الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوِزان ما قاله منكرو الأسباب: أن يترك كلٌّ مِن هؤلاء السببَ الموصلَ ويقول: إن كان قُضي لي وسبق في الأزل حصولُ الولد والشِّبع والريِّ والحجِّ ونحوها= فلابدَّ أن يصل إليَّ، تحرَّكت أو سكنت، تزوَّجت أو تركت، سافرت أو قعدت، وإن لم يكن قضي لي لم يحصل لي أيضًا فعلت أو تركت. فهل يَعدُّ أحدٌ هذا من جملة العقلاء؟ وهل البهائم إلَّا أفقه منه؟ فإنَّ البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامَّة.
فالتوكُّل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التّوكُّل. ولكن من تمام التوكُّل عدم الرُّكون إلى الأسباب، وقطعُ علاقة القلب بها؛ فيكون حالُ قلبِه قيامَه بالله لا بها، وحالُ بدنه قيامَه
(1)
بها.
فالأسباب محلُّ حكمة الله وأمره ودينه، والتوكُّل متعلِّقٌ بربوبيَّته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبوديَّة الأسباب إلّا على ساق التوكُّل، ولا يقوم ساق التوكُّل إلّا على قدم العبوديَّة.
فصل
الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد
(2)
، فإنَّه لا يستقيم توكُّل العبد حتى يصحَّ له توحيده، بل حقيقة التّوكُّل توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشِّرك فتوكُّله معلول مدخول.
وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحَّة التوكُّل، فإنَّ العبد متى التفت
(1)
«قيامه» من ع.
(2)
ع: «التوكل» ، خطأ.
إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبةً من شعب قلبه، فنقص من توكُّله على الله بقدر ذهاب تلك الشُّعبة، ومن هاهنا ظنَّ من ظنَّ أنَّ التوكُّل لا يصحُّ إلا برفض الأسباب. وهذا حق، لكن رفضها عن القلب أو
(1)
عن الجوارح؟ فالتوكُّل لا يتمُّ إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلُّق الجوارح بها، فيكون منقطعًا منها متصلًا بها.
فصل
الدرجة الرابعة: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولا سكونٌ إليها، بل يخلع السُّكون إليها من قلبه، ويلبس السُّكون إلى مسبِّبها.
وعلامة هذا أنَّه لا يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحبُّ منها وإقبالِ ما يكره، لأنَّ اعتمادَه على الله وسكونَه إليه واستنادَه إليه قد حصَّنه مِن خوفها ورجائها. فحاله حال من خرج عليه عدوٌّ عظيمٌ لا طاقة له به، فرأى حصنًا مفتوحًا، فأدخله ربُّه إليه، وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوَّه خارج الحصن، فاضطرابُ قلبه وخوفُه منهم في هذه الحال لا معنى له.
وكذلك من أعطاه ملِكٌ درهمًا، فسُرق منه، فقال له الملك: عندي أضعافه، لا تهتمَّ، متى جئت إليَّ أعطيتك من خزائني أضعافه. فإذا علم صحَّة قول الملك، ووثق به، واطمأنَّ إليه، وعلم أنَّ خزائنه مليَّة
(2)
بذلك = لم
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوعات: «لا» .
(2)
كذا مضبوطًا على لغة التسهيل في ن، ع. وفي ش، ج:«مليئة» . وهو محتمل في الأصل، ل.