الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الزُّهد
. قال الله تعالى: {(95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} [النحل: 96].
وقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77].
وقال: {(15) تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16]
(1)
.
وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7 - 8].
والقرآن مملوءٌ من التزهيد في الدُّنيا والإخبار بخسَّتها وقلَّتها وانقطاعها وسرعة فنائها، والتَّرغيبِ في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها وسرعة إقبالها.
فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا أقام في قلبه شاهدًا يعاين به حقيقة الدُّنيا والآخرة، ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار.
وقد أكثر الناس في
(2)
الكلام في الزُّهد، وكلٌّ أشار إلى ذوقه ونَطَق عن حاله وشاهده، فإنَّ غالب عبارات القوم عن أذواقهم وأحوالهم. والكلام بلسان العلم أوسعُ من الكلام بلسان الذوقِ وأقربُ إلى الحجة والبرهان.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدّس الله روحه ــ يقول: الزُّهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يُخاف ضرره في الآخرة
(3)
. وهذه العبارة
(1)
هذه الآية ساقطة من ع.
(2)
ع: «من» .
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 615).
من أحسن ما قيل في الزُّهد والورع وأجمعها.
وقال سفيان الثوريُّ: الزُّهد في الدُّنيا قصر الأمل؛ ليس بأكل الغليظ، ولا لبس العباء
(1)
.
وقال الجنيد: سمعت سريًّا يقول: إنّ الله تعالى سلب الدُّنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده، لأنَّه لم يرضَها لهم
(2)
.
وقيل: الزُّهد في قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا أَتَاكُمْ} [الحديد: 23]، فالزاهد لا يفرح من الدُّنيا بموجودٍ، ولا يأسف منها على مفقودٍ
(3)
.
وقال يحيى بن معاذٍ: الزُّهد يورث السخاء بالملك، والحبُّ يورث السّخاء بالرُّوح
(4)
.
وقال ابنُ الجَلَّاء: الزُّهد هو النظر إلى الدُّنيا بعين الزوال لتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض عنها
(5)
.
(1)
رواه وكيع في «الزهد» (6)، ومن طريقه ابنُ أبي الدنيا في «قصر الأمل» (31) وفي «ذم الدنيا» (109) وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 386) والبيهقي في «الزهد الكبير» (466) والقشيري في «الرسالة» (ص 334).
(2)
أسنده البيهقي في «الزهد الكبير» (61) والقشيري في «الرسالة» (ص 334).
(3)
ذكره القشيري (ص 334).
(4)
ذكره القشيري (ص 335).
(5)
ذكره القشيري (ص 335).
وقال ابن خفيفٍ: علامة الزُّهد وجود الراحة في الخروج من الملك.
وقال أيضًا: الزُّهد سلوُّ القلب عن الأسباب، ونفضُ الأيدي من الأملاك
(1)
.
وقيل: هو عزوف
(2)
القلب عن الدُّنيا بلا تكلُّفٍ.
وقال الجنيد: الزُّهد خلوُّ القلب عمَّا خلت منه اليد
(3)
.
وقال الإمام أحمد: الزُّهد في الدُّنيا قصر الأمل
(4)
.
وعنه روايةٌ ثانية
(5)
أنَّه عدم فرحه بإقبالها وحزنه على إدبارها، فإنَّه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينارٍ هل يكون زاهدًا؟ فقال: نعم، على شريطة أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت
(6)
.
وقال عبد الله بن المبارك: هو الثِّقة بالله مع حبِّ الفقر. وهذا قول شقيقٍ ويوسف بن أسباطٍ
(7)
.
(1)
ذكرهما القشيري (ص 335).
(2)
في الأصل: «غروب» ، تصحيف.
(3)
ذكره القشيري (ص 335).
(4)
ذكره القشيري (ص 336). وفي «طبقات الحنابلة» (1/ 82) من رواية أبي طالب عنه زيادة: «والإياس مما في أيدي الناس» .
