الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله:
(فرار العامَّة
من الجهل إلى العلم عقدًا وسعيًا)، الجهل نوعان: عدم العلم بالحقِّ النافع، وعدم العمل بموجَبه ومقتضاه، فكلاهما جهلٌ لغةً وعرفًا وشرعًا وحقيقةً. قال موسى:{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} لمَّا قال له قومه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا} [البقرة: 67] أي: المستهزئين.
وقال يوسف الصِّدِّيق: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] أي من مرتكبي ما حرَّمتَ عليهم.
وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]، قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ ما عُصي الله به فهو جهالة
(1)
. وقال غيره: أجمع الصحابة على أنَّ كلَّ من عصى الله فهو جاهل. وقال الشاعر
(2)
:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا
…
فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
وسمِّي عدم مراعاة العلم جهلًا، إمَّا لأنه لم يَنتفع به فنزِّل منزلة الجاهل، وإمَّا لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله.
فالفرار المذكور: الفرار من الجهلين، من الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادًا ومعرفةً وبصيرةً، والفرار من جهل العمل إلى السَّعي النافع والعمل الصالح قصدًا وسعيًا.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 151) ومن طريقه الطبري (6/ 507)، وفي آخره زيادة:«عمدًا كان أو غيرَه» .
(2)
«الشاعر» من ع، والبيت لعمرو بن كلثوم في معلَّقته.
قوله: (ومن الكسل إلى التشمير جدًّا وعزمًا). أي يفرُّ من إجابة داعي الكسل إلى داعي العمل والتشمير بالجدِّ والاجتهاد.
والجدُّ هو هاهنا صدق العزم
(1)
، وإخلاصُه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون. وهو تجنُّب السِّين وسوف وعسى ولعلَّ، فهو
(2)
أضرُّ شيءٍ على العبد، وهي شجر
(3)
ثمرها
(4)
الحسرات والندامات.
والفرق بين الجدِّ والعزم أنَّ العزم صدق الإرادة واستجماعها، والجدُّ صدق العمل وبذل الجهد فيه، وقد أمر الله سبحانه بتلقِّي أوامره بالعزم والجدِّ، فقال:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، وقال:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145]، وقال:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أي بجدٍّ واجتهادٍ وعزمٍ، لا كمن يأخذ ما أمرتُه
(5)
بتردُّدٍ وفتورٍ.
وقوله: (ومن الضِّيق إلى السعة ثقةً ورجاءً)، يريد هروب العبد من ضيق صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة نفسه، وما هو خارجٌ عن نفسه ممَّا يتعلَّق بأسباب مصالحه ومصالحِ من يتعلّق به، وما يتعلَّق بماله وبدنه وأهله وعدوِّه؛ يهرب من ضيق صدره بذلك
(1)
كذا في الأصول، وغيَّره الفقي إلى:«صدق العمل» ، وهو مقتضى كلام المؤلف الآتي في التفريق بين الجد والعزم.
(2)
ع: «فهي» .
(3)
ل، ع:«شجرة» .
(4)
ع: «ثمرتها» .
(5)
ش، ج، ن، ع:«أُمِر به» ، ويصحُّ أن يُقرأ:«آمُر به» .
كلِّه إلى سعة فضاء الثِّقة بالله، وصدقِ التّوكُّل عليه، وحسنِ الرجاء لجميل صنعه به، وتوقُّعِ المرجوِّ من لطفه وبرِّه. ومن أحسن كلام العامَّة: لا همَّ مع الله.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، قال الرَّبيع بن خُثَيم: يجعل له مخرجًا من كلِّ ما ضاق على الناس، وقال أبو العالية: مخرجًا من كلِّ شدّةٍ
(1)
، وقال الحسن: مخرجًا ممَّا نهاه عنه
(2)
. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]: من
(3)
يثق بالله
(4)
في نوائبه ومهمَّاته يكفِه
(5)
كلَّ ما أهمَّه، والحسب: الكافي، حسبنا الله: كافينا الله.
وكلّما كان العبد حَسَن الظنِّ بالله، حسنَ الرجاء له، صادقَ التّوكُّل عليه، فإن الله لا يخيِّب أمله فيه البتَّة، فإنه سبحانه لا يخيِّب أمل آملٍ، ولا يضيِّع عمل عاملٍ.
وعبَّر عن الثقة وحسن الظنِّ بـ (السعة)، فإنّه لا أشرح للصّدر، ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنِّه به.
(1)
(2)
«معالم التنزيل» (8/ 151). وقول الربيع بن خثيم أخرجه ابن أبي شيبة (36779) وأحمد في «الزهد» (ص 403) والطبري في «تفسيره» (23/ 44).
(3)
ل، م:«ومن» .
(4)
(5)
ع: «يكفيه» .