المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح) - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المشهد الثَّاني: مشهد رسوم الطَّبيعة ولوازم الخلقة

- ‌المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

- ‌المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة

- ‌المشهد السادس: مشهد التوحيد

- ‌المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

- ‌المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصِّفات

- ‌المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدُّد(2)شواهده

- ‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

- ‌ منزل الإنابة

- ‌ منزل التّذكُّر

- ‌(أبنية التذكُّر

- ‌المفسد الخامس: كثرة النوم

- ‌ منزل الاعتصام

- ‌الاعتصامُ(2)بحبل الله

- ‌ اعتصام العامَّة

- ‌اعتصام الخاصَّة

- ‌اعتصام خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الفرار

- ‌(فرار العامَّة

- ‌فرار الخاصَّة

- ‌فرار خاصَّة الخاصَّة

- ‌ رياضة العامة

- ‌«منزلة الرياضة»

- ‌رياضة الخاصَّة:

- ‌رياضة خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة السَّماع

- ‌ سماع العامّة

- ‌سماع الخاصَّة

- ‌سماع خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الحزن

- ‌ حزن العامَّة

- ‌ حزن أهل الإرادة

- ‌ التحزُّن للمعارضات

- ‌ منزلة الخوف

- ‌ الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة

- ‌(الدرجة الثانية: خوف المكر

- ‌ منزلة الإشفاق

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌ الدرجة الثالثة

- ‌ منزلة الخشوع

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الإخبات

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الزُّهد

- ‌من أحسن ما قيل في الزُّهد

- ‌ الدرجة الأولى: الزُّهد في الشُّبهة بعد ترك الحرام

- ‌(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول

- ‌(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد

- ‌ منزلة الورع

- ‌ الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح

- ‌(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به

- ‌فصلالخوف يثمر الورع

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرجاء

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرغبة

- ‌ الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر

- ‌(الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال

- ‌(الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشُّهود

- ‌ منزلة الرِّعاية

- ‌ منزلة المراقبة

- ‌ الدرجة الأولى: مراقبة الحقِّ تعالى في السَّير إليه

- ‌الدرجة الثانية: مراقبة نظر الحقِّ إليك برفض المعارضة

- ‌الاعتراض ثلاثة أنواعٍ سارية في الناس

- ‌النوع الأوَّل: الاعتراض على أسمائه وصفاته

- ‌النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره

- ‌(الدرجة الثالثة: مراقبةُ الأزل بمطالعة عين السبق

- ‌ منزلة تعظيم حرمات الله

- ‌(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره

- ‌(الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة

- ‌ منزلة الإخلاص

- ‌ الدّرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة التهذيب والتصفية

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الاستقامة

- ‌ الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد

- ‌(الدرجة الثانية: استقامة الأحوال

- ‌(الدرجة الثالثة: استقامةٌ بترك رؤية الاستقامة

- ‌ منزلة التوكُّل

- ‌الدرجة الثانية: إثبات الأسباب والمسبَّبات

- ‌الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد

- ‌الدرجة الخامسة: حسن الظنِّ بالله

- ‌الدرجة السّادسة: استسلام القلب له

- ‌الدرجة السابعة: التفويض

- ‌ الدرجة الأولى: التوكُّل مع الطلب ومعاطاة السبب

- ‌(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب

- ‌ منزلة التفويض

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الثِّقة بالله

- ‌ الدرجة الأولى: درجة الإياس

- ‌(الدرجة الثانية: درجة الأمن

- ‌(الدرجة الثالثة: معاينة أزليَّة الحقِّ

- ‌ منزلة التسليم

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الصبر

- ‌(الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة

- ‌(الدرجة الثالثة: الصبرُ في البلاء

- ‌ منزلة الرِّضا

- ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

- ‌ منزلة الشُّكر

- ‌ الدرجة الأولى: الشُّكر على المحابِّ

- ‌(الدرجة الثانية: الشُّكر في المكاره

- ‌(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم

- ‌ منزلة الحياء

- ‌ منزلة الصِّدق

- ‌من علامات الصِّدق: طمأنينة القلب إليه

- ‌فصلفي كلماتٍ في حقيقة الصِّدق

- ‌ الدرجة الأولى: صدق القصد

- ‌(الدرجة الثانية: أن لا يتمنَّى الحياة إلا للحقِّ

- ‌(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق

الفصل: ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

العبد إلى السبب والموجب لكان اشتغاله بدفعه أجدى إليه

(1)

وأنفع له من خصومة من جرى على يديه، فإنَّه وإن كان ظالمًا فهو الذي سلَّطه على نفسه بظلمه. قال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، فأخبر أن أذى عدوِّهم لهم وغلبتَهم بسبب ظلمهم. وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].

فإذا اجتمعت بصيرة العبد على مشاهدة القدر والتوحيد والحكمة والعدل= انسدَّ عنه باب خصومة الخلق، إلَّا فيما كان حقًّا لله ورسوله. فالراضي لا يخاصم ولا يعاتب إلَّا فيما يتعلَّق بحقِّ الله. وهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لم يكن يخاصم أحدًا ولا يعاتبه إلَّا فيما يتعلَّق بحقِّ الله، كما أنَّه كان لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهكت محارمُ الله لم يقم لغضبه شيءٌ حتَّى ينتقم لله

(2)

. فالمخاصمة لحظِّ النّفس تطفئ نور الرِّضا، وتُذهب بهجته، وتبدِّل بالمرارة حلاوتَه، وتكدِّر صفوه.

