الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْله: {فصل}
{يشْتَرك الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد - وَيُقَال: الْإِسْنَاد، والمتن} - لما فَرغْنَا من الأبحاث الْمَخْصُوصَة بِكُل وَاحِد من الْأَدِلَّة الثَّلَاثَة، وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، شرعنا فِي الأبحاث الْمُشْتَركَة بَين الثَّلَاثَة؛ فَلذَلِك قُلْنَا: ويشترك الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد، وَالْمرَاد هُنَا مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال بالأدلة، وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالَّذِي تثبت [بِهِ] الثَّلَاثَة الأول السَّنَد.
وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي الشَّيْء إِنَّمَا يكون بعد ثُبُوته، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ دلَالَة الْأَلْفَاظ؛ لِأَنَّهُ بعد الصِّحَّة يتَوَجَّه النّظر إِلَى مَا
دلّ عَلَيْهِ ذَلِك الثَّابِت، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ اسْتِمْرَار الحكم وبقاؤه، فَلم ينْسَخ، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الدَّلِيل الرَّابِع وَهُوَ الْقيَاس من بَيَان أَرْكَانه، وشروطه، وَأَحْكَامه؛ لِأَنَّهُ فرع على الثَّلَاثَة الأول.
قَالَ الْعَضُد: وَلَا شكّ أَن الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء مقدم عَلَيْهِ وضعا، وَقَوْلنَا: يشْتَرك كَذَا فِي السَّنَد إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد بالثبوت صِحَة وصولها إِلَيْنَا لَا ثُبُوتهَا فِي نَفسهَا وَكَونهَا حَقًا.
إِذا علم ذَلِك فَالسَّنَد - وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الْإِسْنَاد - هُوَ: الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن قولا أَو فعلا تواتراً أَو آحاداً، وَلَو كَانَ الْإِخْبَار بِوَاسِطَة مخبر آخر فَأكْثر عَمَّن ينْسب الْمَتْن إِلَيْهِ والمتن: هُوَ الْمخبر بِهِ.
وأصل السَّنَد فِي اللُّغَة: مَا يسند إِلَيْهِ، أَو مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَأخذ الْمَعْنى الاصطلاحي من الثَّانِي أَكثر مُنَاسبَة؛ فَلذَلِك قَالَ ابْن طريف: أسندت الحَدِيث رفعته إِلَى الْمُحدث، فَيحْتَمل أَنه اسْم مصدر من
اسند يسند، أطلق على الْمسند إِلَيْهِ، وَأَن يكون مَوْضُوعا لما يسند إِلَيْهِ.
والمسند - بِكَسْر النُّون -: من يروي الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ، سَوَاء كَانَ عِنْده علم بِهِ، أَو لَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرّد رِوَايَة.
وَأما مَادَّة الْمَتْن فَإِنَّهَا فِي الأَصْل رَاجِعَة إِلَى معنى الصلابة، وَيُقَال: لما صلب من الأَرْض متن، وَالْجمع متان، وَيُسمى أَسْفَل الظّهْر من الْإِنْسَان، والبهيمة متْنا وَالْجمع متون.
فالمتن هُنَا: مَا تضمنه الثَّلَاثَة من أَمر، وَنهي، وعام، وخاص، ومجمل، ومبين، ومنطوق، وَمَفْهُوم، وَنَحْوهَا.
قَوْله: {وَالْخَبَر يُطلق مجَازًا} ، من جِهَة اللُّغَة {على الدّلَالَة المعنوية،
وَالْإِشَارَة الحالية} ، كَقَوْلِهِم: عَيْنَاك تُخبرنِي بِكَذَا، والغراب يخبر بِكَذَا.
وَقَالَ أَبُو الطّيب:
(وَكم لظلام اللَّيْل عنْدك من يَد
…
تخبر أَن المانوية تكذب)
قَوْله: {وَحَقِيقَة} ، أَي: يُطلق حَقِيقَة على الصِّيغَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق حَقِيقَة على قَول مَخْصُوص؛ وَذَلِكَ لتبادر الْفَهم عِنْد الْإِطْلَاق إِلَى ذَلِك.
قَوْله: {وَهِي تدل بمجردها عَلَيْهِ} أَعنِي الصِّيغَة، تدل على كَونه خَبرا عِنْد القَاضِي أبي يعلى وَغَيره.
وناقش ابْن عقيل القَاضِي فِي ذَلِك كَمَا يَأْتِي فِي الْأَمر والعموم، وَقَالَ: الصِّيغَة هِيَ الْخَبَر فَلَا يُقَال لَهُ صِيغَة، وَلَا هِيَ دَالَّة عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ كثير من أَصْحَابنَا مَا قَالَه القَاضِي وَقَالُوا: لِأَن الْخَبَر هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى، لَا اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب جُزْء يدل بِنَفسِهِ على الْمركب، وَإِذا قيل: الْخَبَر الصِّيغَة فَقَط بَقِي الدَّلِيل هُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ. انْتهى.
