المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وأمّا (تنسُّم نسيم الفناء)، فلمَّا كان الفناء عنده غايةً جعل - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المشهد الثَّاني: مشهد رسوم الطَّبيعة ولوازم الخلقة

- ‌المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

- ‌المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة

- ‌المشهد السادس: مشهد التوحيد

- ‌المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

- ‌المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصِّفات

- ‌المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدُّد(2)شواهده

- ‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

- ‌ منزل الإنابة

- ‌ منزل التّذكُّر

- ‌(أبنية التذكُّر

- ‌المفسد الخامس: كثرة النوم

- ‌ منزل الاعتصام

- ‌الاعتصامُ(2)بحبل الله

- ‌ اعتصام العامَّة

- ‌اعتصام الخاصَّة

- ‌اعتصام خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الفرار

- ‌(فرار العامَّة

- ‌فرار الخاصَّة

- ‌فرار خاصَّة الخاصَّة

- ‌ رياضة العامة

- ‌«منزلة الرياضة»

- ‌رياضة الخاصَّة:

- ‌رياضة خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة السَّماع

- ‌ سماع العامّة

- ‌سماع الخاصَّة

- ‌سماع خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الحزن

- ‌ حزن العامَّة

- ‌ حزن أهل الإرادة

- ‌ التحزُّن للمعارضات

- ‌ منزلة الخوف

- ‌ الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة

- ‌(الدرجة الثانية: خوف المكر

- ‌ منزلة الإشفاق

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌ الدرجة الثالثة

- ‌ منزلة الخشوع

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الإخبات

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الزُّهد

- ‌من أحسن ما قيل في الزُّهد

- ‌ الدرجة الأولى: الزُّهد في الشُّبهة بعد ترك الحرام

- ‌(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول

- ‌(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد

- ‌ منزلة الورع

- ‌ الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح

- ‌(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به

- ‌فصلالخوف يثمر الورع

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرجاء

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرغبة

- ‌ الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر

- ‌(الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال

- ‌(الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشُّهود

- ‌ منزلة الرِّعاية

- ‌ منزلة المراقبة

- ‌ الدرجة الأولى: مراقبة الحقِّ تعالى في السَّير إليه

- ‌الدرجة الثانية: مراقبة نظر الحقِّ إليك برفض المعارضة

- ‌الاعتراض ثلاثة أنواعٍ سارية في الناس

- ‌النوع الأوَّل: الاعتراض على أسمائه وصفاته

- ‌النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره

- ‌(الدرجة الثالثة: مراقبةُ الأزل بمطالعة عين السبق

- ‌ منزلة تعظيم حرمات الله

- ‌(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره

- ‌(الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة

- ‌ منزلة الإخلاص

- ‌ الدّرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة التهذيب والتصفية

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الاستقامة

- ‌ الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد

- ‌(الدرجة الثانية: استقامة الأحوال

- ‌(الدرجة الثالثة: استقامةٌ بترك رؤية الاستقامة

- ‌ منزلة التوكُّل

- ‌الدرجة الثانية: إثبات الأسباب والمسبَّبات

- ‌الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد

- ‌الدرجة الخامسة: حسن الظنِّ بالله

- ‌الدرجة السّادسة: استسلام القلب له

- ‌الدرجة السابعة: التفويض

- ‌ الدرجة الأولى: التوكُّل مع الطلب ومعاطاة السبب

- ‌(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب

- ‌ منزلة التفويض

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الثِّقة بالله

- ‌ الدرجة الأولى: درجة الإياس

- ‌(الدرجة الثانية: درجة الأمن

- ‌(الدرجة الثالثة: معاينة أزليَّة الحقِّ

- ‌ منزلة التسليم

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الصبر

- ‌(الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة

- ‌(الدرجة الثالثة: الصبرُ في البلاء

- ‌ منزلة الرِّضا

- ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

- ‌ منزلة الشُّكر

- ‌ الدرجة الأولى: الشُّكر على المحابِّ

- ‌(الدرجة الثانية: الشُّكر في المكاره

- ‌(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم

- ‌ منزلة الحياء

- ‌ منزلة الصِّدق

- ‌من علامات الصِّدق: طمأنينة القلب إليه

- ‌فصلفي كلماتٍ في حقيقة الصِّدق

- ‌ الدرجة الأولى: صدق القصد

- ‌(الدرجة الثانية: أن لا يتمنَّى الحياة إلا للحقِّ

- ‌(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق

الفصل: وأمّا (تنسُّم نسيم الفناء)، فلمَّا كان الفناء عنده غايةً جعل

وأمّا (تنسُّم نسيم الفناء)، فلمَّا كان الفناء عنده غايةً جعل هذه الدرجة كالنسيم لرقَّته، وعبَّر عنها بالنسيم للطف موقعه من الرُّوح وشدَّة تشبُّثها به، ولا ريب أنَّ الخشوع سببٌ موصلٌ إلى الفناء، فاضلِه ومفضولِه.