(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

.

وذلك لأنَّ المسألة والإلحاح فيها ضربٌ من الخصومة والمنازعة والمحاربة والرُّجوع عن مالك الضرِّ والنفع إلى من لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلّا بربِّه. وفيها الغَيبة عن المعطي المانع.

(1)

ع: «عليه» .

(2)

كما قالت عائشة: «وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها» . أخرجه البخاري (3560) ومسلم (2328).

ص: 565

والإلحاح ينافي حال الرِّضا ووصفه. وقد أثنى سبحانه على الذين لا يسألون النّاس

(1)

، فقال:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسِبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].

فقالت طائفةٌ: يسألون الناس ما تدعو حاجتهم إلى سؤاله، ولكن لا يُلْحِفون، فنفى الله عنهم سؤالَ الإلحافِ لا مطلقَ السُّؤال. قال ابن عبَّاس: إذا كان عنده غداءٌ لم

(2)

يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء

(3)

.

وقالت طائفة منهم الزجَّاج والفرَّاء وغيرهما: بل الآية اقتضت ترك السُّؤال مطلقًا، لأنّهم وُصفوا بالتعفُّف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة، لأنَّهم لو أفصحوا بالسُّؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء. ثمَّ اختلفوا في وجه قوله:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} :

فقال الزجَّاج

(4)

: لا يكون منهم سؤالٌ فيقعَ إلحاف. كما قال تعالى:

(1)

زيد في ع: «إلحافًا» .

(2)

ش: «لا» .

(3)

ذكره الواحدي في «البسيط» (4/ 454) فقال: «قال ابن عباس في رواية عطاء» ، ولم أجده مسندًا، والظاهر أن الواحدي نقله من التفسير الذي وضعه موسى بن عبد الرحمن الصنعاني ثم ألزقه كذبًا وزورًا بابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، كما بيَّنه محققوه في مقدمة التحقيق (1/ 146 - 149). وذكره الثعلبي في «الكشف والبيان» (7/ 353) عن عطاء مقطوعًا، وهو أيضًا اعتمد على كتاب موسى بن عبد الرحمن الصنعاني في نقل تفسير عطاء، كما صرَّح به في مقدمته (2/ 67 - 68). والمؤلف صادر عن الواحدي هنا وفي الأقوال الآتية.

(4)

في «معاني القرآن» له (1/ 357)، وليس فيه ولا في «البسيط» التنظير بالآيتين. وانظر:«البسيط» (2/ 477).

ص: 566

{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] أي لا تكون شفاعةٌ فتنفع، وقولِه:{لَا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا} [البقرة: 123] أي لا يكون عدلٌ فيقبل، ونظائره. قال امرؤ القيس

(1)

:

على لاحبٍ لا يهتدى لمناره

أي ليس له منارٌ يهتدى له

(2)

.

قال ابن الأنباري: وتأويل الآية: لا يسألون البتَّة، فيخرجهم السُّؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف، فجرى هذا مجرى قولك: فلانٌ لا يرجى خيره، أي ليس له خيرٌ فيرجى.

وقال أبو عليٍّ: لم يثبت في هذه الآية مسألةٌ منهم، لأنَّ المعنى: ليس منهم مسألة فيكونَ منهم إلحافٌ. قال: ومثل ذلك قول الشاعر

(3)

:

لا يُفزِع الأرنبَ أهوالُها

ولا ترى الضبَّ بها ينجحرْ

أي ليس بها أرنب فيفزَع لهولها، ولا ضبٌّ فينجحر.

وقال الفرَّاء

(4)

: نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السُّؤال.

(1)

«ديوانه» (ص 66)، والرواية فيه:«بمناره» .

(2)

ش، ع:«به» .

(3)

البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في «ديوانه» (ص 67).

(4)

كما في «معاني القرآن» (1/ 181) بمعناه.

ص: 567

فصل

والمسألة في الأصل حرام، وإنَّما أبيحت للحاجة والضرورة، لأنَّها ظلم في حقِّ الربوبيَّة، وظلم في حقِّ المسؤول، وظلم في حقِّ السائل.

أمَّا الأوَّل: فلأنَّه بذَلَ سؤاله وفقره وذلَّه واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبوديَّة. فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه

(1)

وفقره إلى الله وتوكُّله عليه ورضاه بقَسْمه، واستغنى بسؤال الخلق عن مسألته

(2)

، وذلك كلُّه هضم من التوحيد، ويطفئ نوره ويضعف قوَّته.

وأمَّا ظلمه للمسؤول: فلأنَّه سأله ما ليس له عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن عليه، وعرَّضه لمشقَّة البذل أو لؤم المنع، فإن أعطاه أعطاه على كراهةٍ، وإن منعه منعه على استحياء

(3)

. هذا إذا سأله ما ليس عليه. وأمَّا إذا سأله حقًّا هو له عنده، لم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله.