وَاخْتَارَهُ أَيْضا ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَقَالَ: لِأَن الْأَمر وَالنَّهْي والعموم هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى جَمِيعًا، لَيْسَ هُوَ اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب خبر يدل بِنَفسِهِ على الْمركب كَمَا تقدم.
وَقَالَت: {الْمُعْتَزلَة: لَا صِيغَة لَهُ، وَيدل اللَّفْظ عَلَيْهِ بِقَرِينَة} هِيَ قصد الْمخبر إِلَى الْإِخْبَار، كالأمر عِنْدهم.
وَقَالَت {الأشعرية: هُوَ الْمَعْنى النَّفْسِيّ} .
وَقَالَ {الْآمِدِيّ: يُطلق على الصِّيغَة وعَلى الْمَعْنى، وَالْأَشْبَه لُغَة حَقِيقَة فِي الصِّيغَة} لتبادرها عِنْد الْإِطْلَاق.
قَوْله: {وَيحد عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، اخْتلف الْعلمَاء رحمهم الله فِي الْخَبَر هَل يحد أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه يحد، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَلَهُم فِيهِ حُدُود كَثِيرَة، قل أَن يسلم مِنْهَا حد من خدش:
أَحدهَا: مَا قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة كالجبائية، وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيرهم أَنه فِي اللُّغَة:{كَلَام يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب} .
وَنقض بِمثل: مُحَمَّد ومسيلمة صادقان.
وَبقول من يكذب دَائِما: كل أخباري كذب. فخبره لَا يدْخلهُ صدق، وَإِلَّا كذبت أخباره وَهُوَ مِنْهَا.
وَلَا كذب، وَإِلَّا كذبت أخباره مَعَ هَذَا وَصدق فِي قَوْله: كل أخباري كذب فيتناقض، وَيلْزم الدّور لتوقف معرفتهما على معرفَة الْخَبَر؛ لِأَن الصدْق: الْخَبَر المطابق، وَالْكذب: ضِدّه.
وبأنهما متقابلان فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي خبر وَاحِد، فَيلْزم امْتنَاع الْخَبَر، أَو وجوده مَعَ عدم صدق الْحَد، وبخبر الْبَارِي.
وَأجِيب عَن الأول: بِأَنَّهُ فِي معنى خبرين؛ لإفادته حكما لشخصين، لَا يوصفان بهما، بل يُوصف بهما الْخَبَر الْوَاحِد من حَيْثُ هُوَ خبر.
ورد: لَا يمْنَع ذَلِك من وَصفه بهما بِدَلِيل الْكَذِب فِي قَول الْقَائِل: كل مَوْجُود حَادث، وَإِن أَفَادَ حكما لأشخاص.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ كذب؛ لِأَنَّهُ أضَاف الْكَذِب إِلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ لأَحَدهمَا، وَسلمهُ بَعضهم، وَلَكِن لم يدْخلهُ الصدْق.
وَأجِيب: بِأَن معنى الْحَد بِأَن اللُّغَة لَا تمنع القَوْل الْمُتَكَلّم بِهِ صدقت أَو كذبت.
ورد: بِرُجُوعِهِ إِلَى التَّصْدِيق والتكذيب وَهُوَ غير الصدْق وَالْكذب فِي
الْخَبَر، وَقَوله: كل أخباري كذب إِن طابق فَصدق وَإِلَّا فكذب، وَلَا يَخْلُو عَنْهُمَا.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يتَنَاوَل قَوْله مَا سوى هَذَا الْخَبَر؛ إِذْ الْخَبَر لَا يكون بعض الْمخبر.
قَالَ: وَنَصّ أَحْمد على مثله، وَلَا جَوَاب على الدّور، وَقد قيل: لَا تتَوَقَّف معرفَة الصدْق وَالْكذب على الْخَبَر لعلمهما ضَرُورَة.
وَأجِيب عَن الْأَخير وَمَا قبله: بِأَن الْمَحْدُود جنس الْخَبَر وَهُوَ قَابل لَهما كالسواد وَالْبَيَاض فِي جنس اللَّوْن.
ورد: لابد من وجود الْحَد فِي كل خبر، وَإِلَّا لزم وجود الْخَبَر دون حَده.
وَأجِيب: الْوَاو وَإِن كَانَت للْجمع لَكِن المُرَاد الترديد بَين الْقسمَيْنِ تجوزاً، لَكِن يصان الْحَد عَن مثله.
وَالْحَد الثَّانِي: قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَغَيره: إِن الْخَبَر كلما دخله الصدْق أَو الْكَذِب.
وَالْحَد الثَّالِث: قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " غَيره: مَا يدْخلهُ {التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب} .
فَيرد عَلَيْهِمَا الدّور الْمُتَقَدّم، وَمَا قبل الدّور أَيْضا، وبمنافاة " أَو " للتعريف؛ لِأَنَّهَا للترديد؛ فَلهَذَا أَتَى الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَغَيره بِالْوَاو وَهُوَ الْحَد الرَّابِع.
