المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المشهد الثَّاني: مشهد رسوم الطَّبيعة ولوازم الخلقة

- ‌المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

- ‌المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة

- ‌المشهد السادس: مشهد التوحيد

- ‌المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

- ‌المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصِّفات

- ‌المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدُّد(2)شواهده

- ‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

- ‌ منزل الإنابة

- ‌ منزل التّذكُّر

- ‌(أبنية التذكُّر

- ‌المفسد الخامس: كثرة النوم

- ‌ منزل الاعتصام

- ‌الاعتصامُ(2)بحبل الله

- ‌ اعتصام العامَّة

- ‌اعتصام الخاصَّة

- ‌اعتصام خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الفرار

- ‌(فرار العامَّة

- ‌فرار الخاصَّة

- ‌فرار خاصَّة الخاصَّة

- ‌ رياضة العامة

- ‌«منزلة الرياضة»

- ‌رياضة الخاصَّة:

- ‌رياضة خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة السَّماع

- ‌ سماع العامّة

- ‌سماع الخاصَّة

- ‌سماع خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الحزن

- ‌ حزن العامَّة

- ‌ حزن أهل الإرادة

- ‌ التحزُّن للمعارضات

- ‌ منزلة الخوف

- ‌ الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة

- ‌(الدرجة الثانية: خوف المكر

- ‌ منزلة الإشفاق

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌ الدرجة الثالثة

- ‌ منزلة الخشوع

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الإخبات

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الزُّهد

- ‌من أحسن ما قيل في الزُّهد

- ‌ الدرجة الأولى: الزُّهد في الشُّبهة بعد ترك الحرام

- ‌(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول

- ‌(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد

- ‌ منزلة الورع

- ‌ الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح

- ‌(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به

- ‌فصلالخوف يثمر الورع

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرجاء

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرغبة

- ‌ الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر

- ‌(الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال

- ‌(الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشُّهود

- ‌ منزلة الرِّعاية

- ‌ منزلة المراقبة

- ‌ الدرجة الأولى: مراقبة الحقِّ تعالى في السَّير إليه

- ‌الدرجة الثانية: مراقبة نظر الحقِّ إليك برفض المعارضة

- ‌الاعتراض ثلاثة أنواعٍ سارية في الناس

- ‌النوع الأوَّل: الاعتراض على أسمائه وصفاته

- ‌النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره

- ‌(الدرجة الثالثة: مراقبةُ الأزل بمطالعة عين السبق

- ‌ منزلة تعظيم حرمات الله

- ‌(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره

- ‌(الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة

- ‌ منزلة الإخلاص

- ‌ الدّرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة التهذيب والتصفية

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الاستقامة

- ‌ الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد

- ‌(الدرجة الثانية: استقامة الأحوال

- ‌(الدرجة الثالثة: استقامةٌ بترك رؤية الاستقامة

- ‌ منزلة التوكُّل

- ‌الدرجة الثانية: إثبات الأسباب والمسبَّبات

- ‌الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد

- ‌الدرجة الخامسة: حسن الظنِّ بالله

- ‌الدرجة السّادسة: استسلام القلب له

- ‌الدرجة السابعة: التفويض

- ‌ الدرجة الأولى: التوكُّل مع الطلب ومعاطاة السبب

- ‌(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب

- ‌ منزلة التفويض

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الثِّقة بالله

- ‌ الدرجة الأولى: درجة الإياس

- ‌(الدرجة الثانية: درجة الأمن

- ‌(الدرجة الثالثة: معاينة أزليَّة الحقِّ

- ‌ منزلة التسليم

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الصبر

- ‌(الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة

- ‌(الدرجة الثالثة: الصبرُ في البلاء

- ‌ منزلة الرِّضا

- ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

- ‌ منزلة الشُّكر

- ‌ الدرجة الأولى: الشُّكر على المحابِّ

- ‌(الدرجة الثانية: الشُّكر في المكاره

- ‌(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم

- ‌ منزلة الحياء

- ‌ منزلة الصِّدق

- ‌من علامات الصِّدق: طمأنينة القلب إليه

- ‌فصلفي كلماتٍ في حقيقة الصِّدق

- ‌ الدرجة الأولى: صدق القصد

- ‌(الدرجة الثانية: أن لا يتمنَّى الحياة إلا للحقِّ

- ‌(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق

الفصل: ‌ منزلة الحياء

فصل

ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :‌

‌ منزلة الحياء

.

