الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعني أنّ للمريدين درجتين أُخريين من الورع فوق هذه، ثمَّ ذكرهما فقال
(1)
:
(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به
إبقاءً على الصِّيانة والتّقوى، وصعودًا عن الدَّناءة، وتخلُّصًا عن اقتحام الحدود).
يقول: إنَّ من صعد عن الدرجة الأولى إلى هذه الدرجة من الورع فهو يترك
(2)
كثيرًا ممَّا لا بأس به من المباح إبقاءً على صيانته، وخوفًا عليها أن يتكدَّر صفوُها ويطفأ نورُها، فإنَّ كثيرًا من المباح يكدِّر صفو الصِّيانة، ويُذهب بهجتها، ويطفئ نورها، ويُخْلِق حُسنَها وبهجتَها.
وقال لي يومًا شيخ الإسلام ابن تيميّة ــ قدّس الله روحه ــ في شيءٍ من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطًا في النَّجاة. أو نحو هذا من الكلام.
فالعارف يترك كثيرًا من المباح إبقاءً على صيانته، ولا سيَّما إذا كان ذلك المباح برزخًا بين الحلال والحرام، فإنَّ بينهما برزخًا كما تقدَّم، فتَرْكُه لصاحب هذه الدرجة كالمتعيِّن الذي لابدَّ منه لمنافاته لدرجته.
والفرق بين صاحب الدرجة الأولى وصاحب هذه: أنّ ذاك يسعى في تحصيل الصِّيانة، وهذا يسعى في حفظِ صفوها أن يتكدَّر ونورِها
(3)
أن
(1)
«المنازل» (ص 24).
(2)
الأصل، ل:«ترك» .
(3)
كذا في ع، وإليه أُصلح النص في ل. وفي سائر النسخ:«وتقرُّرها» ، وقد سبق على الصواب قريبًا في سياق مشابه.
يذهب
(1)
، وهو معنى قوله:(إبقاءً على الصِّيانة).
وأمَّا (الصُّعود عن الدناءة)، فهو الرفع عن طرقاتها وأفعالها.
وأمَّا (التخلُّص عن اقتحام الحدود)، فالحدود هي النِّهايات، وهي مقاطع الحلال والحرام، فحيث ينقطع وينتهي فذلك حدُّه، فمن اقتحمه وقع في المعصية.
وقد نهى الله سبحانه عن تعدِّي حدوده وقربانها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] و {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، فإنَّ الحدود يراد بها أواخر الحلال وأول الحرام، فحيث نهى عن التعدِّي فالحدود هناك أواخر الحلال، وحيث نهى عن القربان فالحدود هناك أوائل الحرام. يقول سبحانه: لا تتعدَّوا ما أبحتُ لكم، ولا تقربوا ما حرَّمتُ عليكم. فالورع يخلِّص العبدَ من قربان هذه وتعدِّي هذه، وهو اقتحام الحدود.
قال
(2)
: (الدرجة الثالثة: التّورُّع عن كلِّ داعيةٍ تدعو إلى شتات الوقت، والتعلُّق بالتفرُّق، وعارضٍ يعارض حال الجمع).
الفرق بين شتات الوقت والتعلُّق بالتفرُّق كالفرق بين السبب والمسبَّب والنفي والإثبات، فإنَّه يتشتَّت وقتُه فلا يجد بدًّا من التعلُّق بما سوى مطلوبه الحقِّ، إذ لا تعطيل في النفس ولا في الإرادة، فمن لم يكن الله مرادَه أراد ما سواه. ومن لم يكن هو وحده معبودَه عبد ما سواه. ومن لم يكن عمله لله فلا
بدَّ أن يعمل لغيره، وقد تقدَّم هذا
(1)
.
فالمخلص يصونه الله بعبادته وحدَه وإرادةِ وجهه، وخشيته وحده ورجائه وحده، والطلبِ منه والذلِّ له والافتقار إليه= عن عبادة غيره وإرادته، وخشيته ورجائه، والطلب منه والذل له والافتقار إليه
(2)
.
وإنَّما كان هذا أعلى من الدرجة الثانية لأنَّ أربابها مشتغلون بحفظ الصِّيانة من الكدر وملاحظتها، وذلك عند أهل الدرجة الثالثة تفرُّقٌ عن الحقِّ واشتغالٌ عن مراقبته بحال نفوسهم، فأدب أهل هذه الدرجة أدب حضورٍ، وأدب أولئك أدب غيبةٍ.
وأمَّا (الورع عن كلِّ حالٍ يعارض حالَ الجمع)، فمعناه أن يستغرق العبدَ شهودُ فنائه في التوحيد وجمعيَّتُه على الله تعالى فيه عن كلِّ حالٍ يعارض هذا الفناء والجمعيَّة.
وهذا عند الشيخ لمَّا كان هو الغايةَ التي ليس بعدها مطلبٌ جعل كلَّ حالٍ يعارضها ويقطع عنها ناقصًا بالنِّسبة إليها، فالرغبة عنه عينُ
(3)
ورع صاحبها. وقد عرفت ما فيه، وأنَّ فوق هذا مقامٌ
(4)
أرفع منه وأعلى، وهو الورع عن كلِّ حظٍّ يزاحم مراده منك، ولو كان الحظُّ فناءً أو جمعيَّةً أو كائنًا ما كان. وبيَّنَّا أنَّ الفناء والجمعية حظُّ العبد، وأنَّ حقَّ الربِّ وراء ذلك، وهو
(1)
(1/ 252).
(2)
«عن عبادة غيره
…
والافتقار إليه» ساقط من ع.
(3)
في النسخ عدا الأصل، ل، ع:«غير» ، تصحيف يُفسد المعنى، ولعل منشأه أن رسمها في الأصل، ل محتمل غير محرَّر.
(4)
كذا في النسخ بالرفع.