وَأجِيب: المُرَاد قبُوله فِي أَحدهمَا وَلَا تردد فِيهِ.
قَالَ الْغَزالِيّ وَغَيره: التَّعْبِير بالتصديق والتكذيب أحسن من الصدْق وَالْكذب؛ لِأَن من الْخَبَر مَا لَا يحْتَمل الْكَذِب، كَقَوْلِنَا: مُحَمَّد رَسُول الله، وَمِنْه مَا لَا يحْتَمل الصدْق، كَقَوْلِنَا: مُسَيْلمَة صَادِق، مَعَ أَن كلا من المثالين يحْتَمل التَّصْدِيق والتكذيب؛ وَلذَلِك كذب بعض الْكفَّار الأول، وَصدق الثَّانِي.
وَفِيه نظر؛ فَإِن الْخَبَر من حَيْثُ هُوَ مُحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَفِي سُقُوط أحد الِاحْتِمَالَيْنِ فِي بعض الصُّور لعَارض لَا يُخرجهُ على ماهيته لذَلِك، وَأَيْضًا لِأَن التَّصْدِيق والتكذيب كَون الْخَبَر صدقا أَو كذبا، فتعريفه بِهِ دور. قَالَه الرَّازِيّ.
الْحَد الْخَامِس: قَالَه أَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: إِن الْخَبَر {كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة} ، والكلمة عِنْده كَلَام؛ لِأَنَّهُ حَده بِمَا انتظم من حُرُوف مسموعة متميزة، فَقَالَ: بِنَفسِهِ؛ ليخرج نَحْو: قَائِم، فَإِنَّهُ يُفِيد نِسْبَة إِلَى الضَّمِير بِوَاسِطَة الْمَوْضُوع، وَيرد النّسَب التقييدية: كحيوان نَاطِق، وَمثل:
مَا أحسن زيدا.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَمثل: قُم، وَنَحْوه؛ فَإِنَّهُ يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة الْقيام إِلَى الْمَأْمُور، أَو الطّلب إِلَى الْآمِر مَعَ أَنه قَالَ: هُوَ أقربها.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: أخرجه بِنَفسِهِ، فَإِن الْمَأْمُور بِهِ وَجب بواسطتها استدعاء الْأَمر بِنَفسِهِ من طلب الْفِعْل.
الْحَد السَّادِس: قَالَه ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَجَمَاعَة: هُوَ الْكَلَام الْمَحْكُوم فِيهِ بِنِسْبَة خارجية. قَالَ: وَيَعْنِي الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس، فنحو: طلبت الْقيام، حكم بِنِسْبَة لَهَا خارجي بِخِلَاف " قُم ".
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَيَعْنِي بالْكلَام مَا تضمن كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ، فَيخرج عَنهُ الْكَلِمَة، والمركب الإضافي والمركب التقييدي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِد
مِنْهَا بِكَلَام، وَالْمرَاد بِالنِّسْبَةِ الخارجية الْأَمر الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس الَّذِي تعلق بِهِ كَلَام النَّفس بالمطابقة واللامطابقة، وَيُسمى ذَلِك الْأَمر النِّسْبَة الخارجية، فَيدْخل فِي هَذَا التَّعْرِيف مثل: طلبت الْقيام فَإِنَّهُ قد حكم بِنِسْبَة لَهَا خارجي، وَهُوَ نِسْبَة طلب الْقيام إِلَى الْمُتَكَلّم فِي الزَّمَان الْمَاضِي، وَهَذِه النِّسْبَة خارجية عَن الحكم النَّفْسِيّ تعلق بهَا الحكم النَّفْسِيّ بالمطابقة واللامطابقة بِخِلَاف قُم، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بالحكم النَّفْسِيّ وَلَيْسَ لَهُ تعلق خارجي. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْخَبَر مَا لَهُ من الْكَلَام خَارج، أَي: لنسبته وجود خارجي فِي زمن غير زمن الحكم بِالنِّسْبَةِ. انْتهى.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": هُوَ قَول يدل على نِسْبَة مَعْلُوم إِلَى مَعْلُوم، أَو سلبها عَنهُ، وَيحسن السُّكُوت عَلَيْهِ.
القَوْل الثَّانِي: إِن الْخَبَر لَا يحد، كالوجود والعدم.
وَلَهُم فِي تَعْلِيل عدم حَده مأخذان:
أَحدهمَا: أَن كَونه لَا يحد لعسره كَمَا تقدم فِي الْعلم فليعاود، فَإِنَّهُ مثله فِي ذَلِك.
المأخذ الثَّانِي: قَالَه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، والسكاكي: إِن تصَوره ضَرُورِيّ؛ لِأَن كل أحد يعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه مَوْجُود.