قال الله تعالى: {(13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ} [العلق: 14]

(1)

.

وفي «الصحيحين»

(2)

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال:«دعه، فإنَّ الحياء من الإيمان» .

وفيهما

(3)

عن عمران بن الحصينٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلَّا بخيرٍ» .

وفيهما

(4)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضعٌ وسبعون ــ أو: بضعٌ وستُّون ــ شعبةً، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان» .

وفيهما

(5)

عن أبي سعيد رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه.

(1)

بهذه الآية صدَّر صاحب «المنازل» باب الحياء (ص 42). وزاد في ع: «وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}» .

(2)

البخاري (24) ومسلم (36).

(3)

البخاري (6117) ومسلم (37).

(4)

البخاري (9) ومسلم (35).

(5)

البخاري (6102) ومسلم (2320).

ص: 611

وفي «الصحيح»

(1)

عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ممَّا أدرك الناسُ من كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستَحْيِ فاصنع ما شئت» . وفي هذا قولان:

أحدهما: أنَّه أمرُ تهديدٍ، ومعناه الخبر، أي: من لم يستحي صنع ما شاء.

والثّاني: أنَّه أمر إباحةٍ، أي: انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله، فإن كان ممَّا لا تستحيي منه فافعله. والأوَّل أصحُّ، وهو قول الأكثرين.

وفي «الترمذيِّ»

(2)

مرفوعًا: «استحيُوا من الله حقَّ الحياء» ، قالوا: إنَّا نستحيي يا رسول الله، قال:«ليس ذلك، ولكنَّ من استحيا من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء» .

فصل

والحياء من الحياة، ومنه «الحيا» للمطر، لكن هو مقصور. وعلى حسب حياة القلب يكون

(3)

فيه قوَّةُ خُلُق الحياء، وقلَّةُ الحياء من موت القلب والرُّوح، فكلَّما كان القلب أحيى كان الحياء أتمَّ.

(1)

للبخاري (6120) من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه.

(2)

برقم (2458)، وأخرجه أيضًا أحمد (3671) والبزار (2025) وأبو يعلى (5047) والحاكم (4/ 323) من حديث عبد الله بن مسعود بإسناد ضعيف. قال الترمذي:«هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه» .

وقد روي من وجوه أخرى مرفوعًا بنحوه، ولكنها طرق واهية لا يُفرح بها. انظر: تخريج محققي «المسند» و «أنيس الساري» (3503).

(3)

في النسخ عدا ش، ع:«ويكون» . وفي الأصل: «ويكون يكون» مكرَّر.

ص: 612

قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولَّد بينهما حالةٌ تسمَّى الحياء

(1)

.

وحقيقته: خلقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حقِّ صاحب الحقِّ.

ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يُستحيا منه

(2)

.

وعمارة القلب بالهيبة والحياء، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خيرٌ

(3)

.

وقال ذو النُّون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربِّك. والحبُّ يُنطق، والحياء يُسكت، والخوف يُقلق

(4)

.

وقال السَّرِيُّ: إنَّ الحياء والأنس يَطرُقان القلب، فإن وجدا فيه الزُّهد والورع وإلَّا رحلا

(5)

.

وفي أثرٍ إلهيٍّ يقول الله عز وجل: «ابنَ آدم، إنَّك ما استحييتَ منِّي أَنْسيتَ

(1)

«شعب الإيمان» (7348) و «القشيرية» (ص 493). ولعل المؤلف صادر عن «رياض الصالحين» (باب الحياء)، فإن فيه الأحاديث الأربعة الأولى التي ذكرها المؤلف بنفس السياق واللفظ، وفيه قول الجنيد هذا، والقول الآتي في حقيقة الحياء.

(2)

«القشيرية» (ص 489)، وأسنده البيهقي في «شعب الإيمان» (8662) عن ابن الأعرابي قال: كان يقال.

