الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة التهذيب والتصفية
. وهو سبك العبوديَّة في كِير الامتحان طلبًا لإخراج ما فيها من الخبث والغشِّ.
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(1)
: (التهذيب: محنة أرباب البدايات، وهو شريعةٌ من شرائع الرِّياضة).
يريد أنَّه صعبٌ على المبتدي فهو له كالمحنة، وطريقةٌ
(2)
للمرتاض الذي قد مرَّن نفسه حتى اعتادت قبوله وانقادت إليه.
قال
(3)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ. الأولى: تهذيب الخدمة أن لا يخالجها جهالة، ولا يشوبها
(4)
عادة، ولا يقف عندها همَّة).
أي: تخليص العبوديَّة وتصفيتها من هذه الأنواع الثلاثة، وهي: مخالجة الجهالة، وشوب العادة، ووقوف همَّة الطالب عندها.
فإنَّ الجهالة متى خالطت العبوديَّة أوردها العبدُ غيرَ موردها، ووضعها في غير موضعها، وفعلها في غير مستحقِّها، وفعل أفعالًا يعتقد أنَّها صلاح، وهي إفسادٌ لخدمته وعبوديَّته، بأن يتحرَّك في موضع السُّكون، أو يسكن في
(1)
(ص 31) و «شرح التلمساني» (ص 185) واللفظ له.
(2)
أي: وأنَّه سهل مطروق مذلَّل. ولعل التأنيث للمبالغة.
(3)
«المنازل» (ص 31 - 32).
(4)
لفظ «المنازل» و «شرح القاساني» (ص 162): «تسوقها» . والمثبت من النسخ لفظ التلمساني في «شرحه» (ص 186).
موضع الحركة
(1)
. أو يَفْرُق في موضع جمعٍ، أو يجمع في موضع فرقٍ، أو يطير في موضع سُفُون
(2)
، أو يَسْفُن
(3)
في موضع طيرانٍ، أو يُقدم في موضع إحجامٍ، أو يُحجم في موضع إقدامٍ، أو يتقدَّم في موضع وقوفٍ، أو يقف في موضع تقدُّمٍ، ونحو ذلك من الحركات التي هي في حقِّ الخدمة كحركات الثقيل البغيض في حقوق الناس.
فالخدمة ما لم يصحبها علمٌ ثانٍ بآدابها وحقوقها، غير العلم بها نفسها، كانت في مظنَّة أن تُبعِد صاحبها وإن كان مراده بها التقرُّب. ولا يلزم حبوطُ ثوابها وأجرها، فهي إن لم تُبعِده عن الأجر والثواب أبعدته عن المنزلة والقربة. ولا تنفصل مسائل هذه الجملة إلَّا بمعرفةٍ خاصَّةٍ بالله وأمره، ومحبَّةٍ تامَّةٍ له، ومعرفةٍ بالنفس وما منها.
النوع الثاني: شوب العادة، وهو أن يمازج العبوديَّة حكمٌ من أحكام عوائد النفس تكون منفِّذةً لها معينةً عليها، وصاحبُها يعتقدها قربةً وطاعةً، كمن اعتاد الصَّوم مثلًا وتمرَّن عليه، فألِفَتْه النفس وصار لها عادةً تتقاضاها أتمَّ
(4)
اقتضاءٍ، فيظنُّ أنَّ هذا التقاضي محض العبوديَّة، وإنَّما هو تقاضي العادة.
(1)
ع: «التحرك» .
(2)
أي: في موضع دنوٍّ من الأرض أو التصاقٍ بها. من قولهم: سَفَنت الريح تسفُن ــ كنصر وعَلِم ــ إذا هبَّت على وجه الأرض.
(3)
ع: «في موضع سفوف، أو يَسُفَّ» . وله وجه، فإنه يقال: سفَّ الطائر كأَسَفَّ، إذا طار على وجه الأرض دانيًا منها، ولكن المصدر منه «سَفيف» ولم أر من ذكر «سفوفًا» .
(4)
ع: «أشدَّ» .
وعلامة هذا: أنَّه إذا عرض عليها طاعةً دون ذلك، وأيسرَ منه، وأتمَّ مصلحةً= لم تؤثرها إيثارًا
(1)
لِما اعتادته وألِفَته. كما يحكى
(2)
عن بعض الصوفية
(3)
قال: حججت كذا وكذا حجَّةً على التجريد، فبان لي أنَّ جميع ذلك كان مشوبًا بحظِّي، وذلك أنَّ والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماءٍ، فثَقُل ذلك على نفسي، فعلمت أنَّ مطاوعة نفسي في الحجَّات كان بحظِّ
(4)
نفسي وإرادتها، إذ لو كانت نفسي فانيةً لم يصعب عليها ما هو حقٌّ
(5)
في الشَّرع
(6)
.
النوع الثالث: وقوف همَّته عند الخدمة. وذلك علامة ضعفها وقصورها، فإنَّ العبد المحض لا تقف همَّته عند خدمته، بل همَّته
(7)
أعلى من ذلك، إذ هي طالبةٌ لرضا مخدومه، فهو دائمًا مستصغرٌ خدمته له، ليس واقفًا عندها. والقناعة تُحمَد من صاحبها إلَّا في هذا الموضع، فإنَّها عين الحرمان، فالمحبُّ لا يقنع بشيءٍ دون محبوبه، فوقوف همَّة العبد مع خدمته وأُجرتِها سقوط فيها وحرمان.
(1)
ع: «إيثارَها» .
(2)
ع: «حُكي» .
(3)
ع: «بعض الصالحين من الصوفية» .
(4)
ش، ج، ن:«لحظ»
(5)
كذا في ن، ع، وهو لفظ «القشيرية». وفي سائر النسخ:«لحق» أو «بحق» أو محتمل لهما.
(6)
ذكر القشيري (ص 309) أنه يُحكى ذلك عن أبي محمد المُرتعش الزاهد (ت 328).
(7)
ل: «همه» .