أَي: يعلم معنى قَوْله: (أَنه مَوْجُود) من حَيْثُ وُقُوع النِّسْبَة فِيهِ على وَجه يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَهُوَ خبر خَاص، فمطلق الْخَبَر الَّذِي هُوَ جُزْء هَذَا الْخَبَر الْخَاص أولى أَن يكون ضَرُورِيًّا؛ وَلِأَن كل أحد يجد تَفْرِقَة بَين الْخَبَر وَالْأَمر وَغَيرهمَا ضَرُورَة، والتفرقة بَين شَيْئَيْنِ مسبوقة بتصورهما.
لَا يُقَال: الِاسْتِدْلَال دَلِيل أَنه غير ضَرُورِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يسْتَدلّ على ضَرُورِيّ؛ وَلِأَن كَون الْعلم ضَرُورِيًّا أَو نظرياً قَابل للاستدلال بِخِلَاف الِاسْتِدْلَال على حُصُول الْخَبَر ضَرُورَة؛ فَإِنَّهُ منَاف لضَرُورَة الْخَبَر.
ورد الدَّلِيل الأول: بِأَن الْمُطلق لَو كَانَ جُزْءا لزم انحصار الْأَعَمّ فِي الْأَخَص وَهُوَ محَال.
فَإِن قيل: مُشْتَركَة فِيهِ بَين جزئياته - أَي: أَنه مَوْجُود فِيمَا تَحْتَهُ - فَكَانَ جُزْءا من مَعْنَاهَا [رد] لَيْسَ معنى كَونه مُشْتَركَة فِيهِ هَذَا، بل بِمَعْنى أَن حد الطبيعة الَّتِي عرض لَهَا أَنَّهَا كُلية مُطلقَة مُطَابقَة لحد مَا تحتهَا من الطبائع الْخَاصَّة.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ كل عَام جُزْءا من معنى الْخَاص؛ لِأَن الْأَعْرَاض الْعَامَّة خَارِجَة عَن مَفْهُوم مَعْنَاهُ، كالأبيض وَالْأسود بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ من معنى الْإِنْسَان أَو نَحوه.
ورد الدَّلِيل الأول أَيْضا: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من حُصُول الْعلم بالْخبر تصَوره، أَو تقدم تصَوره؛ لِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ بالثبوت لَا يسْتَلْزم الْعلم بالتصور؛ لتغاير التَّصَوُّر والثبوت، وَمَعَ عدم تلازم تصور الْخَاص وثبوته لم يلْزم تصور الْمُطلق مِنْهُ.
ورد هَذَا: بِأَنَّهُ لم يدع أَن حُصُول الْخَبَر تصَوره، بل الْعلم بِحُصُول تصَوره وَلَا يُمكن مَنعه.
ورد الدَّلِيل الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَا يلْزم سبق تصور أَحدهمَا بطرِيق الْحَقِيقَة، فَلم تعلم حقيقتهما، ثمَّ يلْزم أَن لَا يحد الْمُخَالف الْأَمر وَقد حَده؛ وَلِأَن حقائق أَنْوَاع اللَّفْظ من خبر وَأمر وَغَيرهمَا مَبْنِيَّة على الْوَضع والاصطلاح؛ وَلِهَذَا لَو أطلقت الْعَرَب الْأَمر على الْمَفْهُوم من الْخَبَر الْآن أَو عَكسه لم يمْتَنع، فَلم تكن ضَرُورِيَّة.
قَالَ الْمحلي: كل من الْعلم وَالْخَبَر والوجود والعدم قيل: ضَرُورِيّ فَلَا حَاجَة إِلَى تَعْرِيفه، وَقيل: لعسر تَعْرِيفه. انْتهى.
وَيَأْتِي فِي الْأَمر: هَل يشْتَرط فِي الْخَبَر الْإِرَادَة كالأمر أم لَا؟
قَوْله: {وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه} قد علم أَن للْكَلَام أنواعاً فلابد من
من بَيَانهَا، وَالْفرق بَينهَا ليحصل الِاسْتِدْلَال بهَا على المُرَاد، وَلِلنَّاسِ فِي تقسيمه طرق، فَمنهمْ من يقسمهُ إِلَى: خبر، وإنشاء، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قدمنَا؛ لِأَنَّهُ إِن احْتمل الصدْق وَالْكذب فَهُوَ الْخَبَر، وَإِلَّا فَهُوَ الْإِنْشَاء.
وَذَلِكَ الْإِنْشَاء إِمَّا طلب أَو غَيره، وَهُوَ الْمَشْهُور باسم الْإِنْشَاء، والطلب إِمَّا أَمر أَو نهي أَو اسْتِفْهَام، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد، وَهل عنْدك أحد؟
وَقد ذكر من الْإِنْشَاء: الْأَمر، وَالنَّهْي، والاستفهام، وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء.