(3)

أسنده القشيري (ص 489) عن ابن عطاء بنحوه.

(4)

«القشيرية» (ص 489). والشطر الأول أسنده البيهقي أيضًا في «الشعب» (7350). والشطر الثاني أسنده ابن عساكر في «تاريخه» (17/ 430)، وفيه:«والشوق يغلغل (كذا، ولعله: يقلقل)» بدل «الخوف يقلق» .

(5)

أسنده القشيري (ص 489).

ص: 613

الناس عيوبَك، وأَنسيت بقاعَ الأرض ذنوبَك، ومحوتُ من أمِّ الكتاب زلَّاتك. وإلَّا ناقشتُك الحساب يوم القيامة»

(1)

.

وفي أثرٍ آخر: «أوحى الله إلى عيسى ــ عليه السلام ــ: عِظ نفسك، فإن اتعظتَ، وإلَّا فاستحي منِّي أن تعظ الناس»

(2)

.

وقال الفضيل بن عياضٍ رحمه الله: خمسٌ من علامات الشِّقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلَّة الحياء، والرغبة في الدُّنيا، وطول الأمل

(3)

.

وفي أثرٍ إلهيٍّ: «ما أنصفني عبدي، يدعوني فأستحيي أن أردَّه، ويعصيني ولا يستحيي منِّي»

(4)

.

وقال يحيى بن معاذٍ رحمه الله: من استحيا من الله مطيعًا استحيا الله

(5)

منه وهو مذنب

(6)

. وهذا الكلام يحتاج إلى شرحٍ. ومعناه: أنَّ من غلب عليه خلق الحياء من الله حتَّى في حال طاعته فقلبُه مطرقٌ بين يديه إطراق مستحيٍ خجلٍ، فإنَّه إذا واقع ذنبًا استحيا الله عز وجل من نظره إليه في تلك الحال لكرامته عليه، فيستحيي أن يرى مِن وليِّه ومَن يكرُم عليه ما يشينه عنده. وفي

(1)

أسنده البيهقي في «الشعب» (7361) والقشيري (ص 490) عن أبي سليمان الداراني.

(2)

«القشيرية» (ص 491). أسنده أحمد في «الزهد» (ص 71) وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 382) عن مالك بن دينار.

(3)

أسنده ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (221) والبيهقي في «الشعب» (7354) والقشيري (ص 492).

(4)

«القشيرية» (ص 492) عن بعض الكتب.

(5)

الاسم المعظَّم من ج، ن، ع.

(6)

«القشيرية» (ص 492).

ص: 614

الشاهد شاهدٌ بذلك، فإنَّ الرجل إذا اطَّلع على أخصِّ الناس به، وأحبِّهم إليه، وأقربهم منه من صاحبٍ أو ولدٍ أو من يحبُّه، وهو يخونه، فإنَّه يلحقه من ذلك الاطِّلاع عليه حياءٌ عجيب، حتَّى كأنَّه هو الجاني، وهذا غاية الكرم.

وقد قيل: إنَّ سبب هذا الحياء أنّه يمثِّل نفسه أنه

(1)

الخائن

(2)

، فيلحقه الحياء، كما إذا شاهد الرجل مضروبًا

(3)

، أو من حَصِر

(4)

على المنبر عن الكلام، فإنَّه يخجل أيضًا تمثيلًا لنفسه بتلك الحالة.

وهذا قد يقع، ولكنَّ حياء من اطّلع على محبوب له

(5)

يخونه ليس من هذا، فإنّه لو اطَّلع على غيره ممَّن هو فارغ البال منه لم يلحقه هذا الحياء، ولا قريبٌ منه، وإنَّما يلحقه مقتُه وسقوطه من عينه. وإنَّما سببه ــ والله أعلم ــ شدَّة تعلُّق قلبه ونفسه به، فينزل الوهمُ فعله بمنزلة فعله هو، ولا سيَّما إن قدِّر حصول المكاشفة بينهما، فإنَّ عند حصولها يهيج خُلُق الحياء منه تكرُّمًا، فعند تقديرها ينبعث ذلك الحياء. هذا في حقِّ الشاهد.

