الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أركان القراءة الصحيحة
مدخل
…
المبحث الثاني: أركان القراءة الصحيحة "شروط قبول القراءات "
أ- يرى المتقدمون الشروط التالية لقبول القراءات:
1-
أن يكون لها وجهٌ قويٌّ في العربية.
2-
أن تكون موافقة لرسم المصحف العثماني.
3-
أن تجتمع العامة عليها.
والمقصود من العامة عندهم: أهل الحرمين، أو أهل المدينة والكوفة.
وربما جعلوا الاختيار لما اتفق عليها: نافع وعاصم؛ لأن قراءتهما أوثق القراءات وأصحها سندًا، وأفصحها في العربية، ويتلوهما في الفصاحة قراءة أبي عمرو والكسائي1.
ب- ثم تطور هذا المقياس الضابط للتفرقة بين القراءة الصحيحة وغيرها إلى ما يلي:
1-
صحة السند.
2-
موافقة العربية.
3-
موافقة رسم المصحف العثماني.
وعلى ضوء هذا المقياس قسموا القراءات إلى:
1-
صحيحة: وهي ما توافرت فيها الشروط المذكورة.
2-
غير صحيحة: وهي ما اختل فيها ركن من الأركان
1 راجع: الإبانة لمكي بن أبي طالب ص65، بتحقيق: الدكتور/ محيي الدين رمضان.
الثلاثة المذكورة.
ج- ثم تطور هذا المقياس إلى شيء من التوسع في الشرطين: الثاني والثالث، فجاءت الشروط -كما ذكرها ابن الجزري -هكذا:
1-
أن تكون القراءة صحيحة السند1.
2-
أن توافق العربية ولو بوجه.
3-
أن توافق أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
قال الإمام ابن الجزري في "الطيبة":
فكلما وافق وجه نحو
…
وكان للرسم احتمالًا يحوي
وصح إسنادًا هو القرآن
…
فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت
…
شذوذه لو أنه في السبعة2
واختلفوا في مستوى صحة السند:
فذهب الجمهور إلى اشتراط التواتر؛ لأنها قرآن وهو لا يثبت إلا بالتواتر، واكتفى البعض بالشهرة والاستفاضة؛ لأن الاستفاضة تفيد القطع المطلوب في إثبات قرآنية القراءة، منهم أبو شامة -شارح الشاطبية- والإمام ابن الجزري.
د- وأخيرًا، أجمعت الأمة على الأركان التالية لقبول
1 أي: يرويها عدل ضابط عن مثله من أول السند إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة.
2 طيبة النشر ص3.
القراءات:
1-
أن تكون القراءة متواترة.
2-
أن تكون موافقة للعربية ولو بوجه.
3-
أن تكون موافقة لأحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
شَرْحُ هذه الأركان الثلاثة الأخيرة:
1-
التواتر:
هو نقل جماعة عن جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، من أول السند إلى منتهاه، من غير تعيين في العدد1. والتواتر شرط أساسي عند الجمهور لقبول القراءة2، ولا يرون الاكتفاء بصحة السند؛ ولذلك عرَّفوا القرآن بأنه: ما نُقل إلينا بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا جيلًا بعد جيل3.
فثبت بذلك أن ما ليس بمتواتر لا يسمى قرآنًا، ولا يقرأ به تعبدًا.
1 انظر: بهجة النظر لأبي الحسن السندي الصغير ص14، 15، بتحقيق: العلامة/ غلام مصطفى القاسمي السندي.
2 بل حُكي الإجماع على ذلك -كما سيأتي- وانظر مقدمة كتاب "حجة القراءات" لابن زنجلة ص12.
3 انظر: روضة الناظر لابن قدامة المقدسي ص34، ط أحمد الباز، مكة المكرمة، عام 1401هـ.
قول مكي بن أبي طالب وابن الجزري في شروط قبول القراءات:
قيل: إن مكي بن أبي طالب لا يشترط التواتر؛ حيث قال:
"القراءات الصحيحة ما صح سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وساغ وجهها في العربية، ووافقت خط المصحف".
والحق أنه يشترط التواتر، كما تدل عبارته في الإبانة؛ حيث قسم القراءات إلى ثلاثة أقسام، وقال في القسم الأول: "قسم يقرأ به اليوم، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال؛ وهي: أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم
…
".
وقال في القسم الثاني: "ما صح نقله عن الآحاد
…
"1.
فكلمة "الثقات" بالجمع تدل دلالة واضحة على اشتراطه التواتر، كما أن تعريفه للقسم الثاني يدل على أن مقصوده من القسم الأول هو المتواتر، ثم عدم جواز أخذ القرآن بأخبار الآحاد لديه يدل على أنه يرى التواتر شرطًا
1 الإبانة ص39، بتحقيق: الدكتور/ محيي الدين رمضان.
لقبول القراءات1.
أما الإمام ابن الجزري، فقد صرح بعدم اشتراطه التواتر؛ حيث قال: "ولقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده
…
"2.