وَظَاهر قَوْلنَا: وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه، أَن الْإِنْشَاء هُوَ التَّنْبِيه، وتابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح، وتابع ابْن مُفْلِح ابْن الْحَاجِب؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": لم يفرق المُصَنّف بَين الْإِنْشَاء والتنبيه، وَقَالَ بَعضهم: الْكَلَام الَّذِي لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب يُسمى إنْشَاء، فَإِن دلّ بِالْوَضْعِ على طلب الْفِعْل يُسمى أمرا، وَإِن دلّ على طلب الْكَفّ عَن الْفِعْل
يُسمى نهيا، وَإِن دلّ على طلب الإفهام يُسمى استفهاماً، وَإِن لم يدل بِالْوَضْعِ على طلب يُسمى تَنْبِيها، ويندرج فِيهِ التمنى، والترجي، وَالْقسم، والنداء. انْتهى.
وَقَالَهُ أَيْضا القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَيَأْتِي لَفظه بعد قَوْله: وَغير الطّلب إنْشَاء، وَذكر فِي " جمع الْجَوَامِع " أَيْضا أَن الْإِنْشَاء والتنبيه مُتَرَادِفَانِ.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": وهما لفظان مُتَرَادِفَانِ، سمي بالتنبيه؛ لِأَنَّك نبهت بِهِ على مقصودك، وسمى بالإنشاء؛ لِأَنَّك ابتكرته من غير أَن يكون مَوْجُودا قبل ذَلِك فِي الْخَارِج من قَوْله تَعَالَى:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء} [الْوَاقِعَة: 35] ، ويندرج فِيهِ التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء.
وَالْفرق بَين الترجي وَالتَّمَنِّي: أَن الترجي لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الْمُمكن بِخِلَاف التَّمَنِّي فَإِنَّهُ يسْتَعْمل فِي الْمُمكن والمستحيل، تَقول: لَيْت الشَّبَاب يعود، وَلَا تَقول: لَعَلَّ الشَّبَاب يعود. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": التَّنْبِيه قسم بِرَأْسِهِ غير الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، تَحْتَهُ أَقسَام: أَحدهَا: الْعرض، نَحْو: أَلا تنزل عندنَا؟ والتحضيض، نَحوه: هلا تنزل عندنَا؟ وَهُوَ أَشد وأبلغ من الْعرض، وَالتَّمَنِّي [نَحْو] : لَيْت الشَّبَاب يعود والرجاء، نَحْو:{فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح} [الْمَائِدَة: 52] .
وَاسْتغْنى بِذكر الترجي عَن الإشفاق، وَهُوَ مَا يكون فِي الْمَكْرُوه، وَرُبمَا توسع بِإِطْلَاق الترجي على الْأَعَمّ، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم} [الْبَقَرَة: 216] فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة وَهِي: الْعرض والتحضيض وَالتَّمَنِّي والترجي لَيْسَ طلبا صَرِيحًا، بل إِيمَاء إِلَى الطّلب، فَهِيَ شَبيه بِالطَّلَبِ الصَّرِيح، ولكونه لَيْسَ طلبا بِالْوَضْعِ جعله قوم، كالبيضاوي قسيماً لَهُ بِحَيْثُ قَالَ: إِن الْكَلَام إِمَّا أَن يُفِيد طلبا بِالْوَضْعِ، وَهُوَ الْأَمر وَالنَّهْي، والاستفهام، أَو لَا، فَمَا لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب تَنْبِيه وإنشاء ومحتملهما الْخَبَر.
وَكَذَا عبر فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَلكنه لَا يعرف مِنْهُ مَا يتَمَيَّز بِهِ التَّنْبِيه من الْإِنْشَاء وَلَا كَونه فِيهِ طلبا مَا، على أَن البيانيين يطلقون عَلَيْهِ اسْم
الطّلب فيجعلون الطّلب أمرا ونهياً واستفهاماً وتنبيهاً. انْتهى.
قلت: قد صرح الْعِرَاقِيّ - كَمَا تقدم - أَن الْإِنْشَاء والتنبيه مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ ظَاهر الْكِتَابَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا المُصَنّف.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب - كَمَا تقدم -: وَيُسمى غير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيهاً.
وَتقدم كَلَام الْأَصْفَهَانِي، وَالْقَاضِي عضد الدّين.
قَوْله: {وَصِيغَة عقد وَفسخ وَنَحْوهَا إنْشَاء} الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء: أَن صِيغَة الْعُقُود والفسوخ وَنَحْوهَا إنْشَاء، وَهُوَ الَّذِي يقْتَرن مَعْنَاهُ بِوُجُود لَفظه، نَحْو: بِعْت، واشتريت، وأعتقت، وَطلقت، وفسخت، وَنَحْوهَا مِمَّا يشابه ذَلِك مِمَّا تستحدث بِهِ الْأَحْكَام فَهِيَ أَخْبَار فِي الأَصْل بِلَا شكّ، وَلَكِن لما اسْتعْملت فِي الشَّرْع فِي معنى الْإِنْشَاء
اخْتلف فِيهَا: هَل هِيَ بَاقِيَة على أَصْلهَا من الْإِخْبَار أَو نقلت؟
فأصحابنا، وَالْأَكْثَر على الثَّانِي، وَالْحَنَفِيَّة على الأول على معنى الْإِخْبَار عَن ثُبُوت الْأَحْكَام، فَمَعْنَى قَوْلك: بِعْتُك: الْإِخْبَار عَمَّا فِي قَلْبك، فَإِن أصل البيع هُوَ التَّرَاضِي، فَصَارَ بِعْت وَنَحْوهَا لفظا دَالا على الرضى بِمَا فِي ضميرك، فَيقدر وجودهَا قبل اللَّفْظ للضَّرُورَة، وَغَايَة ذَلِك أَن يكون مجَازًا وَهُوَ أولى من النَّقْل.