وأمَّا حياء الربِّ من عبده ــ تبارك وتعالى ــ فذاك نوعٌ آخر، لا تدركه

(1)

الأصل، ل، ش:«وهو» . ولعل المثبت من ج، ن أولى.

(2)

السياق في ع: «أنه يمثل نفسه في حال طاعته كأنه يعصي الله عز وجل، فيستحيي منه في تلك الحال، ولهذا شُرع الاستغفار عقيب الأعمال الصالحة والقُرَب التي يتقرَّب بها العبد إلى الله عز وجل. وقيل: إنه يمثل نفسه خائنًا» . إقحام لا يمت إلى سياق المؤلف بصلة!

(3)

ع: «رجلًا مضروبًا وهو صديق له» .

(4)

في النسخ عدا الأصل، ل:«أُحصر» .

(5)

ع: «محبوبه وهو» .

ص: 615

الأفهام ولا تكيِّفه العقول، فإنَّه حياء كرمٍ وبرٍّ وجودٍ وجلالٍ، فإنَّه حييٌّ كريمٌ يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردَّهما صفرًا

(1)

، ويستحيي أن يعذِّب ذا شيبةٍ شابت في الإسلام

(2)

.

وكان يحيى بن معاذٍ رحمه الله يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحيي هو

(3)

.

وفي أثرٍ: «من استحيا من الله استحيا الله منه»

(4)

.

وقد قُسِّم الحياء على عشرة أوجهٍ: حياء جنايةٍ، وحياء تقصيرٍ، وحياء جلالٍ

(5)

، وحياء كرمٍ، وحياء حشمةٍ، وحياء استصغارٍ للنفس واحتقارٍ لها،

(1)

يشير إلى حديث سلمان عند أحمد (23714) وأبي داود (1488) والترمذي (3556) وابن حبان (876) والحاكم (1/ 487، 535) وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا، والصواب: الموقوف، بل في رواية صحيحة عند البيهقي في «الأسماء والصفات» (156) أنه قال: «أجد في التوراة أن الله حيي كريم

» إلخ.

(2)

لعله يشير إلى أنس مرفوعًا: «يقول الله: إني لأستحيي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام فأعذبهما بعد ذلك» . أخرجه ابن أبي الدنيا في «العمر والشيب» (2) والحارث (بغية الباحث: 1084) وأبو يعلى (2764) والدينوري في «المجالسة» (3411) وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 386 - 387) وغيرهم من طريقين واهيين بمرَّة. انظر: «الموضوعات» لابن الجوزي (1/ 279) و «الضعيفة» للألباني (5883).

(3)

«القشيرية» (ص 492).

(4)

لم أقف عليه، ولكن يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الثلاثة الذين أقبلوا على مجلسه صلى الله عليه وسلم فجلس اثنان وذهب واحد:«وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه» . أخرجه البخاري (66) ومسلم (2176) من حديث أبي واقد الليثي.

(5)

كذا في جميع النسخ، وسيأتي قريبًا بلفظ «الإجلال» .

ص: 616

وحياء محبَّةٍ، وحياء عبوديَّةٍ، وحياء شرفٍ وعزَّةٍ، وحياء المستحيي من نفسه

(1)

.

فأمَّا حياء الجناية: فمنه حياء آدم لمَّا فرَّ هاربًا في الجنَّة، قال الله: أفرارًا منِّي يا آدم؟ قال: لا يا ربِّ، بل حياءً منك

(2)

.

وحياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك

(3)

.

(1)

ذكر القشيري (ص 491 - 492) سبعة أنواع، تابعه المؤلف في الستة الأولى، والسابع: حياء الإنعام، وفسَّره بحياء الرب سبحانه.