وأمَّا ظلمه لنفسه: فإنَّه أراق ماء وجهه، وذلَّ لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه وعزِّة تعفُّفِه وراحة قناعته، وباع صبرَه ورضاه وتوكُّله وقَنَعَه

(4)

بما قسم له

(1)

رسمه في الأصل: «أحلاه» ، وغير محرر في ل، ومكانه بياض في ج، ن. والمثبت من ش، ع.

(2)

ع: «بسؤال الناس عن مسألة رب الناس» .

(3)

زاد في ع: «وإغماض» .

(4)

القَنَعُ: هي القناعة.

ص: 568

واستغناءَه عن الناس= بسؤالهم. وهذا عينُ ظلمه لنفسه

(1)

، إذ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزَّها، وصغَّرها وحقَّرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسؤول، ويدُه تحت يده، ولولا الضرورة لم يُبَح ذلك في الشرع.

وقد ثبت في «الصحيحين»

(2)

من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يزال الرجلُ يسأل الناس حتَّى يأتي يومَ القيامة ليس في وجهه مُزْعةُ لحمٍ» .

وفي «صحيح مسلم»

(3)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا فإنَّما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثِرْ» .

وفي «الصحيحين»

(4)

عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خيرٌ له من أن يأتي رجلًا فيسأله، أعطاه أو منعه» .

وفي «صحيح مسلم»

(5)

عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يغدو

(1)

ش: «على نفسه» .

(2)

البخاري (1474) ومسلم (1040). والمؤلف صادر عن «السنن والأحكام» للضياء المقدسي في سياق هذه الأحاديث، فاستوفى أحاديث «باب في كراهية المسألة» (3254 - 3275) مرتَّبةً مع زيادة بعض الأحاديث.

(3)

برقم (1041).

(4)

البخاري (1470) ــ واللفظ له ــ ومسلم (1042).

(5)

برقم (1042/ 106).

ص: 569

أحدكم فيحتطب على ظهره

(1)

، فيتصدَّق به، ويستغني به عن الناس= خيرٌ من أن يسأل رجلًا أعطاه أو منعه، ذلك بأنَّ اليد العليا أفضل من اليد السُّفلى. وابدأ بمن تعول». زاد الإمام أحمد

(2)

: «ولَأن يأخذ ترابًا فيجعله في فيه خيرٌ له من أن يجعل في فِيه ما حَرَّم الله عليه» .

وفي «صحيح البخاري»

(3)

عن الزبير بن العوَّام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتيَ بحزمةٍ من الحطب

(4)

على ظهره فيبيعَها، فيكفَّ الله بها وجهه= خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطَوه أو منعوه».

وفي «الصحيحين»

(5)

عن أبي سعيدٍ الخدري أنَّ ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثمَّ سألوه فأعطاهم، ثمَّ سألوه فأعطاهم، حتَّى نفِدَ ما عنده، فقال لهم حين أنفق كلَّ شيءٍ بيديه:«ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدَّخره عنكم، ومن يستعِفَّ يُعِفَّه الله، ومن يستغنِ يُغنه الله، ومن يتصبَّر يصبِّرْه الله. وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» .

وعن عبد الله بن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ــ وذكر

(1)

«خيرٌ له من أن يأتي رجلًا

» إلى هنا ساقط من ع لانتقال النظر.

(2)

في «مسنده» (7490) من طريق ابن إسحاق، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة. إسناده حسن إن سلم من تدليس ابن إسحاق.

(3)

برقم (1471).

(4)

في هامش ش أشار الناسخ إلى أن لفظه في نسخة الصغاني من «صحيح البخاري» : «بحزمة حطبٍ» . وهو في رواية أبي ذر الهروي كذلك، ولغيره:«بحزمة الحطب» . انظر: «إرشاد الساري» (3/ 60).

(5)

البخاري (1469، 6470) ومسلم (1053).

ص: 570

الصدقة والتعفُّف والمسألة ــ: «اليد العليا خيرٌ من اليد

(1)

السُّفلى، فاليد العليا: المنفقة، والسُّفلى هي السائلة». رواه البخاريُّ ومسلم

(2)

.

وعن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمَّ سألته فأعطاني، ثمَّ قال: «يا حكيم، إنَّ هذا المال خضرةٌ حلوةٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يبارَك له فيه، وكان

(3)

كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى». قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقِّ، لا أَرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدُّنيا. وكان أبو بكرٍ يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثمَّ إنَّ عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إنِّي أُشهدكم يا معشر المسلمين على حكيمٍ: أنِّي أَعرِض عليه حقَّه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى توفِّي. متفق على صحَّته

(4)

.

وعن الشعبي قال: حدَّثني كاتب المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى

(1)

سقطت من الأصل، ل.

(2)

البخاري (1429) ومسلم (1033).

(3)

جاء في هامش ش حاشية نصُّها: «في نسخة الصحيح للصغاني التي كُتبت بيده رحمه الله ليس لفظ: (وكان) بل كشطه وأصلح هكذا: لم يبارك له يأكل ولا يشبع» . قلتُ: ولم يرد هذا اللفظ (وكان) في هذا الحديث في النسخة اليونينية أيضًا كما نصَّ عليه القسطلاني في «إرشاد الساري» (3/ 61)، وإنما ورد في روايات أخرى للحديث في «الصحيحين» .

(4)

البخاري (1472 ــ واللفظ به أشبه ــ، 2750، 3143) ومسلم (1035) وليس عنده قول حكيم إلى آخره.