وَدَلِيل الْأَكْثَر: أَنه لَو كَانَ خَبرا لَكَانَ إِمَّا عَن مَاض، أَو حَال، أَو مُسْتَقْبل، والأولان باطلان لِئَلَّا يلْزم أَن لَا يقبل الطَّلَاق وَنَحْوه التَّعْلِيق؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي توقف شَيْء لم يُوجد على مَا لم يُوجد،
والماضي وَالْحَال قد وجدا لَكِن قبُوله التَّعْلِيق إِجْمَاع، والمستقبل يلْزم مِنْهُ أَن لَا يَقع بِهِ شَيْء؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة (سَأُطلقُ) وَالْغَرَض خِلَافه، إِلَى غير ذَلِك من أدلته.
وَأَيْضًا: لَا خَارج لَهَا، وَلَا تقبل صدقا، وَلَا كذبا، وَلَو كَانَت خَبرا لما قبلت تَعْلِيقا لكَونه مَاضِيا؛ وَلِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ قَاطع بِالْفرقِ بَين: طلقت إِذا قصد بِهِ الْوُقُوع، وَطلقت إِذا قصد بِهِ الْإِخْبَار.
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا: هِيَ إِخْبَار فِي الْعُقُود.
{وَلنَا وَجه أَن (طَلقتك) كِنَايَة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَقيل: طَلقتك كِنَايَة، فَيتَوَجَّه عَلَيْهِ أَن يحْتَمل الْإِنْشَاء وَالْخَبَر، وعَلى الأول هُوَ إنْشَاء، وَذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة الْأَمر: أَن الْعُقُود الشَّرْعِيَّة بِلَفْظ الْمَاضِي إِخْبَار، وَقَالَ شَيخنَا - يَعْنِي الشَّيْخ
تَقِيّ الدّين -: هَذِه الصِّيَغ إنْشَاء من حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَت الحكم، وَبهَا تمّ، وَهِي إِخْبَار لدلالتها على الْمَعْنى الَّذِي فِي النَّفس. انْتهى.
قَوْله: {وَلَو قَالَه لرجعية طلقت فِي الْأَصَح} أَعنِي على القَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ إنْشَاء للطَّلَاق، فعلى هَذَا لَا يقبل قَوْله: أَنه أَرَادَ الْإِخْبَار.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا لَا تطلق، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنه قصد الْإِخْبَار عَن الطَّلَاق الْمَاضِي، {وَلَو ادّعى طَلَاقا مَاضِيا توجه لنا خلاف} كالمسألة الَّتِي قبلهَا وَغَيرهَا.
فَإِن قَوْله: طَلقتك يحْتَمل أَنه إِخْبَار عَن الطَّلَاق الْمَاضِي الَّذِي كَانَ أوقعه، فَلم يَقع عَلَيْهَا غَيره، لَكِن الظَّاهِر أَنه إنْشَاء، وَهُوَ الْمُتَعَارف بَين النَّاس، وَهَذَا الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب.
قَوْله: {وَأشْهد، إنْشَاء تضمن إِخْبَارًا، وَقيل: إِخْبَار، وَقيل: إنْشَاء} ، فَإِذا قَالَ الشَّاهِد: أشهد بِكَذَا، فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار -: إِنَّهَا إنْشَاء تضمن الْخَبَر بِمَا فِي النَّفس.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا إِخْبَار مَحْض، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أهل اللُّغَة.
قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": الشَّهَادَة خبر عَن علم.
وَقَالَ الرَّازِيّ: قَوْله: (أشهد) إِخْبَار عَن الشَّهَادَة وَهِي الحكم الذهْنِي الْمُسَمّى كَلَام النَّفس.
وَالثَّالِث: إِنَّهَا إنْشَاء، وَإِلَيْهِ ميل الْقَرَافِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا، وَأما قَوْله تَعَالَى:{وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ}
[المُنَافِقُونَ: 1] فراجع إِلَى تسميتهم ذَلِك شَهَادَة؛ لِأَنَّهَا مَا واطأ فِيهَا الْقلب اللِّسَان، وَإِنَّمَا اختير الأول لاضطراب النَّاس فِي ذَلِك، فَقَائِل بِأَنَّهَا إِخْبَار - كَمَا فِي كتب اللُّغَة -، وَقَائِل بِأَنَّهَا إنْشَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا، فالقائل بالثالث، رأى كلا من الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجه فَجمع بَينهمَا بِأَن قَالَ: ذَلِك يضمن إِخْبَارًا.