(2)

«القشيرية» (ص 491). أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (1/ 15) والحاكم (2/ 262) عن الحسن عن عُتَيِّ بن ضَمْرة عن أبي بن كعب مرفوعًا. قال الحاكم: «صحيح الإسناد» . ظاهره كذلك، ولكنه معلول بالاختلاف عن الحسن فيه، فروي عنه مسندًا كما سبق، وروي عنه مقطوعًا، وعنه عن أُبي بن كعب مرفوعًا، وعنه عن أُبي موقوفًا. والموقوف أصحُّ على انقطاع فيه بين الحسن وأُبي. انظر:«الزهد» لأحمد (ص 63) و «الرقة والبكاء» لابن أبي الدنيا (302) و «تعظيم قدر الصلاة» للمروزي (853) و «تفسير الطبري» (10/ 111، 113) و «تاريخ دمشق» (7/ 405، 406) و «تفسير ابن كثير» (الأعراف: 22، طه: 120).

وروي أيضًا عن مجاهد مقطوعًا من قوله، أخرجه ابن أبي الدنيا في «الرقة» (326) وفي «العقوبات» (105) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (5/ 113) بإسناد حسن.

(3)

«القشيرية» (ص 491). وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1357) وابن الأعرابي في «معجمه» (1827) والآجري في «الشريعة» (894، 895) عن سلمان الفارسي موقوفًا عليه من قوله، وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم (4/ 586) عن سلمان مرفوعًا، وهو خطأ من بعض الرواة، والصواب الوقف.

وروي أيضًا من حديث جابر مرفوعًا عند الطبراني في «الكبير» (2/ 184)«والأوسط» (3568) وأبي نعيم في «معرفة الصحابة» (1403)، وإسناده ضعيف.

ص: 617

وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه يكون حياؤه منه.

وحياء الكرم: كحياء النبيِّ صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطوَّلوا عنده، فقام واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا

(1)

.

وحياء الحشمة: كحياء عليِّ بن أبي طالبٍ أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي لمكان ابنته منه

(2)

.

وحياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربِّه حين يسأله حوائجه، احتقارًا لشأن نفسه واستصغارًا لها. وفي أثرٍ إسرائيليٍّ: إنَّ موسى قال: يا ربِّ، إنّه لتعرض لي الحاجة من الدُّنيا، فأستحيي أن أسألك يا ربِّ، فقال الله تعالى:«سلني حتَّى ملح عجينك وعلف شاتك»

(3)

.

وقد يكون لهذا النوع من الحياء سببان. أحدهما: استحقار السائل نفسه

(4)

. والثاني: استعظامه مسؤولَه.

وأمَّا حياء المحبة: فهو حياء المحبِّ من محبوبه، حتَّى إنَّه إذا خطر على قلبه في حال غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحسَّ به في وجهه، ولا يدري

(5)

ما

(1)

كما في حديث أنس عند البخاري (5163) ومسلم (1365/ 87 عقب الحديث 1427).

(2)

كما في حديثه عند البخاري (269) ومسلم (303).

(3)

«القشيرية» (ص 492).

(4)

زاد في ع: «واستعظام ذنوبه وخطاياه» .

(5)

ش: «يدرك» .

ص: 618

سببه. وكذلك يعرض للمحبِّ عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعةٌ شديدةٌ، ومنه قولهم: جمالٌ رائع. وسبب هذا الحياء والرَّوعة ممَّا لا يعرفه أكثر الناس. ولا ريب أنَّ للمحبة سلطانًا قاهرًا للقلب أعظم من سلطان من يقهر البدن، فأين من يقهر قلبك وروحك إلى من يقهر بدنك؟ ولذلك تعجَّبت الملوك والجبابرة من قهرهم للخلق وقهر المحبوب لهم، وذلِّهم له. فإذا فاجأ المحبوبُ محبَّه ورآه بغتةً أحسَّ القلب بهجوم سلطانه عليه، فاعتراه روعةٌ وخوف. وسألنا يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة، فذكرت أنا هذا الجواب، فتبسَّم ولم يقل شيئًا.

وأمَّا الحياء الذي يعتريه منه وإن كان قادرًا عليه كأَمَته وزوجته، فسببه ــ والله أعلم ــ أنَّ هذا السُّلطان لمَّا زال خوفُه عن القلب بقيت هيبته واحتشامه، فتولَّد منها الحياء. وأمَّا حصول ذلك له في غيبة المحبوب فظاهر، لاستيلائه على قلبه، فوهمُه يغالطه عليه ويكابره حتَّى كأنَّه معه.

وأمَّا حياء العبودية: فهو حياءٌ ممتزجٌ بين محبَّةٍ وخوفٍ، ومشاهدة عدم صلاح عبوديَّته لمعبوده، وأنَّ قدره أعلى وأجلُّ منها. فعبوديَّته له توجب استحياءه منه لا محالة.

وأمّا حياء الشرف والعزَّة: فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذلٍ أو عطاءٍ وإحسانٍ

(1)

، فإنَّه يستحيي مع بذله حياءَ شرفِ نفسٍ وعزَّةٍ. وهذا له سببان:

أحدهما هذا. والثاني: استحياؤه من الآخذ

(2)

، حتَّى إنَّ بعض أهل

(1)

ش: «أو إحسان» .

(2)

زيد في ع: «حتى كأنه هو الآخذ السائل» .

ص: 619

الكرم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياءً منه. وهذا يدخل في حياء التكرُّم، لأنَّه يستحيي من خجلة الآخذ.

وأمَّا حياء المرء من نفسه: فهو حياء النُّفوس الشريفة العزيزة

(1)

مِن رضاها لنفسها بالنقص وقَنَعِها بالدُّون، فيجد نفسه مستحييًا من نفسه، حتّى كأنَّ له نفسان

(2)

، يستحيي بإحداهما من الأخرى. وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإنَّ العبد إذا استحيا من نفسه، فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.

فصل

قال صاحب «المنازل» رحمه الله

(3)

: (الحياء من أوَّل مدارج أهل الخصوص؛ يتولَّد من تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ).

إنَّما جعل الحياء من أوَّل مدارج أهل الخصوص لِما فيه من ملاحظة حضور من يستحيي منه، وأوَّلُ سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحقَّ سبحانه حاضرًا معهم، وعليه بناءُ سلوكهم.

وقوله: (إنَّه يتولَّد من تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ) يعني: أنَّ الحياء حالةٌ تحصل من امتزاج التعظيم بالمودَّة، فإذا اقترنا تولَّد بينهما الحياء.

والجنيد رحمه الله يقول: إنَّ تولُّده من مشاهدة النِّعم ورؤية التقصير

(4)

.

(1)

زيد في ع: «الرفيعة» .

(2)

كذا في النسخ، والجادة: النصب.

(3)

(ص 42).

(4)

سبق نصُّ كلامه قريبًا.

ص: 620

ومنهم من يقول: تولُّده من شعور القلب بما يَستحيي منه، وشدَّة نفرته عنه، فيتولَّد من هذا الشُّعور والنُّفرة حالةٌ تسمَّى الحياء.

ولا تنافي بين هذه الأقوال، فإنَّ للحياء عدَّة أسبابٍ قد تقدَّم ذكرُها، فكلٌّ أشار إلى بعضها.

فصل

قال

(1)

: (وهو على ثلاث درجاتٍ. الدرجة الأولى: حياءٌ يتولَّد من علم العبد بنظر الحقِّ إليه، فيجذبه إلى تحمُّل المجاهدة، ويحمله على استقباح الجناية، ويستكفُّه عن الشكوى).

يعني: أنَّ العبد متى علم أنَّ الربَّ تعالى ناظرٌ إليه أورثه هذا العلمُ حياءً منه، يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة، مثل العبد إذا عمل الشُّغل بين يدي سيِّده فإنَّه يكون نشيطًا فيه متحمِّلًا لأعبائه

(2)

، بخلاف ما إذا كان غائبًا عن سيِّده. والربُّ تعالى لا يغيب نظره عن عبده، ولكن يغيب نظر القلب والتفاته إلى نظره سبحانه إلى العبد

(3)

.

وكذلك يحمله على استقباح جنايته، وهذا الاستقباح الحاصل بالحياء قدرٌ زائدٌ على استقباح ملاحظة الوعيد، وهو فوقه. وأرفع منه درجةً: الاستقباح الحاصل عن المحبَّة، فاستقباح المحبِّ أتمُّ من استقباح الخائف.

