقال ابن حجر:(المراد بالأمر هو الإسلام) .
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3612) .