وَقَالَ الكوراني: إِن أردْت تَحْقِيق الْمَسْأَلَة فاسمع لما أَقُول: اعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن دلَالَة الْأَلْفَاظ إِنَّمَا هِيَ على الصُّور الذهنية الْقَائِمَة بِالنَّفسِ، فَإِن أُرِيد بالْكلَام الْإِشَارَة إِلَى أَن النِّسْبَة الْقَائِمَة بِالنَّفسِ مُطَابقَة لأخرى خارجية فِي أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة فَالْكَلَام خبر، سَوَاء كَانَت تِلْكَ الخارجية قَائِمَة بِالنَّفسِ أَيْضا كعلمت وظننت، أَو بِغَيْرِهِ كخرجت وَدخلت، وَإِن لم يرد مُطَابقَة تِلْكَ النِّسْبَة الذهنية لأخرى خارجية فَالْكَلَام إنْشَاء، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: أشهد بِكَذَا، لَا يشك أحد فِي أَنه لم يقْصد أَن تِلْكَ النِّسْبَة الْقَائِمَة بِنَفسِهِ تطابق نِسْبَة أُخْرَى فِي أحد الْأَزْمِنَة، بل مُرَاده الدّلَالَة على مَا فِي نَفسه
من ثُبُوت هَذِه النِّسْبَة، مثل: اضْرِب وَلَا تضرب فَهُوَ إنْشَاء مَحْض، وَلَا يرجع الصدْق وَالْكذب إِلَيْهِ، وَكَون الْمَشْهُود بِهِ خَبرا لَا يُخرجهُ عَن كَونه إنْشَاء مَحْضا؛ لِأَن تِلْكَ النِّسْبَة مُسْتَقلَّة بِحكم وأطرافه، وَهَذِه أُخْرَى كَذَلِك، وَلَو كَانَ كَون الشَّيْء متضمناً لآخر يُخرجهُ عَن كَونه مَحْض ذَلِك الشَّيْء لم يبْق إنْشَاء مَحْض قطّ؛ إِذْ قَوْلك: اضْرِب، مُتَضَمّن لِقَوْلِك: الضَّرْب مِنْك مَطْلُوب، أَو أطلب مِنْك، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقُول بِهِ عَاقل. انْتهى.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": وَاعْلَم أَن نقل الْمذَاهب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هَكَذَا لَا يُوجد مجموعاً، وَإِنَّمَا هُوَ مفرق فِي كَلَام الْأَئِمَّة بالتلويح. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: غير الْخَبَر طلب وإنشاء} . قَالَه جمع من الْعلمَاء، ويرون بِأَن الْإِنْشَاء لَيْسَ فِيهِ الطّلب بل قسيمه؛ لِأَن الْمَطْلُوب مستدعى الْحُصُول فِي الْمُسْتَقْبل، والإنشاء مَدْلُوله يحصل فِي الْحَال، وَلَفظ الْإِنْشَاء سَبَب لوُجُود مَعْنَاهُ، وَلَفظ الطّلب لَيْسَ سَببا لوُجُود مَعْنَاهُ، وَإِن أُرِيد بالإنشاء إِحْدَاث شَيْء لم يكن فَالْكل إنْشَاء؛ لِأَن الْخَبَر إِحْدَاث الْإِخْبَار بِهِ وَلَا قَائِل
بذلك، فعلى هَذَا إِن طلب بِالْوَضْعِ تَحْصِيل فعل أَو ترك فَأمر وَنهي، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد - كَمَا تقدم -، وَإِن طلب إعلاماً بِشَيْء لَا لتَحْصِيل فعل وَلَا ترك فَهُوَ اسْتِفْهَام، وَمَا أحسن مَا عبر عَنهُ البيانيون فَقَالُوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي: إنَّهُمَا طلب مَا هُوَ حَاصِل فِي الذِّهْن أَن يحصل فِي الْخَارِج، وَفِي الِاسْتِفْهَام الْعَكْس - أَي: طلب مَا فِي الْخَارِج أَن يحصل فِي الذِّهْن.
قَوْله: {وَغَيره} ، أَي: غير الطّلب إنْشَاء، وَهُوَ: عرض، وتحضيض، وتمن، وترج، وَقسم، ونداء.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": غير الْخَبَر مَا لَا يشْعر بِأَن لمدلوله مُتَعَلقا خارجياً، ويسميه المُصَنّف تَنْبِيها وإنشاء، ويندرج فِيهِ الْأَمر، وَالنَّهْي، وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء، والاستفهام. والمنطقيون يقسمونه إِلَى مَا يدل على الطّلب لذاته، إِمَّا للفهم، وَهُوَ الِاسْتِفْهَام، وَإِمَّا لغيره وَهُوَ الْأَمر، وَالنَّهْي، وَإِلَى غَيره، ويخصون التَّنْبِيه والإنشاء بالأخير مِنْهُمَا، ويعدون مِنْهُ التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء، وَبَعْضهمْ
يعد التَّمَنِّي، والنداء من الطّلب. انْتهى.