ص: 571

المغيرة بن شعبة: أن اكتب إليَّ بشيءٍ سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، فكتب إليه: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال

(2)

، وكثرة السُّؤال». رواه البخاريُّ ومسلمٌ

(3)

.

وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُلْحِفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئًا فتُخرج له مسألتُه منِّي شيئًا وأنا كارهٌ فيُبارَكَ له فيما أعطيتُه» . وفي لفظٍ: «إنَّما أنا خازنٌ، فمن أعطيته عن طيب نفسٍ فيبارَكُ له فيه، ومن أعطيته عن مسألةٍ وشَرَهٍ كان كالذي يأكل ولا يشبع» . رواه مسلمٌ

(4)

.

وعن أبي مسلمٍ الخَولاني قال: حدَّثني الحبيب الأمين ــ أمَّا هو فحبيبٌ إليّ، وأمَّا هو عندي فأمين ــ عوف بن مالكٍ الأشجعيُّ قال: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعةً ــ أو ثمانيةً أو سبعةً ــ فقال: «ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» وكنَّا حديثَ عهدٍ ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فقال:«ألا تبايعون رسول الله؟» فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمَّ قال:«ألا تبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نبايعك؟ قال:«أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا ــ وأسرَّ كلمةً خفيَّةً ــ، ولا تسألوا الناس شيئًا» . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطُ أحدهم

(1)

في هامش ش: «بخط الصغاني في نسخته: من النبي» . وهو كذلك في رواية أبي ذر وابن عساكر، كما في «إرشاد الساري» (3/ 65).

(2)

أشار ناسخ ش أنه في بعض نسخ البخاري: «الأموال» . وهو كذلك في روايتي الحَمُّوي والمستملي. انظر: «إرشاد الساري» (3/ 65)

(3)

البخاري (1477) ومسلم (593 ــ بعد الحديث 1715).

(4)

برقم (1038، 1037).

ص: 572

فما يسأل أحدًا يناوله إيّاه. رواه مسلم

(1)

.

وعن سمرة بن جندبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المسألة كدٌّ يكُدُّ بها الرجلُ وجهه، إلَّا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمرٍ لا بدَّ منه» . رواه التِّرمذيُّ

(2)

، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

وفي «مسند الإمام أحمد»

(3)

عن زيد بن عقبة الفزاريِّ قال: دخلت على الحجّاج بن يوسف، فقلت: أصلح الله الأمير، ألا أحدِّثك حديثًا سمعتُه من سمرة بن جندبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: سمعته يقول: «المسائل كدٌّ يكُدُّ بها الرجل وجهَه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك، إلَّا أن يسأل رجلٌ ذا سلطانٍ، أو يسأل في أمرٍ لا بدَّ منه» .

وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يتقبَّل لي بواحدةٍ وأتقبَّل له بالجنة؟» . قال: قلت: أنا. قال: «لا تسأل النّاس شيئًا» . فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب، فلا يقول لأحدٍ: ناولنيه، حتَّى ينزل فيتناوله. رواه الإمام أحمد وأهل السُّنن

(4)

.

وعن ابن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصابته فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقتُه، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى: إمَّا بموتٍ عاجلٍ

(1)

برقم (1043).

(2)

برقم (681)، وقد سبق تخريجه (ص 413).

(3)

برقم (20106)، وهي رواية أخرى للحديث السابق، زادها المؤلف ولم ترد في «السنن والأحكام» (3/ 315)، أو لعلها سقطت من مطبوعته.

(4)

أحمد (22385) وابن ماجه (1837) ــ واللفظ لهما ــ وأبو داود (1643) والنسائي (2590). وهو حديث صحيح، سبق تخريجه بلفظ: «من يكفُلُ لي

» (ص 414).

ص: 573

أو غنًى عاجلٍ». رواه أبو داود والتِّرمذيُّ

(1)

، وقال: حديث صحيح.

وعن سهل ابن الحنظليَّة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عُيَينة بن حصنٍ والأقرع بن حابسٍ فسألاه، فأمر لهما بما سألاه، وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا. فأمَّا الأقرع فأخذ كتابه فلفَّه في عمامته وانطلق. وأمَّا عيينة فأخذ كتابه فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكتابه، فقال: يا محمَّد، أُراني حاملًا

(2)

إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه، كصحيفة المتلمِّس

(3)

! فأخبر معاويةُ بقوله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سأل وعنده ما يغنيه فإنَّما يستكثر من النار» ، وفي لفظٍ:«مِن جمر جهنَّم» . قالوا: يا رسول الله،

(1)

أبو داود (1645) ــ واللفظ له ــ والترمذي (2326)، وقد سبق تخريجه (ص 413).

(2)

في النسخ: «حامل» . ولفظ أبي داود: «أتُراني حاملًا» .

(3)

المتلمِّس هو جرير بن عبد المسيح الضبعي، الشاعر الجاهلي، خال طرفة بن العبد. كتب ملك الحِيرة عمرو بن المنذر لهما إلى عامله بالبحرين كتابًا أوهمهما أنه أمر لهما فيه بصلة، وقد كان كتب إليه أن يقتلهما. فأما المتلمس فإنه ارتاب ودفع صحيفته إلى رجل يستقرئه، فلما عرف ما فيها نبذها في النهر ورجع، فضربت العرب مثلًا بصحيفته. وأما طرفة فمضى بكتابه حتى أوصلها إلى العامل فقتله. انظر:«مجمع الأمثال» (1/ 399).

