الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في رميه للحنابلة بأنهم لا يمدحون السلطان إلا إذا نصرهم]
فصل
في رميه للحنابلة بأنهم لا يمدحون السلطان إلا إذا نصرهم، ولو كان باغيا،
أما إذا آذى أحدهم، فيذمونه، ولو كان عادلا، وإبطال زعمه قال المالكي ص (134 - 135) : (وتراهم يذمون السلطان إذا آذى أحد أتباعهم، وأن هذا سلطان سوء وينسون كل فضائله، كما فعلوا بالمأمون، وكان من أعدل ملوك بني العباس، وكثرهم علما.
فماذا جاء سلطان آخر أظهر نصرتهم، يمدحونه بمبالغة، ولو كان مبتدعا ظالما كالمتوكل، بل ويبدعون ويضللون من يخالفه، ويرددون قواعد طاعة ولاة الأمور، وأن من لم يدع للإمام، فهو صاحب بدعة.) اهـ.
والجواب من وجوه: أحدها: أن المالكي يلزمه ما يلزمنا، فإن كنا نمدح المتوكل، ونذم المأمون للمذهب، فهو قد مدح المأمون، وذم المتوكل للمذهب أيضا! غير أن مدحنا للمتوكل: كان لنصرته السنة، وإظهاره لها. وذمنا للمأمون: كان لابتداعه في الدين، وإدخاله علوم الفلاسفة الزنادقة على المسلمين، وحمله الناس على الكفر، وهو القول بخلق القرآن، وقتله أئمة الإسلام وحفاظه، وجلدهم وسجنهم، حين امتنعوا
عن طاعته في الكفر.
أما مدح المالكي، للمأمون: فلفجوره وضلاله وبدعته. وذمه للمتوكل، فلاتباعه السنة ونصرتها، وقمع مخالفيها، وشدته على الرافضة.
الثاني: أن من المستقر عند أهل السنة جميعا- والحنابلة منهم-: السمع والطاعة لمن ولي أمر المسلمين، وعدم الخروج عليه، إلا إذا أتى بكفر بواح عندنا فيه من الله برهان، كما جاءت به السنة، وزال المانع عنه، بجهل أو شبهة، وكان مقدورا على ذلك، ولا يتسبب خروجهم عليه، بفتنة أعظم مما خروجوا لأجلها.
وهذا معلوم من مذهبهم، سواء كان الإمام محبا لهم مكرما، أم مبغضا لهم مناوئا.
لهذا، لم يأمر الإمام أحمد بالخروج على خلفاء بني العباس الذين سجنوه، وجلدوه، وحصل منهم له ما هو معلوم.
ولو كان سمعهم وطاعتهم للأئمة، معلقا بحظهم من الدنيا، أو بميل السلطان لهم ونحوه، لكان المأمون، والمعتصم، والواثق أولى الأئمة بالخروج والقتال وخلع البيعة.
وكذلك كان حال الحنابلة وأهل السنة جميعا، وحال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومن سجن معه من تلاميذه مع سلاطين عصورهم، المناوئين لهم والساجنين، لم يدعوا أحد منهم للخروج على السلطان،
أو منابذته بالسلاح، مع كثرة أتباعهم، ومحبيهم من عامة الناس وخاصتهم، وما أمر جنازة الإمام أحمد، ومن خرج فيها مشيعا باكيا، وجنازة شيخ الإسلام ابن تيمية، بخاف على أحد.
الثالث: أن الخليفة العباسي المأمون: لم يكن- كما زعم المالكي - ذا عدل وعلم جم، وإنما كان باغيا جائرا، سفك دماء العلماء المعصومة، وفتن الأمة، وأدخل الفلسفة في علوم المسلمين، بعد أن كانت سالمة منها، فضل وأضل.
فإن كان ظلم الحجاج وسيفه، غاية يضرب بها المثل في الظلم والشر، فلقد كان المأمون أطغى منه وأشر.
وكيف يقاس الحجاج، بالمأمون، وكان سيف الحجاج صلتا على الخوارج، والبغاة، وفي الجهاد، إلا أنه نال جماعات من الصالحين فاختلطت فيه دماء زكية بأخرى ردية. أما سيف المأمون فقد عصم منه كل زنديق ومبطل، ولم يرق إلا دماء علماء الأئمة، وكبار الأئمة؟!
وما نقم المأمون منهم، إلا ما نقمه من هم على شاكلته من المؤمنين، الذين قال فيهم جل وعلا:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] .
قال الإمام الحافظ ابن كثير الشافعي، في "البداية والنهاية" (15 / 302) في ترجمته:(وقد كان فيه تشيع واعتزال، وجهل بالسنة الصحيحة) .
ثم قال: (وكان على مذهب الاعتزال؛ لأنه اجتمع بجماعة، منهم بشر بن غياث المريسي فخدعوه، وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل.
وكان يحب العلم، ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل ودعا إليه، وحمل الناس عليه قهرا، وذلك في آخر أيامه، وانقضاء دولته) اهـ كلامه رحمه الله.
فعدل المأمون الذي أراده المالكي:
هو سفك دماء العلماء الربانيين، الذين قيدوا من مشارق الأرض ومغاربها، ليقولوا كلمة الكفر، أو تضرب أعناقهم، و! ستباح حرمة دمائهم، ظلما وبغيا.