وَكَلَام المناطقة مُوَافق لِلْقَوْلِ الَّذِي حكيناه قبل.
قَوْله: {وَقيل غير الْخَبَر طلب فَقَط} . من الْعلمَاء من قسم الْكَلَام إِلَى خبر، وَطلب كَمَا قَالَ ابْن مَالك فِي كافيته:
(قَول مُفِيد طلبا أَو خَبرا
…
هُوَ الْكَلَام كاستمع وسترى)
وَكَأَنَّهُ رأى أَن الْإِنْشَاء فرع عَن الْخَبَر فيكتفي بِذكر الْخَبَر أَو غير ذَلِك.
فَوَائِد: إِحْدَاهَا: الطّلب مَا يُفِيد بِذَاتِهِ احْتِرَازًا عَمَّا يُفِيد باللازم
أَو بِالْقَرِينَةِ نَحْو: أَنا أطلب مِنْك أَن تُخبرنِي بِكَذَا، أَو أَن تسقيني مَاء، أَو أَن تتْرك الْأَذَى، وَنَحْوه، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ دَالا على الطّلب لَكِن لَا بِذَاتِهِ، بل هَذِه إخبارات لازمها الطّلب، وَلَا يُسمى الأول استفهاماً، وَلَا الثَّانِي أمرا، وَلَا الثَّالِث نهيا لذَلِك.
وَكَذَا قَوْله: أَنا عطشان، كَأَنَّهُ قَالَ: اسْقِنِي، فَإِن هَذَا طلب بِالْقَرِينَةِ لَا بِذَاتِهِ، وَرُبمَا عبر عَن هَذَا الْقَيْد بِكَوْنِهِ بِالْوَضْعِ، وَرُبمَا عبر عَنهُ بِمَا يفِيدهُ إِفَادَة أولية، وَالْكل صَحِيح، وَالله أعلم.
الثَّانِيَة: الْخَبَر مُشْتَمل على مَحْكُوم عَلَيْهِ، ومحكوم بِهِ، ويعبر عَنهُ البيانيون بِمُسْنَد إِلَيْهِ، ومسند ويعدونه إِلَى مُطلق الْكَلَام.
والمناطقة يسمون الْخَبَر قَضِيَّة لما فِيهَا من الْقَضَاء بِشَيْء على شَيْء، ويسمون الْمقْضِي عَلَيْهِ مَوْضُوعا، والمقضي بِهِ يسمونه مَحْمُولا، لِأَنَّك تضع الشَّيْء وَتحمل عَلَيْهِ حكما، ويقسمون الْقَضِيَّة إِلَى طبيعية وَهِي: مَا حكم فِيهَا بِأحد أَمريْن من حَيْثُ هُوَ على الآخر، من حَيْثُ هُوَ لَا بِالنّظرِ إِلَى
أَفْرَاده، نَحْو: الرجل خير من الْمَرْأَة، وَنَحْو: المَاء مرو، وَغير الطبيعية وَهِي: الَّتِي قصد الحكم فِيهَا على مشخص فِي الْخَارِج لَا على الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، ثمَّ ينظر فَإِن حكم فِيهَا على جزئي معِين سميت شخصية، نَحْو: زيد قَائِم، أَو لَا على معِين، فَإِذا ذكر فِيهَا سور الْكل أَو الْبَعْض فِي نفي أَو إِثْبَات سميت محصورة، نَحْو: كل إِنْسَان كَاتب بِالْقُوَّةِ، وَبَعض الْإِنْسَان كَاتب بِالْفِعْلِ، وَنَحْو: لَا شَيْء أَو وَاحِد من الْإِنْسَان بجماد، وَلَيْسَ بعض الْإِنْسَان بكاتب بِالْفِعْلِ، أَو بعض الْإِنْسَان لَيْسَ كَذَلِك.
وَإِن لم يكن للقضية سور وَالْمرَاد الحكم فِيهَا على الْأَفْرَاد لَا على الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ سميت مُهْملَة، نَحْو: الْإِنْسَان فِي خسر، وَالْحكم فِيهَا على بعض ضَرُورِيّ، فَهُوَ المتحقق، وَلَا يصدق عَلَيْهَا كُلية، لَكِن إِذا كَانَ فِيهَا " أل " كَمَا فِي " الْإِنْسَان كَاتب " يُطلق عَلَيْهَا ابْن الْحَاجِب وَغَيره كثيرا أَنَّهَا كُلية نظرا إِلَى إِفَادَة " أل " الْعُمُوم، فَهِيَ مثل " كل "، وَإِن لم يكن ذَلِك من اصْطِلَاح المناطقة.