الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الإخبات
.
قال الله تعالى: {الْمُخْبِتِينَ (34)} [الحج: 34]، ثمَّ كشف عن معناهم فقال:{إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 35].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23].
الخبت في أصل اللُّغة: المكان المنخفض من الأرض. وبه فسَّر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ {(34)} فقالا: هم المتواضعون
(1)
. وقال مجاهد: المخبت: المطمئنُّ إلى الله، قال: والخبت: المكان المطمئنُّ من الأرض. وقال الأخفش: الخاشعون. وقال إبراهيم النخعيُّ: المخلصون. وقال الكلبيُّ: هم الرّقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوسٍ: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظُلِموا لم ينتصروا
(2)
.
وهذه الأقوال تدور على معنيين: التواضع، والسُّكون إلى الله تعالى. ولذلك عدِّي بـ «إلى» تضمينًا لمعنى الطُّمأنينة والإنابة والسُّكون إلى الله.
(1)
م، ش:«المتواضعين» .
(2)
الأقوال السابقة كلها من «معالم التنزيل» للبغوي (5/ 386). والظاهر أن قوله: «والخبت: المكان المطمئنُّ من الأرض» من قول البغوي، لا من قول مجاهد. وانظر:«تفسير الطبري» (16/ 551).
قال صاحب «المنازل»
(1)
: (هو من أوَّل مقامات الطُّمأنينة).
يعني بمقامات الطمأنينة: السكينة، واليقين، والثِّقة بالله تعالى ونحوها. فالإخبات مقدِّمتها ومبدؤها.
قال: (وهو ورود المسافر
(2)
من الرُّجوع والتّردُّد).
لمَّا كان الإخبات أول مقامٍ يتخلَّص فيه السالك من التّردُّدِ الذي هو نوع شك، والرجوعِ الذي هو نوع غفلةٍ وإعراضٍ، والسالكُ مسافر إلى ربِّه سائرٌ إليه على مدى أنفاسه، لا ينتهي سيره
(3)
إليه ما دام نَفَسه يصحبه= شبَّه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يَرِده المسافر على ظمأٍ وحاجةٍ في أوَّل مناهله، فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردُّده في إتمام سفره أو رجوعِه إلى وطنه لمشقَّة السّفر، فإذا ورد ذلك الماء زال عنه التّردُّد وخاطر الرجوع. كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلَّص من التردُّد والرجوع، ونزل أوَّل منازل الطُّمأنينة لسفره
(4)
وجدَّ في السّير.
قال
(5)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ. الدرجة الأولى: أن تستغرق العصمةُ الشهوةَ، وتستدرك الإرادةُ الغفلةَ، ويستهوي الطلبُ السَّلوة
(6)
).
(1)
(ص 22)، «شرح التلمساني» (ص 135) ولفظ المتن به أشبه.
(2)
في مطبوعة «المنازل» و «شرح القاساني» (ص 116): «المأمن» . والمثبت من النسخ ورد في بعض نسخ «المنازل» (كما في هامش تحقيقه)، وهو الذي شرح عليه التلمساني.
(3)
ع: «مسيره» .
(4)
ع: «بسفره» .
(5)
«المنازل» (ص 22).
(6)
الأصل: «السكرة» ، تصحيف.
المريد السالك تعرض له غفلةٌ عن مراده تُضعف إرادتَه، وشهوةٌ تعارض إرادته فتصدُّه عن مراده، ورجوعٌ عن مراده سلوةً عنه.
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة، فـ (تستغرق عصمته شهوته)، والعصمة هي الحماية والحفظ، والشهوة: الميل إلى مطالب النفس، والاستغراق للشيء: الاحتواء عليه والإحاطة به. يقول: تغلب عصمتُه شهوتَه وتقهرها، وتستوفي جميع أجزائها. فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشَّهوة، فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطُّمأنينة ونزولِه منازلَها، وخَلاصِه في هذا المنزل من تردُّد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرُّجوعِ والعزم، إلى الاستقامة والعزم الجازم والجدِّ في السَّير. وذلك علامة السكينة.
و (تستدرك إرادتُه غفلتَه)، والإرادة عند القوم هي اسمٌ لأوَّل منازل القاصدين إلى الله تعالى، والمريد هو الذي قد خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السير إلى الله والدار الآخرة، فإذا نزل في منزلة الإخبات أحاطت إرادتُه بغفلته، فاستدركها
(1)
واستدرك بها فارطها.
وأمَّا (استهواء طلبه لسلوته)، فهو قهر محبَّته لسلوته وغلبتُها له، بحيث تهوي السلوةُ وتسقط، كالذي يهوي في بئرٍ. وهذا علامة المحبَّة الصادقة أن تقهر واردَ السلوة وتدفنها في هُوَّةٍ لا تحيا بعدها أبدًا.
فالحاصل: أنَّ عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبَّته تقهر سلوته.
(1)
ع: «فاستدركتها» .