ص: 574

ما يُغنيه؟ وفي لفظٍ: ما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: «قدر ما يغدِّيه وما يعشِّيه» ، وفي لفظٍ:«أن يكون له شِبعُ يومٍ وليلةٍ» . رواه أبو داود والإمام أحمد

(1)

.

وعن ابن الفِراسيِّ أنَّ الفراسيَّ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله؟ قال: «لا، وإن كنت سائلًا لا بدَّ فسل

(2)

الصالحين». رواه النسائي

(3)

.

وعن قبيصة بن المخارق الهلاليِّ قال: تحمَّلتُ حَمالةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال:«أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» ، ثمَّ قال:«يا قبيصة، إنَّ المسألة لا تحلُّ إلَّا لأحد ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حمالةً فحلَّت له المسألةُ حتى يصيبها ثمَّ يمسك، ورجلٍ أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيشٍ ــ أو قال: سِدادًا من عيشٍ ــ، ورجلٍ أصابته فاقةٌ حتى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحِجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيشٍ ــ أو قال: سِدادًا من عيشٍ ــ؛ فما سواهنَّ من المسألة يا قبيصةُ سحتٌ يأكلها صاحبها سحتًا» . رواه مسلمٌ

(4)

.

وعن عائذ بن عمرٍو أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه، فلمَّا وضع رجله على أُسْكُفَّة الباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحدٌ إلى أحدٍ يسأله شيئًا» . رواه النسائيُّ

(5)

.

(1)

أبو داود (1629) ــ والألفاظ كلها له ــ وأحمد (17625)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2391) وابن حبان (545، 3394) والطبراني في «الكبير» (6/ 97)، بإسناد صحيح.

(2)

ع: «فاسأل» .

(3)

في «الكبرى» (2379) و «المجتبى» (2587)، وأخرجه أيضًا أحمد (18945) وأبو داود (1646) والطبراني في «الكبير» (1/ 335)، وإسناده ضعيف لجهالة بعض رواته. انظر:«ضعيف أبي داود ــ الأم» للألباني (2/ 127).

(4)

برقم (1044)، ولم يرد في «السنن والأحكام» .

(5)

في «الكبرى» (2378) و «المجتبى» (2586)، وأخرجه أيضًا الروياني (776) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (8/ 234) ــ وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5529، 5530). وإسناده حسن في الشواهد.

ص: 575

وعن مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأيدي ثلاثةٌ: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السُّفلى، فأعط الفضل ولا تعجِزْ عن نفسك» . رواه الإمام أحمد وأبو داود

(1)

.

وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «من سأل مسألةً وهو عنها غنيٌّ كانت شَينًا في وجهه يوم القيامة» . رواه الإمام أحمد

(2)

.

وعن عبد الرحمن بن عوفٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «ثلاثٌ والذي نفس محمَّدٍ بيده، إن كنت لحالفًا عليهنَّ: لا ينقص مالٌ من صدقةٍ، فتصدَّقوا. ولا يعفو عبدٌ عن مظلمةٍ يبتغي بها وجه الله إلَّا رفعه الله بها. ولا يفتح عبدٌ باب مسألةٍ إلَّا فتح الله عليه بابَ فقر» . رواه الإمام أحمد

(3)

.

وعن أبي سعيدٍ الخدري قال: سرَّحتني أمِّي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله، فأتيته فقعدت. قال: فاستقبلني فقال: «من استغنى أغناه الله، ومن استعفَّ أعفَّه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقيَّةٍ فقد ألحف» .

(1)

أحمد (15890) وأبو داود (1649)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2440) وابن حبان (3362) والحاكم (1/ 408) بإسناد صحيح.

(2)

برقم (22420)، وأخرجه أيضًا الدارمي (1685) والبزار (4155) والطبراني في «الكبير» (2/ 91)، بإسناد صحيح.

(3)

برقم (1674)، وأخرجه أيضًا البزار (1033) وأبو يعلى (849) بإسناد ضعيف، فيه راوٍ متكلَّم فيه وآخر مجهول. وله شواهد تعضده، منها: حديث أبي كبشة الأنماري عند أحمد (18031) والترمذي (2325) والطبراني (22/ 341) بإسناد ضعيف بنحوه، وحديث أبي هريرة عند مسلم (2588) بذكر الأول والثاني، وحديثه أيضًا عند أحمد (9421) وابن حبان (3387) بذكر الثالث فقط. وانظر:«الصحيحة» (2543).

ص: 576

فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقيةٍ، ولم أسأله. رواه الإمام أحمد وأبو داود

(1)

.

وعن خالد بن عديٍّ الجهنيِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جاءه من أخيه معروف من

(2)

غير إشرافٍ ولا مسألةٍ فليقبَلْه ولا يردَّه، فإنَّما هو رزقٌ ساقه الله إليه». رواه الإمام أحمد

(3)

.

فهذا أحد المعنيين في قوله

(4)

: إنَّ من شرط الرِّضا ترك الإلحاح في المسألة، وهو أليق المعنيين وأولاهما

(5)

، لأنَّه قرنه بترك الخصومة مع الخلق، فلا يخاصمهم في حقِّه ولا يطلب منهم حقوقه.