وقوله هذا إشارة إلى ما قاله في كتابه "منجد المقرئين" باشتراط التواتر، ورجح فيه تواتر القراءات الثلاث المتممة للعشر؛ بل بالغ في الرد على الإمام ابن الحاجب الذي قال بتواتر الفرش دون الأصول3.
ثم رجع عن هذا القول إلى ما أثبته في كتابه "النشر في القراءات العشر"4.
وبهذا نرى أن الإمام ابن الجزري رجع من قوله السابق إلى عدم اشتراط التواتر لقبول القراءات، وهذا
1 انظر: الإبانة ص31، 39، وفي الحقيقة من قرأ كتابه "الإبانة" لا يشك في أنه يشترط التواتر لقبول القراءات.
2 النشر 1/ 13، واقرأ ما قاله قبل ذلك من قوله: وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا مما لا يخفى ما فيه؛ فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره.
3 منجد المقرئين ص57، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
4 واقرأ "في رحاب القرآن الكريم" للدكتور/ محمد سالم محيسن 1/ 417 وما بعدها.
الذي عبر عنه في نظمه بقوله: وصح إسنادًا هو القرآن1، ولا يضر عدم اشتراط ابن الجزري للتواتر، فغيره قد اشترط التواتر؛ بل أجمعت الأمة أو تكاد تجمع على اشتراطه.
يقول الإمام أبو القاسم النويري في شرحه على طيبة النشر:
وقوله: "وصح إسنادًا" ظاهره أن القرآن يكتفى في ثبوته -مع الشرطين المتقدمين- بصحة السند فقط ولا يحتاج إلى تواتر، وهذا قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم، ولقد ضل بسبب هذا القول قوم فصاروا يقرءون أحرفًا ولا يصح لها سند أصلًا، ويقولون: التواتر ليس بشرط2.
والقرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة -منهم: الغزالي، وصدر الشريعة، وموفق الدين المقدسي، وغيرهم- هو:"ما نقل بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا".
فالتواتر جزء من الحد، فلا يتصور ماهية القرآن إلا به؛ وحينئذ فلا بُدَّ من حصول التواتر عند أئمة المذاهب الأربعة
1 الطيبة ص3.
2 شرح طيبة النشر للنويري 1/ 119، وراجع: غيث النفع للصفاقسي على هامش سراج القارئ ص17.
ولم يخالف منهم أحد، وصرح به جماعات لا يحصون: كابن عبد البر، وابن عطية، وابن تيمية، والنووي، والزركشي، وابن الحاجب، وغيرهم.
وأما القراء فأجمعوا في أول الزمان على ذلك، وكذلك في آخره، ولم يخالف من المتأخرين إلا أبو محمد مكي، وتبعه بعض المتأخرين.
قال الإمام الجعبري في شرح الشاطبية:
"ضابط كل قراءة تواتر نقلها، ووافقت العربية مطلقًا، ورسم المصحف ولو تقديرًا؛ فهي من الأحرف السبعة، وما لا تجتمع فيه فشاذ"1.
وممن قال باشتراط التواتر من القراء: الإمام أبو القاسم الصفراوي "ت636هـ"، والإمام الداني "ت444هـ"، وأبو القاسم الهذلي "ت465هـ"، وأبو الحسن السخاوي "ت902هـ"، وغيرهم من كبار القراء2.
وباشتراط التواتر قال كل من الغزالي في المستصفى، وصاحب مسلم الثبوت في كتابه في الأصول،
1 انظر: المرجع السابق، والقراءات الشاذة للشيخ القاضي ص5، 6.
2 راجع: شرح الطيبة للنويري 1/ 122-129.
والسيوطي في الإتقان1.
2-
موافتها لوجه من وجوه اللغة العربية:
ويكتفي في ذلك بمجرد موافقتها لوجه من وجوه اللغة العربية؛ أي: سواء كان هذا الوجه أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه أو مختلَفًا فيه، ما دامت القراءة صحيحة الإسناد، وموافقة لأحد المصاحف العثمانية، فلا يضرها كون الوجه ضعيفًا من حيث اللغة؛ كقراءة الإمام حمزة بجر كلمة "والأرحام" من قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 2.
حيث قرأ الباقون بالنصب عطفًا على لفظ الجلالة.
وقرأ الإمام حمزة بالجر في "والأرحام" عطفًا على الضمير المجرور في "به" على مذهب الكوفيين.
أو على أن الجار أعيد؛ ولكنه حذف للعلم به.
أو على القسم؛ تعظيمًا للأرحام وحثًّا على صلتها -على قول البصريين- وجوابه "الله"3.
فقراءة الإمام حمزة صحيحة من حيث اللغة على كلا الوجهين، ولا قدح فيها، لا من حيث تواترها، ولا من حيث
1 راجع أقوالهم ونصوصهم بالتفصيل في "مناهل العرفان" 1/ 431-434.
2 سورة النساء: 1.
3 انظر: إتحاف فضلاء البشر للدمياطي 1/ 501، 502، وكتاب الدفاع عن القرآن للدكتور/ أحمد مكي الأنصاري ص1-31.