أما علم المأمون الذي أراده المالكي: فمجاهرته بالرفض والاعتزال، والتصريح بخلق القرآن، بل حمل الناس عليه بالسيف.
الوجه الرابع: أن الخليفة العباسي المتوكل، الذي جعله المالكي (مبتدعا ظالما) : كان إمام هدى، وسنة، وصلاح، وعدل، وخير، قال الحافظ خليفة بن خياط:(استخلف المتوكل فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنة، ونصر أهلها)" السير " للذهبي (12 / 32) .
وقال الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء" أيضا (21 / 34) :
(وفي سنة 234 هـ أظهر المتوكل السنة، وزجر عن القول بخلق القرآن،
وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء، وأجزل صلاتهم، ورووا أحاديث الرؤية والصفات) اهـ.
قلت: وكانت مجالس الحديث تعقد في المساجد، ويحضرها عشرات الآلاف.
ثم قال الذهبي (12 / 36) : (وغضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد، وصادره وسجن أصحابه، وحمل ستة عشر ألف درهم، وافتقر هو وآله) اهـ.
ثم أطلق المتوكل رحمه الله، من تبقى في السجون ممن امتنع من القول بخلق القران، وأنزلت عظام الإمام الحافظ الكبير أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد، ودفنها أقاربه.
وذكر ابن كثير في ترجمته في "البداية والنهاية"(10 / 387) : أن المتوكل قال يوما لبعضهم: "إن الخلفاء تغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني ".
وقال ابن كثير أيضا رحمه الله: (وكان المتوكل محببا إلى رعيته، قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة لأنه نصر الحق، ورده عليهم، حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية.
وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله.
وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور، قال: " فقلت: المتوكل؟ !
قال: المتوكل.
قلت: فما فعل بك ربك؟
قال: غفر لي.
قلت: بماذا؟
قال: بقليل من السنة أحييتها".
وروى الخطيب عن صالح بن أحمد: أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل، كأن رجلا يصعد به إلى السماء، وقائلا يقول:
ملك يقاد إلى مليك عادل
…
متفضل في العفو ليس بجائر
وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي، قال: "رأيت ليلة المتوكل قائلا يقول:
يا نائم العين أوطان جثمان
…
أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا
…
بالهاشمي ، وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلوما فضج له
…
أهل السماوات من مثنى ووحدان
وسوف يأتيكم من بعده فتن
…
توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم
…
فقد بكاه جميع الإنس والجان
قال:
فلما أصبحت، أخبرت الناس برؤياي، فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة.
قال:
ثم رأيته بعد هذا بشهر، وهو واقف بين يدي الله عز وجل، فقلت: ما فعل بك ربك؟
فقال: غفر لي.
قلت: بماذا؟
قال: بقليل من السنة أحييتها.
قلت: فما تصنع ههنا؟
قال: أنتظر ابني محمدا، أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم " اهـ كلام الحافظ ابن كثير.
وقد رواها أيضا الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى عمرو بن شيبان.
وقال السيوطي في ترجمة المتوكل رحمهما الله، في "تاريخ الخلفاء" ص (391) : (أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب
بذلك إلى الآفاق) .
ثم قال: (وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه، والتعظيم له، حتى قال قائلهم: "الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة، وإماتة التجهم ") اهـ كلام السيوطي.
قلت: عنى السيوطي بقائلهم في كلامه السابق: قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي، فقد ذكر الذهبي مقولته هذه في "السير"(10 / 32) وعزاها إليه.
ثم قال السيوطي ص (391) : (وقال أبو بكر ابن الخبازة في ذلك:
وبعد فإن السنة اليوم أصبحت
…
معززة حتى كأن لم تذلل
تصول وتسطو إذ أقيم منارها
…
وحط منار الإفك والزور من عل
وولى أخو الإبداع في الدين هاربا
…
إلى النار يهوي محبرا غير مقبل
شفى الله منهم بالخليفة جعفر
…
خليفته ذي السنة المتوكل
خليفة ربي ، وابن عم نبيه
…
وخير بني العباس من منهم ولي
أطال لنا رب العالمين بقاءه
…
سليما من الأهوال غير مبدل
وبوأه للنصر للدين جنة
…
يجاور في روضاتها خير مرسل
وكان مما نقمه الرافضة المجوس على المتوكل رحمه الله رحمة واسعة - مع ما سبق من نصرة السنة، وقمع المعتزلة: هدم المتوكل الدور والمشاهد التي أقامتها الرافضة عند الحسين بن علي رضي الله عنهما، لإقامة البدع والشنائع فيها.
هدمها رحمه الله ممتثلا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ولا تدع قبرا مشرفا إلا سويته» رواه الإمام أحمد في "مسنده"(1 / 129) ومسلم في "صحيحه"(969) وأبو داوود (3218) والترمذي (1049) والنسائي (2031) وكان ذلك سنة (236 هـ) . فلما فعل ذلك: ضجت الرافضة في العراق، ولهجت بسب المتوكل وشتمه وما زالوا إلى أن آل الأمر إلى صغير أفراخهم (المالكي) ، فتابع أجداده في ذلك، ورمى المتوكل رحمه الله بما قد رماه سلفه به.
اللهم ارحم المتوكل رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناتك، وأعظم له أجره، واغفر له ذنبه، وارفع درجاته في عليين، وألحقه بالنبيين صلى الله عليه وسلم والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.