(5)
ع: «أخرى» .
(6)
سبق (ص 108).
(7)
ذكره القشيري (ص 336). وأسنده البيهقي في «الزهد الكبير» (73) من رواية الصوفي الزاهد ابن الفَرَجي (ت بعد 270) عنهم. وشقيق هو ابن إبراهيم الأزدي البلخي، شيخ خراسان الزاهد (ت 194).
وقال عبد الواحد بن زيدٍ: ترك
(1)
الدينار والدِّرهم
(2)
.
وقال أبو سليمان الداراني: ترك ما يَشْغَل عن الله. وهو قول الشِّبليِّ
(3)
.
وسأل رُويمٌ الجنيدَ عن الزُّهد؟ فقال: استصغار الدُّنيا، ومحو آثارها من القلب
(4)
. وقال مرَّةً: هو خلوِّ اليد عن الملك، والقلب عن التّتبُّع
(5)
.
وقال يحيى بن معاذٍ: لا يبلغ أحدٌ حقيقة الزُّهد حتّى يكون فيه ثلاث خصالٍ: عملٌ بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعزٌّ بلا رياسة.
وقال أيضًا: الزاهد يُسعِطك الخلَّ والخردل، والعارف يُشمُّك المسك والعنبر
(6)
.
وقيل: حقيقة الزهد هو الزُّهد في النفس. وهذا قول ذي النُّون المصريِّ.
وقيل: الزُّهد: الإيثار عند الاستغناء، والفتوَّة: الإيثار عند الحاجة. قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]
(7)
.
وقال رجلٌ ليحيى بن معاذٍ: متى أدخل حانوت التوكُّل وألبس رداء
(1)
ع: «الزهد في» خلافًا لمصدر المؤلف.
(2)
ذكره القشيري (ص 336).
(3)
ذكره عنهما القشيري (ص 336، 337)، ولفظ الشبلي:«أن تزهد فيما سوى الله» .
(4)
أسنده البيهقي في «الزهد الكبير» (20) والقشيري (ص 336).
(5)
ذكره القشيري (ص 337)، وأسنده البيهقي في «الزهد» (19) بنحوه.
(6)
ذكرهما القشيري (ص 337).
(7)
ذكرهما القشيري (ص 337)، والثاني قول محمد بن الفضل بن العباس البلخي الزاهد (ت 319).
الزاهدين وأقعد معهم؟ فقال: إذا صرتَ من رياضتك لنفسك إلى حدٍّ لو قطع الله الرِّزق عنك ثلاثة أيام لم تَضعُف نفسُك، فأمَّا ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهلٌ، ثمَّ لا آمَنُ
(1)
أن تفتضح
(2)
.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه الله: الزُّهد على ثلاثة أوجهٍ: ترك الحرام، وهو زهد العوامِّ. والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواصِّ. والثالث: ترك ما يَشْغَل عن الله، وهو زهد العارفين
(3)
.
وهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدَّم من كلام المشايخ رضي الله عنهم، مع زيادة تفصيله وتبيين درجاته. وهو من أجمع الكلام، وهو يدلُّ على أنَّه رضي الله عنه من هذا العلم بالمحلِّ الأعلى. وقد شهد له الشافعيُّ رحمه الله بإمامته في ثمانية أشياءَ أحدها الزُّهد
(4)
.
والذي أجمع عليه العارفون أن الزُّهد سفر القلب من وطن الدُّنيا وأَخْذُه في منازل الآخرة. وعلى هذا صنَّف المتقدِّمون كتب الزُّهد. كـ «الزُّهد» لعبد الله بن المبارك، وللإمام أحمد، ولوكيع، ولهنَّاد بن السَّرِيِّ، ولغيرهم.
(1)
في ع زيادة: «عليك» .
(2)
ذكره القشيري (ص 338).
(3)
ذكره القشيري (ص 338).
(4)
ذكر ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (1/ 10) عن الربيع بن سليمان قال: قال لنا الشافعي: أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة.