الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقييم عمل ابن مجاهد:
أخذت القراءات تتكاثر وتزداد، حتى وصل بها بعضهم إلى خمسين قراءة، وأوشك ذلك أن يكون بابًا لدخول شيء من الاضطراب والتحريف على ألسنة القراء، وكان منهم المتقن -كما يقول ابن مجاهد- وغير المتقن، وزدات الطامة بما كان من بعض القراء -مثل ابن شنبوذ- يرويه عن مصحفي أبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهما وبما كان آخرون -مثل ابن مقسم العطار- يستنبطونه بعقولهم من احتمالات القراءة لخط المصحف العثماني، مما جعل الحاجة تشتد إلى شيخ من شيوخ القراء النابهين، يضع الأصول والأركان لقبول القراءات من جهة، وليختار طائفة نابهة من القراء يكتفى بهم عمن سواهم حتى تستطيع عقول أوساط القراء أن تستوعبهم.
فجاء ابن مجاهد من اجتهد للأمة والدين، والقرآن العظيم، وبالغ في اجتهاده حتى استصفى سبعة من أئمة القراء في أمصار خمسة، هي أهم الأمصار التي حملت عنها القراءات إلى العالم الإسلامي:"المدينة، مكة، الكوفة، البصرة، الشام".
وبذلك أصبح القراء المختارون عنده سبعة، وفي قراءاتهم ألف كتابه "السبعة"، وهو عمل أجمع معاصروه ومَن جاء بعده على إجلاله.
غير أن البعض توهم أن ابن مجاهد أراد بذلك إهدار القراءات الأخرى الصحيحة غير السبع.
وتوهم الآخرون أنه يزعم أن كل قراءة من القراءات السبع تمثل حرفًا من الأحرف السبعة.
فجاء مَن ألَّف في القراءات بالإفراد "كمفدرة يعقوب لعبد البارئ الصعيدي المتوفى بعد 650هـ".
ومنهم من كتب في القراءات الست "كالكافية لهبة الله بن أحمد الحريري ت531هـ".
ومنهم من كتب في القراءات الثمان "كالتذكرة لابن غلبون الحلبي ت399هـ".
ومنهم من كتب في القراءات العشر "كالجامع لنصر بن عبد العزيز الفارسي ت461هـ".
ومنهم من كتب في القراءات الإحدى عشرة "كالروضة للحسن بن محمد البغدادي ت438هـ".
ومنهم من كتب في القراءات الثلاثة عشر "كالبستان لابن الجندي ت769هـ".
وهكذا من ألَّف في القراءات الخمسة عشر، ومنهم من حذف أحد العشرة ووضع مكانه واحدًا من رواة الشواذ، وتوالت المؤلفات تترًا؛ دفعًا لهذه الأوهامات التي تولدت في عقول بعض الجهلة من العوام أو في عقول بعض ضعفاء العلم
والمعرفة1.
والحق أن الإمام ابن مجاهد لم يقصد إهدار بقية القراءات؛ ولكن جعلها وراء السبعة في علم السند والرواية، وجمعها في كتابه "الكبير" الذي كان الأساس الأول للإمام ابن جني، وعليه مدار كتابه "المحتسب" في شواذ القراءات وتوجيهها.
ومما يدل على عدم إهداره لبقية القراءات استشهاده في كتابه "السبعة" بقراءات غير القراء السبعة؛ كقراءة الإمام أبي جعفر، وقراءة الإمام شيبة بن نصاح، وغيرهما2.
وقد اختار ابن مجاهد ما اختاره من القراءات؛ لأنه أراد البلاد الإسلامية الشهيرة بالمقرئين، فاختار منها أضبط القراء -في رأيه- فصادف العدد "السبعة"، ولم يقصد العدد "السبعة" لذاته3، فكان اقتصاره على السبعة محض اتفاق دون قصد منه، كما ظن البعض.
أما أن بعض العامة سبق إلى ذهنه أن ابن مجاهد اعتقد أن القراءات السبع هي الحروف السبعة، فهو ليس مسئولًا عن خطأ غيره أو وهمهم، ولو ظن ذلك لأبطل بقية القراءات، والواقع عكس ذلك؛ حيث إنه لم يحكم على بقية
1 راجع كلام الناس في الإمام ابن مجاهد واعتراضاتهم عليه في كتاب "التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن" للشيخ طاهر الجزائري ص112-114.
2 راجع: مقدمة السبعة ص22، 28، 29.
3 انظر: "الأحرف السبعة" لحسن ضياء الدين عتر ص349-352.
القراءات بعدم التواتر أو بالشذوذ؛ وإنما رآها وراء السبع في المرتبة.
ونحن نرى أن أحدًا لم يستطع أن يراجع الإمام ابن مجاهد فيمن رأى تقديمه من القراء السبعة على غيرهم، فقد ارتضاهم علماء الأمة جميعًا، وارتضوا اجتهاده في تقديمهم.
وإذا أمعنا النظر في السبعة التالين لسبعته وجدنا أولهم الإمام أبا جعفر المدني أستاذ الإمام نافع المدني، وكأن ابن مجاهد اكتفى بالتلميذ عن الأستاذ؛ لأن قراءته وإن كانت مأخوذة من قراءة شيخه؛ لكنها أكثر شيوعًا على ألسنة الناس من القراء وغيرهم في المدينة وما حولها.
وكذلك اكتفى بقراءة الإمام أبي عمرو البصري عن قراءة تلميذيه: يعقوب الحضرمي ويحيى اليزيدي؛ لعلو مكانة شيخهما في القراءات واللغة وقبوله لدى الناس.
ولعله ترك قراءة الإمام خلف البزار الكوفي؛ لأن قراءته لا تخرج عن قراءات الكوفيين في حرف ما1.
وأيضًا لعله ترك قراءة الأعمش -شيخ الإمام حمزة- للسبب نفسه، ولما في قراءته من شذوذ.
وقد ذكر ابن مجاهد بنفسه في حديثه عن ابن كثير المكي أن أهل مكة لم يجمعوا على قراءة ابن محيصن -وهو مكي كذلك- كما أجمعوا على قراءة ابن كثير؛ بل إن أصحاب
1 النشر 1/ 191، ومنجد المقرئين ص50.
ابن محيصن لم يتبعوه في اختياره1.
ويقول ابن الجزري في قراءته: "ولولا ما فيها من مخالفة المصحف لألحقت بالقراءات المشهورة"2.
فالإمام ابن مجاهد لم يختر السبعة ولم يقتصر عليهم إلا بعد اجتهاد طويل ومراجعة متأنية في السندات الطوال غير مدخر جهدًا ولا قوة، وكان موفقًا في استخلاصه لتلك القراءات المتواترة، ثم تبعه في ذلك جمهور العلماء والقراء وحملوا عنه القراءات السبع، وصار كتابه هو المعول عليه والمرجع الأساسي لكل من أتى بعده، فألفوا مصنفاتهم على ضوئه على ما هو معروف عن الإمامين الجليلين: أبي عمرو الداني -مؤلف كتاب التيسير في القراءات السبع- وأبي محمد القاسم بن فيرة الشاطبي -ناظم حرز الأماني- وغيرهما من العلماء، فقد أجمعوا على تواترها، وألحق بها الإمام ابن الجزري قراءات الثلاثة.
فالإمام ابن مجاهد بعمله -تسبيع السبع- قدم للأمة عملًا باهرًا؛ لأن كثرة الروايات في القراءات كان قد أدى إلى ضرب من الاضطراب عند طائفة من القراء غير المتقنين، وأخذ كثيرون يحاولون أن يختاروا من القراءات لأنفسهم خاصة لينفردوا بها، كما عرف عن ابن شنبوذ وابن مقسم
1 انظر: السبعة ص65.
2 غاية النهاية 2/ 167.
العطار.
وباختياره السبعة درأ عن القراءات مزلات توشك أن تقع فيها، ودرأ عن القراء اضطرابهم وخلطهم.
ومما يدل على إخلاص الإمام ابن مجاهد في عمله في القراءات: ما يروى أن بعض تلامذته ممن بهرته سَعَة روايته للقراءات وعلمه بوجوهها وضبطه لحروفها رغم كثرتها قال له: لِمَ لا تختار لنفسك قراءة تحمل عنك؟
فأجابه الإمام بقوله:
"نحن إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا"1.
وبهذا نرى أن ابن مجاهد وهب نفسه للوقوف على القراءات واستيعابها، ولم يفكر في أن يفرد لنفسه قراءة يشتهر بها وتُعرف به وتُحمل عنه، ولو فكر في ذلك لاستطاع في يسر وسهولة؛ ولكن لم تكن هذه وجهته؛ وإنما كانت وجهته أن يستخلص للأمة أهم القراءات الموثوقة التي شاعت وذاعت في الأمصار الإسلامية2.
1 معرفة القراء الكبار 1/ 271، وغاية النهاية 1/ 142.
2 راجع: مقدمة "السبعة" لمحققه الدكتور/ شوقي ضيف ص20-27.