والمعنى الثاني: أنَّه لا يلحُّ في الدعاء ولا يبالغ فيه، فإنَّ ذلك يقدح في رضاه. وهذا يصحُّ من وجهٍ دون وجهٍ، فيصحُّ إذا كان الداعي يلحُّ في الدُّعاء

(1)

أحمد (11060) وأبو داود (1628)، وأخرجه أيضًا النسائي (2595) والدارقطني (1988)، وإسناده حسن. وقد روي بعضه في «الصحيحين» من طريق آخر عن أبي سعيد، وقد سبق قريبًا. وانظر:«الصحيحة» (2314).

(2)

في النسخ عدا ع: «عن» ، والمثبت لفظ المصادر.

(3)

في «المسند» (17936)، وأخرجه أيضًا أبو يعلى (925) وابن حبان (3404) والحاكم (2/ 62)، من حديث بُسر بن سعيد عن خالد بن عدي الجهني. ورجاله ثقات، إلا أن أبا حاتم أعلَّه ــ كما في «العلل» (631) ــ فقال:«هذا خطأ، إنما يروى عن بُسر بن سعيد، عن ابن الساعدي، عن عُمر عن النبي صلى الله عليه وسلم» . ومن هذا الوجه أخرجه مسلم (1045/ 112). ولحديث عمر طرق أخرى عند البخاري (1473، 7163، 7164) ومسلم (1045/ 110، 111).

(4)

أي: قول صاحب «المنازل» ، ولفظه كما سبق:«وبالخلاص من المسألة والإلحاح» .

(5)

في النسخ عدا ج، ن، ع:«وأولاها» .

ص: 577

بأغراضه وحظوظه العاجلة. وأمَّا إذا ألحَّ على الله في سؤاله ما فيه رضاه والقرب منه، فإنّ ذلك لا يقدح في مقام الرِّضا أصلًا.

وفي الأثر: «إنَّ الله يحبُّ المُلحِّين في الدعاء»

(1)

.

وقال أبو بكرٍ الصدِّيق للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا رسول الله، قد ألححتَ على ربِّك، كفاك بعض مناشدتك لربِّك

(2)

. فهذا الإلحاح عين العبوديَّة.

وفي «سنن ابن ماجه»

(3)

من حديث أبي صالحٍ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» .

فإذا كان سؤاله يُرضيه لم يكن الإلحاح فيه منافيًا لرضاه، وحقيقة الرِّضا: موافقته سبحانه في رضاه. بل الذي ينافي الرِّضا: أنه يلحُّ عليه متحكِّمًا عليه، متخيِّرًا عليه

(4)

ما لا يعلم هل يرضيه أم لا؟ كمن يلحُّ على ربِّه في ولاية

(1)

روي عن عائشة مرفوعًا، ولا يصحُّ. أخرجه الفارسي في «المعرفة والتأريخ» (2/ 431) والعُقيلي في «الضعفاء» (6/ 437) والطبراني في «الدعاء» (20) وابن عدي في «الكامل» (10/ 453) والقضاعي في «مسند الشهاب» (1069) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1073) من طرق عن بقية بن الوليد عن يوسف بن السَّفْر ــ صرَّح به بقيةُ في بعض الطرق ودلَّسه في أخرى ــ عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة. إسناده واهٍ بمرة، يوسف بن السفر متروك منكر الحديث، بل متَّهم بالوضع. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2087) و «الضعيفة» (637).

(2)

أخرجه البخاري (2915) ــ وفيه موضع الشاهد ــ ومسلم (1763) من حديث ابن عباس بنحوه.

(3)

برقم (3827)، وأبو صالح هذا ليس السمَّان الزيَّات، صاحب أبي هريرة الثبت، وإنما هو الخُوزي، وفيه لين كما سبق بيانه (ص 280).

(4)

«متخيرا عليه» سقط من ل.

ص: 578

شخصٍ، أو إغنائه، أو قضاء حاجته. فهذا ينافي الرِّضا، لأنَّه ليس على يقينٍ أنَّ مرضاة الربِّ في ذلك.

فإن قيل: فقد يكون للعبد حاجةٌ يباح له سؤالها، فيلحُّ على ربِّه في طلبها حتَّى يُفتَح له من لذيذ مناجاته وسؤاله، والذُّلِّ بين يديه وتملُّقِه، والتوسُّلِ إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وتفريغ القلب له، وعدم تعلُّقه في حاجته بغيره= ما لم يحصل له بدون الإلحاح، فهل يكره له هذا الإلحاح وإن كان المطلوب حظًّا من حظوظه؟

قيل: هاهنا ثلاثة أمورٍ:

أحدها: أن يفنى بمطلوبه وحاجته عن مراد ربِّه ورضاه منه، ويجعل الربَّ تعالى وسيلةً إلى مطلوبه، بحيث يكون أهمَّ إليه منه. فهذا ينافي كمال الرِّضا به وعنه.

الثّاني: أن يُفتَح على قلبه حالَ السُّؤال مِن معرفته ومحبَّته والذُّلِّ له والخضوع والتّملُّق ما ينسيه حاجته، ويكون ما فُتح له من ذلك أحبَّ إليه من حاجته بحيث يحبُّ أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، وفرحُه بها أعظم من فرحه بحاجته لو عجِّلت له وفاته ذلك. فهذا لا ينافي رضاه.

قال بعض العارفين: إنَّه لتكون لي الحاجة إلى الله، فأسأله إيَّاها، فيفتح عليَّ من مناجاته ومعرفته والتذلُّل له والتملُّق بين يديه ما أُحبُّ معه أن يؤخِّر قضاءها، وتدوم لي تلك الحال.

وفي أثرٍ: «إنَّ العبد ليدعو ربَّه، فيقول الله لملائكته: اقضوا حاجةَ عبدي

ص: 579

وأخِّروها، فإنِّي أحبُّ أن أسمع دعاءه. ويدعوه آخر فيقول الله لملائكته: اقضوا حاجته وعجِّلوها له، فإنِّي أكره صوته»

(1)

.

وقد روى الترمذي وغيرُه

(2)

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يحبُّ أن يُسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج» .

وروى أيضًا

(3)

من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (30508) بإسناد صحيح عن ثابت البُناني عن عبيد الله بن عبيد مقطوعًا بلفظ: «إن جبريل يوكل بالحوائج، فإذا سأل المؤمن ربَّه، قال: احبس احبس، حبًّا لدُعائه أن يزداد. وإذا سأل الكافر قال: أعطه أعطه، بغضًا لدعائه» . وأخرجه البيهقي في «الشعب» (9561) من طريق آخر عن ثابت البُناني بلاغًا.

وروي مرفوعًا ولا يصحُّ. أخرجه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (بغية الباحث: 1068) ــ ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (9562) ــ من حديث جابر، وأبو نعيم في في «معرفة الصحابة» (7155) من حديث رجل من الأنصار، وإسناد كليهما واهٍ بمرَّة.

(2)

الترمذي (3571) وابن عدي في «الكامل» (3/ 336) والطبراني في «الكبير» (10/ 101) وفي «الأوسط» (5169) والبيهقي في «الشعب» (1086) من طريق حماد بن واقد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله. قال الترمذي:«هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث، وحماد ليس بالحافظ وقد خولف في روايته، فرواه أبو نعيم عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وهو أشبه» اهـ باختصار. وكذا رواه وكيع عن إسرائيل به، أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 670). وهذا الطريق المحفوظ واهٍ، فإن حكيم بن جبير ضعيف الحديث متروك. وانظر:«الضعيفة» (492، 1572).

(3)

أي: الترمذي (3382) وضعَّفه بقوله: هذا حديث غريب، وأخرجه أيضًا أبو يعلى (6396) وابن عدي في «الكامل» (8/ 482) والطبراني في «الدعاء» (45) من الطريق نفسه، فيه عُبيد بن واقد، ضعيف، قال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه.

وأخرجه أبو يعلى (6397) والطبراني في «الدعاء» (44) والحاكم (1/ 544) من طريقين آخرين يرتقي بهما إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى.

ص: 580

أن يستجيب اللهُ له عند الشدائد، فليكثر الدعاءَ في الرخاء».

وروى أيضًا

(1)

من حديث أنسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجتَه، حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسعَ نعله إذا انقطع» .

وفيه أيضًا

(2)

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما سئل الله شيئًا

(1)

برقم (3604)، وأخرجه أيضًا البزار (6876) أبو يعلى في «المسند» (3403) وابن حبان (866، 894، 895) والطبراني في «الأوسط» (5595) وابن عدي في «الكامل» (8/ 644) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1079) والضياء في «المختارة» (5/ 9) من طريقين عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن أنس. أعلَّه الترمذي وابن عدي وغيرهما بالإرسال، أي أن الصواب رواية جعفر عن ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وله شاهد مُسنَد من حديث أبي هريرة عند مُسدَّد في «مسنده» (المطالب: 3357) والبيهقي في «الشعب» (1080) من طريقين عنه، ولكنهما واهيان لا يُفرَح بهما. انظر:«الضعيفة» (1362) و «أنيس الساري» (3205).

وإنمَّا صحَّ نحوه عن أُمِّنا عائشة موقوفًا من قولها. أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 252) وأبو يعلى (4560) والبيهقي في «الشعب» (1081) بإسناد صحيح.

(2)

برقم (3548) من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. قال الترمذي:«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو المكي المُلَيكي، وهو ضعيف في الحديث» .

والجملة الأولى منه أخرجها أيضًا ابن أبي شيبة (29796) والطبراني في «الدعاء» (1296) والحاكم (1/ 498)، والجملة الثانية أخرجها الكلاباذي في «معاني الأخبار» (29) والحاكم (1/ 493)، كلتاهما من الطريق نفسه، وقد تعقَّب الذهبي تصحيح الحاكم في الموضعين بضعف عبد الرحمن المُلَيكي. وللجملة الثانية شواهد من حديث عائشة ومعاذ وعُبادة وأبي هريرة، ولكنها واهية. انظر:«أنيس الساري» (1096).

ص: 581

أحبَّ إليه من أن يُسأل العافية. وإنَّ الدُّعاءَ لينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، فعليكم عبادَ الله بالدُّعاء».

فإذا كان هذا محبَّة الربِّ للدُّعاء، فلا ينافي الإلحاحُ فيه الرِّضا.