موافقتها لوجه من وجوه اللغة.
فمتى ما صحت القراءة وثبتت فلا يردها قياس عربية ولا فُشُو لغة؛ لأن القراءة سُنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها1.
يقول الدكتور الزرقاني:
"فإن علماء النحو إنما استمدوا قواعده من كتاب الله تعالى وكلام رسوله وكلام العرب، فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعَّدوا من قواعد، ووجب أن يرجعوا هم بقواعدهم إليه، لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكمها فيه، وإلا كان ذلك عكسًا للآية وإهمالًا للأصل في وجوب الرعاية"2.
فثبوت القراءة سندًا هو الأصل الأعظم، والركن الأقوم، وهو المختار عند المحققين، وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم؛ بل أجمع الأئمة المقتدَى بهم من السلف على قبولها3.
يقول الإمام أبو عمرو الداني:
"وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن
1 انظر: النشر 1/ 10.
2 مناهل العرفان 1/ 422.
3 راجع: النشر 1/ 10، واقرأ في إنكار بعض النحاة واللغويين لبعض القراءات المتواترة والرد عليهم بكلام الإمام ابن الجزري في كتابه "منجد المقرئين" ص64 وما بعدها.
على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية؛ بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل والرواية"1.
3-
موافقتها لأحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا:
والمراد من موافقتها لأحد المصاحف: ما كان ثابتًا في بعضها دون بعض؛ كقراءة ابن عامر: "قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه"2 بغير واو قبل "قالوا"؛ لعدم وجودها في المصحف الشامي.
وكقراءته بزيادة الباء في الاسمين من قوله تعالى: "وبالزبر وبالكتاب المنير"3؛ وذلك لثبوت الباء في ذلك المصحف.
وكقراءة ابن كثير بزيادة "مِنْ" في الموضع الأخير من سورة التوبة في قوله تعالى: "جنات تجري من تحتها الأنهار"4؛ وذلك لثبوتها في المصحف المكي.
إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة في القرآن الكريم التي اختلفت المصاحف فيها، فوردت القراءة عن أئمة تلك الأمصار على موافقة مصحفهم، فلو لم يكن لها وجود في أحد من المصاحف
1 النشر 1/ 10.
2 البقرة: 116.
3 آل عمران: 184.
4 التوبة: 100.
العثمانية لكانت القراءة بها شاذة لمخالفتها للرسم المجمَع عليه.
والمراد من جملة "ولو احتمالًا": ما يوافق الرسم ولو تقديرًا؛ لأن موافقة القراءات للرسم قد تكون تحقيقًا وصريحًا، وقد تكون تقديرًا واحتمالًا، مثل قوله تعالى:"ملك يوم الدين"1.
فقد كُتبت كلمة "ملك" في الفاتحة بدون ألف في جميع المصاحف، وقُرئت بإثبات الألف بعد الميم على وزن "فاعل"، وبدونها على وزن "فَعِل"، والقراءتان متواترتان.
فقراءتها بحذف الألف موافقة للرسم تحقيقًا وصريحًا، كما كتب وقرئ "ملِكِ الناس"2 بدون ألف بعد الميم.
وقراءتها بالألف محتملة تقديرًا، كما كتب:"قل اللهم ملك الملك"3 بدون ألف وقرئ بالألف فقط، والألف تحذف في الكتابة اختصارًا؛ كما في أسماء الأفعال "قادر" و"صالح" وما إلى ذلك4.
وللعلم أن موافقة اختلافات القراءات للرسم تحقيقًا
1 الفاتحة: 3.
2 الناس: 2.
3 آل عمران: 26.
4 راجع: النشر 1/ 11-13.
كثيرة، نحو:{مِنْ أَنْصَارٍ} 1، و {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} 2.
حيث قرئت كلمتا: "أنصار" و"فنادته" بالفتح والإمالة، والقراءتان موافقتان للرسم تحقيقًا.
ونحو قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ} 3 بالياء "يُغْفَر لكم" وبالنون "نَغْفِرْ لكم" وبالتاء "تُغْفَر لكم"، وكلمة {تَعْلَمُونَ} 4 بالياء وبالتاء.
كل ذلك يحتمله الرسم تحقيقًا؛ لخلو المصاحف العثمانية من النقط والشكل.
والمخالف لصريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفًا إذا ثبتت القراءة به؛ ومن ثَمَّ لم يعدوا إثبات ياءات الزوائد أو حذفها من مخالفة الرسم المردودة؛ لأن الخلاف في ذلك يغتفر؛ إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد، وتمشيه صحة القراءة وشهرتها وتلقيها بالقبول، وذلك بخلاف زيادة كلمة ونقصانها، أو تقديمها وتأخيرها، حتى ولو كانت حرفًا واحدًا من حروف المعاني؛ فإن حكمه في حكم الكلمة، ولا يجوز مخالفة الرسم فيه، وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته5.
1 المائدة: 72.
2 آل عمران: 39.
3 البقرة: 58.
4 البقرة: 74.
5 راجع النشر: 1/ 12-13.