الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتصدَّق، ويخاف أن لا يقبل منه»
(1)
(2)
. فالمؤمن: جمع إحسانًا في مخافةٍ وسوءَ ظنٍّ بنفسه، والمغرور: حسن
(3)
الظنِّ بنفسه مع إساءته.
الثاني: (توفير الجهد باحتمائه من الشُّهود)، أي تأتي بجهد الطاقة في تصحيح العمل، محتميًا عن شهوده منك وبك.
الثّالث: أن تحتمي بنور التوفيق الذي ينوِّر الله به بصيرة العبد، فترى في ضوء ذلك النُّور أنَّ عملك من عين جوده، لا بك ولا منك.
فقد اشتملت هذه الدرجة على خمسة أشياء: عمل، واجتهاد فيه، وخجل وحياء من الله فيه، وصيانة عن شهوده منك، ورؤيته من عين جود الله ومنَّته.
(الدرجة الثالثة:
إخلاص العمل بالخلاص من العمل، تدعه يسير سير العلم. وتسير أنت مشاهدًا للحُكم حرًّا من رقِّ الرسم)
(4)
.
قد فسَّر مراده بإخلاص العمل من العمل بقوله: (تدعه يسير سير العلم وتسير أنت مشاهدًا للحكم). ومعنى كلامه: أنَّك تجعل عملك تابعًا للعلمٍ، موافقًا له، مؤتمًّا به، تسير بسيره وتقف بوقوفه، وتتحرَّك بحركته، نازلًا
(1)
كما في حديث عائشة عند الترمذي وغيره، وقد سبق تخريجه.
(2)
في ع زيادة: «وقال بعضهم: إني لأصلي ركعتين فأقوم عنهما بمنزلة السارق أو الزاني الذي يراه الناس حياءً من الله عز وجل» . أسنده القشيري (ص 493) عن أبي بكر الورَّاق بنحوه دون ذكر الزنا.
(3)
م: «يُحسن» .
(4)
«المنازل» (ص 31).
منازله، مرتويًا من موارده، فتكون ناظرًا إلى الحكم الدينيِّ الأمري، متقيِّدًا به فعلًا وتركًا وطلبًا وهربًا، ناظرًا إلى ترتُّب الثواب والعقاب عليه سببًا وكسبًا.
ومع ذلك فتسير أنت بقلبك، مشاهدًا للحكم الكونيِّ القضائيِّ، الذي تنطوي فيه الأسباب والمسبَّبات والحركات والسكنات، ولا يبقى هناك غير محض المشيئة وتفرُّدِ الربِّ وحده بالأفعال، ومصدرها عن إرادته ومشيئته.
فيكون قائمًا بالأمر والنهي فعلًا وتركًا سائرًا بسيره، وبالقضاء والقدر إيمانًا وشهودًا وحقيقةً؛ فهو ناظرٌ إلى الحقيقة قائمٌ بالشريعة.
وهذان الأمران هما عبوديَّة هاتين الآيتين: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، وقال:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 29 - 30]. فتَرْكُ العمل يسير سير العلم: مشهد {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ، وسير صاحبه مشاهدًا للحكم: مشهد {وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} .
وأمّا قوله: (حرًّا من رقِّ الرسم)؛ الحرِّيَّة التي يشيرون إليها: عدم الدُّخول تحت عبوديَّة الخلق والنفس، والدُّخولُ تحت رقِّ عبوديَّة الحقِّ وحده. ومرادهم بالرَّسم: ما سوى الله، فكلُّه رسومٌ، فإنَّ الرُّسوم هي الآثار، ورسوم المنازل والدِّيار هي الآثار التي تبقى بعد سكَّانها، والمخلوقات بأسرها في منزل الحقيقة رسومٌ وآثارٌ للقدرة.
أي: فتُخلِّص نفسك من عبوديَّة كلِّ ما سوى الله، وتكون بقلبك مع القادر الحقِّ وحده، لا مع آثار قدرته التي هي رسوم، فلا تشتغل بغيره
اشتغالًا بعبوديَّته. ولا تطلب بعبوديَّتك له حالًا ولا مقامًا، ولا مكاشفةً، ولا شيئًا سواه
(1)
.
فهذه أربعة أمورٍ: بذل الجهد، وتحكيم العلم، والنظر إلى الحقيقة، والتخلُّص من الالتفات إلى غيره. والله الموفِّق.
فصل
الإخلاص عدم انقسام المطلوب، والصِّدق عدم انقسام الطلب. فحقيقة الإخلاص: توحيد المطلوب، وحقيقة الصِّدق: توحيد الطلب والإرادة، ولا يثمران إلَّا بالاستسلام المحض للمتابعة.
فهذه الأركان الثلاثة هي أركان السَّير وأصول الطريق التي من لم يبن عليها سلوكهَ وسيرَه فهو مقطوعٌ وإن ظنَّ أنه سائر، فسَيره: إمَّا إلى عكس جهة مقصوده، وإمَّا سير المقعد والمقيَّد
(2)
؛ فإنْ عَدِم الإخلاص والمتابعة انعكس سيره إلى خلفٍ، وإن لم يبذل جهده ويوحِّد طلبه سار سير المقيَّد.
وإن اجتمعت له الثلاثة: فذلك الذي لا يجارى في مضمار سيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
* * * *
(1)
انظر: «شرح التلمساني» (ص 183)، فإن المؤلف صادر عنه في شرح معنى الحرِّية من رق الرسم.
(2)
في ع زيادة: «وإما سير صاحب الدابة الجَموح، كلما مشت خطوة إلى قُدَّام رجعت عشرة إلى خلف» ولا إخالها من المؤلف فإنه لم يأت لها ذكر في التفصيل الآتي.