الثالث: أن ينقطع طمعه عن الخلق، ويتعلَّق بربِّه في طلب حاجته، قد أفرده بالطَّلب، لا يلوي على ما وراء ذلك. فهذا قد يُنشئ

(1)

له المصلحةَ مِن نفس الطلب وإفراد الربِّ بالقصد.

والفرق بينه وبين الذي قبله: أنَّ ذلك قد فتح عليه بما هو أحبُّ إليه من حاجته، فهو لا يبالي بفواتها بعد ظفره بما فتح عليه. وبالله التوفيق.

فصل

قال

(2)

: (الدرجة الثالثة: الرِّضا برضا الله، فلا يرى العبد لنفسه سخطًا ولا رضًا، فيبعثه على ترك التحكُّم وحسم الاختيار وإسقاط التمييز ولو أدخل النار).

إنَّما كانت هذه الدرجة أعلى ممَّا قبلها من الدرجات عنده لأنَّها درجة صاحب الجمع، الفاني بربِّه عن نفسه وعمَّا منها، قد غيَّبه شاهدُ رضا الله بالأشياء في وقوعها على مقتضى مشيئته عن شاهد رضاه هو، فيشهد الرِّضا لله ومنه حقيقةً، ويرى نفسه فانيًا ذاهبًا مفقودًا. فهو يستوحش من نفسه، ومن

(1)

ش، ع:«تنشأ» .

(2)

«المنازل» (ص 41).

ص: 582

صفاتها، ومن رضاها، ومن سخطها، فهو عاملٌ على التغيُّب عن وجوده وعمَّا منه، مترامٍ إلى العدم المحض، قد تلاشى وجوده ونفسه وصفاتها في وجود مولاه الحقِّ وصفاته وأفعاله، كما يتلاشى ضوء السِّراج الضعيف في جرم الشمس، فغاب برضا ربِّه عن رضاه هو عن ربِّه في أقضيته وأقداره، وغاب بصفات ربِّه عن صفاته، وبأفعاله عن أفعاله، فتلاشى وجوده وصفاته وأفعاله في جنب وجود ربِّه وصفاته، بحيث صار كالعدم المحض.

وفي هذا المقام لا يرى لنفسه رضًا ولا سخطًا. فيوجب له هذا الفناء تركَ التحكُّم على الله بأمرٍ من الأمور، وتركَ التخيُّر عليه، فتذهب مادَّة التحكُّم وتفنى، وتنحسم مادَّة الاختيار وتتلاشى، وعند ذلك يسقط تمييز العبد ويتلاشى. هذا تقرير كلامه.

وبعد، فهاهنا أمران:

أحدهما: أنَّ هذا حالٌ يعرض، لا مقامٌ يُطلَب ويشمَّر إليه. فإنَّ هذه الحال متى عرضت له وارت عنه تمييزَه، ولا يمكن أن يدوم له ذلك، بل يقصر زمنه ويطول ثمَّ يرجع إلى تمييزه وعقله. وصاحب هذه الحال مغلوبٌ: إمَّا سكران بحاله، وإمَّا فانٍ عن وجوده.

والكمال وراء ذلك، وهو أن يكون فناؤه عن إرادته بإرادة ربِّه منه، فيكون باقيًا بوجودٍ آخر غير وجوده الطبيعيِّ، وهو وجودٌ مُطهَّرٌ كائنٌ بالله ولله ومع الله، وصاحبه في مقامِ «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش»

(1)

، قد فني

(1)

جزء من الحديث القدسي: «من عادى لي وليًّا» ، وقد سبق (1/ 408) تخريجه وبيان أن أصله في البخاري دون هذه الزيادة، فإنها لا تثبت.

ص: 583

عن وجوده الطبيعيِّ النفسيِّ، وبقي بهذا الوجود العلويِّ القدسيِّ، فيعود عليه تمييزُه وفرقانُه، ورضاه عن ربِّه تعالى، ومقاماتُ إيمانه. وهذا أكمل وأعلى من فنائه عنها كالسكران.

فإن قلت

(1)

: فهل يمكن وصولُه إلى هذا المقام من غير درب الفناء، وعبورُه إليه على غير جسره؟

قلت: اختلف في ذلك، فطائفةٌ ظنَّت أنَّه لا يصل إلى البقاء وإلى هذا الوجود المطهَّر إلَّا بعد عبوره على جسر الفناء، فعدُّوه لازمًا من لوازم السَّير إلى الله.

وقالت طائفةٌ: بل يمكن الوصول إلى الله

(2)

على غير درب الفناء. والفناءُ عندهم عارضٌ

(3)

، لا لازم. وسببه: قوَّة الوارد، وضعفُ المحلِّ، واستجلابُه بتعاطي أسبابه.

والتحقيق: أنَّه لا يصل إلى هذا المقام إلَّا بعد عبوره على جسر الفناء عن مراده بمراد سيِّده، فما لم يحصل له هذا الفناء فلا سبيل له إلى ذلك البقاء. وأمَّا فناؤه عن وجوده، فليس بشرط لذلك البقاء، ولا هو من لوازمه.

وصاحب هذا المقام هو في رضاه عن ربِّه بربِّه لا بنفسه

(4)

، فيرى ذلك

ص: 584

كلَّه من عين المنَّة والفضل، مستعمَلًا فيه، قد أقيم لا أنَّه قد قام هو به. فهو واقفٌ بين مشهدِ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} ومشهدِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]. والله المستعان.

* * * *

ص: 585