الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال
(1)
:
(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول
، وهو ما زاد على المُسكة والبلاغ من القوت، باغتنام التّفرُّغ إلى عمارة الوقت، وحسم الجأش، والتحلِّي بحلية الأنبياء والصدِّيقين).
والفضول: ما يفضل عن قدر الحاجة. والمُسكة: ما يمسك النَّفْسَ من القوت والشراب واللِّباس والمسكن والمنكح إذا احتاج إليه. والبلاغ: هو البُلغة من ذلك الذي يتبلَّغ به في منازل السفر، كزاد المسافر. فيزهد فيما وراء ذلك اغتنامًا لتفرُّغه لعمارة وقته.
ولمَّا كان الزُّهد لأهل الدرجة الأولى خوفًا من المعتبة وحذرًا من المنقصة كان الزُّهد لأهل هذه الدرجة أعلى وأرفع. وهو اغتنام الفراغ لعمارة أوقاتهم مع الله تعالى، لأنّه إذا اشتغل بفضول الدُّنيا فاته نصيبه من انتهاز فرصة الوقت؛ فالوقت سيفٌ إن لم تقطعه
(2)
قطعك.
و (عمارة الوقت): الاشتغال في جميع آنائه
(3)
بما يقرِّب إلى الله تعالى، أو يعين على ذلك من مأكلٍ أو مشربٍ أو منكحٍ أو منامٍ أو راحة، فإنَّه متى أخذها بنيَّة القوَّة على ما يحبُّه الله وتجنُّبِ ما يسخطه كانت من عمارة الوقت وإن كان له فيها أتمُّ لذَّة؛ فلا تحسَبْ عمارةَ الوقت بهجر اللذَّات والطيِّبات.
فالمحبُّ الصادق ربَّما كان سيره القلبيُّ في حال أكله وشربه وجماع أهله وراحته أقوى من سيره البدني في بعض الأحيان. ولقد حكي عن بعضهم
(1)
«المنازل» (ص 23).
(2)
في ع زيادة: «وإلَّا» .
(3)
م، ش:«أيامه» ، تصحيف.
أنّه كان يَرِد عليه وهو على بطن امرأته حالٌ لا يعهدها في غيرها. ولهذا سببٌ صحيح، وهو اجتماع قوى النفس وعدمُ التفاتها حينئذٍ إلى شيءٍ، مع ما يحصل لها من السُّرور والفرح واللذة، والسُّرورُ يذكِّر بالسُّرور، واللذَّة تذكِّر باللّذّة، فتنهض الرُّوح من تلك الفرحة واللذَّة إلى ما لا نسبة بينها وبينها بتلك الجمعيَّة والقوَّة والنشاط وقطعِ أسباب الالتفات، فيورثه ذلك حالًا عجيبةً.
ولا تعجل بالإنكار، وانظر إلى قلبك عند هجوم أعظم محبوبٍ له عليه في هذه الحال، كيف تراه؟ فهكذا حال غيرك. ولا ريب أنَّ النفس إذا نالت حظًّا صالحًا من الدُّنيا قويت به وسرَّت، واستجمعت قواها وجمعيَّتها، وزال تشتُّتها.
اللهم غَفرًا، فقد طغى القلم وزاد الكلم، فعياذًا بك
(1)
من مقتك.
وأمَّا (حسم الجأش)، فهو
(2)
اضطراب القلب بالتعلُّق بأسباب الدُّنيا رغبةً ورهبةً وحبًّا وبغضًا وسعيًا، فلا يصحُّ الزهدُ للعبد حتَّى يقطع هذا الاضطراب من قلبه بأن لا يلتفت إليها، ولا يتعلَّق بها في حالتَي مباشرته لها وتركه، فإنَّ الزُّهد زهد القلب لا زهدُ الترك من اليد، فهو تخلِّي القلب عنها لا خلوُّ اليد منها.
وأمَّا (التحلِّي بحلية الأنبياء والصدِّيقين)، فإنَّهم أهل الزهد في الدُّنيا حقًّا، إذ هم مشمِّرون إلى عَلَمٍ قد رفع لهم غيرُها فهم فيها زاهدون، وإن كانوا لها مباشرين.
(1)
في ع زيادة: «اللهم» .
(2)
في ع زيادة: «قطع» .