ص: 621

وكذلك هذا الحياء يكفُّ العبد أن يشتكي إلى غير الله، فيكون قد شكا الله إلى خلقه. ولا يمنع الشكوى إليه سبحانه، فإنَّ الشكوى إليه فقرٌ وذلٌّ وفاقةٌ وعبوديَّة، فالحياء منه

(1)

لا ينافيها.

فصل

قال

(2)

: (الدرجة الثانية: حياءٌ يتولَّد من النظر في علم القرب، فيدعوه إلى ركوب المحبَّة، ويربطه بروح الأنس، ويكرِّه إليه ملابسة الخلق).

النَّظر في علم القرب: تحقُّق القلب بالمعيَّة الخاصَّة مع الله، فإنَّ المعيَّة نوعان: عامَّةٌ، وهي معيَّة العلم والإحاطة، كقوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقولِه:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].

وخاصَّةٌ: وهي معيَّة القرب، كقوله:{(127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ} [النحل: 128]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ} [البقرة: 153]، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ فهذه معيَّة قربٍ تتضمَّن الموالاة والنصر والحفظ.

وكلا المعيَّتين مصاحَبةٌ منه للعبد، لكنَّ هذه مصاحبة اطِّلاعٍ وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاةٍ ونصرٍ وإعانة. فـ «مع» في لغة العرب للصُّحبة اللائقة، لا تُشعر بامتزاجٍ ولا اختلاطٍ، ولا مجاورةٍ ولا مجانبةٍ. فمن فهم منها شيئًا من

(1)

زاد في ع: «في مثل ذلك» ، إقحام يفسد المعنى.

(2)

«المنازل» (ص 42) و «شرح التلمساني» (ص 238) واللفظ له.

ص: 622

هذا فمن سوء فهمه أُتي.

وأمّا القرب، فلا يقع في القرآن إلَّا خاصًّا. وهو نوعان: قربه من داعيه بالإجابة، وقربه من عابده بالإثابة.

فالأوَّل كقوله: {(185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. ولهذا نزلت جوابًا للصحابة رضي الله عنهم، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربُّنا

(1)

قريبٌ فنناجيه؟ أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية

(2)

.

والثاني كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد»

(3)

، و «أقرب ما يكون الربُّ من عبده في جوف اللَّيل»

(4)

. فهذا قربه من أهل طاعته.

وفي «الصحيح»

(5)

: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: «أيُّها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، إنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنَّ الذي تدعونه سميعٌ قريبٌ، أقرب إلى

(1)

ل: «أربُّنا» .

(2)

انظر: «تفسير الطبري» (3/ 222 - 223) وابن أبي حاتم (1/ 314) والبغوي (1/ 204).

(3)

أخرجه مسلم (482) من حديث أبي هريرة.

(4)

أخرجه الترمذي (3579) والنسائي (572) وابن خزيمة (1147) والحاكم (1/ 309) وغيرهم من حديث عمرو بن عبسة بإسناد جيِّد. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

(5)

للبخاري (2992) ومسلم (2704) واللفظ به أشبه.

ص: 623

أحدكم من عنق راحلته».

فهذا قربٌ خاصٌّ بالداعي دعاءَ العبادة والثناء والحمد. وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الربِّ لخلقه، واستواءَه على عرشه، بل يجامعه ويلازمه، فإنَّه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعضٍ ــ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ــ، ولكنَّه نوعٌ آخر. والعبد في الشاهد يجد روحه قريبةً جدًّا من محبوبٍ بينه وبينه مفاوز تنقطع فيها أعناق المطيِّ، ويجده أقرب إليه من جليسه، كما قيل

(1)

:

ألا ربّ من يدنو ويزعم أنَّه

يحبُّك والنائي أحبُّ وأقرب

وأهل السنة أولياءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحبَّاؤه الذين

(2)

هو عندهم أولى بهم من أنفسهم وأحبُّ إليهم منها= يجدون نفوسهم أقرب إليه وهم في الأقطار النائية عنه مِن جيران حجرته في المدينة. والمحبُّون المشتاقون للكعبة البيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقربَ إليها من جيرانها ومَن حولها. هذا مع عدم تأتِّي القربِ منها، فكيف بمن يقرُب من خلقه كيف يشاء وهو مستوٍ على عرشه؟! وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة معطِّلٍ بعيدٍ من الله، خليٍّ من محبَّته ومعرفته.

والقصد: أنَّ هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبَّة، وكلَّما ازداد حبًّا ازداد قربًا، فالمحبَّة بين قربين: قربٍ قبلها وقربٍ بعدها، وبين معرفتين:

(1)

أنشده بعضهم وهو يودِّع الكعبة. انظر: «طبقات الصوفية» للسلمي (ص 394).

(2)

ل، ش:«الذي» .

ص: 624

معرفةٍ قبلها حملت عليها ودعت إليها

(1)

، ومعرفةٍ بعدها هي من نتائجها وآثارها.

وأمَّا (ربطه بروح الأنس)، فهو تعلُّق قلبه بالأنس بالله، تعلُّقًا لازمًا لا يفارقه، بل يجعل بين القلب والأنس رابطة لازمة. ولا ريب أنَّ هذا يكرِّه إليه ملابسة الخلق، بل يجد الوحشة في ملابستهم بقدر أنسه بربِّه، وقرَّةِ عينه بحبِّه، وقربه منه، فإنَّه ليس مع الله غيره. فإن لابسهم لابسهم برسمه دون سرِّه وروحه وقلبه، فقلبُه وروحه في ملأٍ، وبدنه ورسمه في ملأٍ.

فصل

قال

(2)

: (الدرجة الثالثة: حياءٌ يتولَّد من شهود الحضرة، وهي التي تشوبها هيبة، ولا تقارنها تفرقة، ولا يوقف لها على غاية).

شهود الحضرة: انجذاب الرُّوح والقلب من الكائنات، وعكوفُه على ربِّ البريَّات، فهو في حضرة قربه مشاهدًا لها. وإذا وصل القلب إليها غشيَتْه الهيبة وزالت عنه التفرقة، إذ ما مع الله سواه، فلا يخطر بباله في تلك الحال سوى الله وحده. وهذا مقام الجمعيَّة.

وأمَّا قوله: (ولا يوقف لها على غاية)، يعني أنَّ كلَّ مَن وصل إلى مطلوبه وظفر به وصل إلى الغاية، إلَّا صاحب هذا الشهود، فإنَّه لا يقف بحضرة الرُّبوبيَّة على غاية، فإنَّ ذلك مستحيل. بل إذا شهد تلك

(3)

الحضرة التي هي

(1)

زاد في ع: «ودلَّت عليها» .

(2)

«المنازل» (ص 43) و «شرح التلمساني» (ص 239) واللفظ له.

(3)

زاد في ع: «الروابي، ووقف على تلك الربوع، وعاين» .

ص: 625

غاية الغايات، شارف أمرًا لا غاية له ولا نهاية، والغايات والنِّهايات كلُّها إليه تنتهي، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، فانتهت إليه الغايات والنِّهايات. وليس له سبحانه غايةٌ ولا نهاية، لا في وجوده، ولا في مزيده وَجُوده، إذ هو الأوَّل الذي ليس قبله شيءٌ، والآخر الذي ليس بعده شيء، ولا نهاية لمجده وحمده وعطائه. بل كلَّما ازداد منه قربًا لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك، وهكذا أبدًا لا يقف على غايةٍ ولا نهايةٍ. ولهذا جاء أنَّ أهل الجنَّة في مزيدٍ دائمٍ بلا انتهاء

(1)

، فإنَّ نعيمهم متَّصلٌ بمن لا نهاية لفضله ولا لعطائه

(2)

، ولا لأوصافه، فتبارك ذو الجلال والإكرام!

* * * *

(1)

قال تعالى عن أهل النار أنه يقال لهم: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30]، قال عبد الله بن عمرو:«هم في مزيد من العذاب أبدًا» ، ذكره ابن كثير في «تفسيره». فإذا كان أهل النار في مزيد من العذاب أبدًا فأهل النعيم في مزيد من النعيم أبدًا لا محالة. وقال يحيى بن سلَّام (ت 200) في «تفسيره» (1/ 452) عند قوله تعالى:{عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} : «أهل الجنة أبدًا في مزيد» .

(2)

زاد في ع: «ولا لمزيده» .

ص: 626