فصل

قال

(1)

: ‌

‌(الدرجة الثالثة:

حفظ الحرمة عند المكاشفة، وتصفية الوقت من مُراياة

(2)

الخلق، وتجريد رؤية الفضل).

أمَّا (حفظ الحرمة عند المكاشفة)، فهو ضبط النَّفس بالذُّلِّ والانكسار عن البسط والإدلال الذي تقتضيه المكاشفة، فإنَّ المكاشفة توجب بسطًا، ويُخاف منه شطحٌ إن لم يصحبه خشوعٌ يحفظ الحرمة.

وأمّا (تصفية الوقت من مراياة الخلق) فلا يريد به أنه يصفِّي وقته عن الرِّياء، فإنّ أصحاب هذه الدرجة أجلُّ قدرًا وأعلى من ذلك. وإنما المراد أنه يُخفي أحوالَه عن الخلق جهدَه كخشوعه وذلِّه وانكساره، لئلَّا يراها الناس فيعجبَه اطِّلاعُهم عليها ورؤيتهم لها، فيَفْسُد عليه قلبُه ووقته وحاله مع الله تعالى، وكم قد اقتطع

(3)

في هذه المفازة من سالكٍ! والمعصوم من عصمه الله. فلا شيء أنفع للصادق من التحقُّق بالمسكنة والفاقة والذُّلِّ، وأنَّه لا شيء، وأنه ممَّن لم يصحَّ له بعدُ الإسلامُ حتَّى يدَّعي الشَّرَف.

ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيميّة ــ قدّس الله روحه ــ من ذلك

(1)

«المنازل» (ص 22).

(2)

كذا رسمه بالتسهيل في النسخ و «المنازل» و «شرح التلمساني» (ص 133).

(3)

في النسخ عدا الأصل، ل، ع:«انقطع» .

ص: 199

أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا منِّي شيء، ولا فيَّ شيء. وكان كثيرًا ما يتمثَّل بهذا البيت:

أنا المكدِّي وابن المكدِّي

وهكذا كان أبي وجدِّي

(1)

وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إنِّي إلى الآن أجدِّد إسلامي كلَّ وقتٍ، وما أسلمت بعدُ إسلامًا جيِّدًا.

وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدةً في التّفسير بخطِّه، وعلى ظهرها أبياتٌ بخطِّه من نظمه

(2)

:

أنا الفقير إلى ربِّ البريَّات

(3)

أنا المُسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظَّلوم لنفسي وهي ظالمتي

والخير إن يأتنا

(4)

من عنده يأتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعةٍ

ولا عن النفس في دفع المضرّات

(5)

وليس لي دونه مولًى يدبِّرني

ولا شفيعٌ إلى رب السماوات

(6)

(1)

المكدِّي بلغة أهل العراق هو الشحَّاذ. ولعل البيت كان لأحد الشحاذين ينشده ويتسوَّل. فكان شيخ الإسلام من تواضعه يتمثَّل بهذا على معنى أنه المفتقر إلى الله.

(2)

وهي من مقطوعة له قالها بالقلعة إبَّان حبسه فيها، نقلها ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص 450 - 451)، وهي أحد عشر بيتًا، ذكر المؤلف هنا ستةً منها.

(3)

م، ش:«السماوات» .

(4)

ل: «جاءنا» .

(5)

هذا البيت جاء في هامش الأصل بخط مغاير، وهامش كلٍّ من ل، ج مصححًا عليه.

(6)

لفظ العَجُز من ل. وفي الأصل فراغ مكانه، ثم كتب:«كما يكون لأرباب الولايات» بخط مغاير، ثم ضُرب على البيت كلِّه. وبمثله جاء العجز في ج، ن. ثم ضُرب عليه في ج وكتب مكانه مصححًا عليه:«ولا شفيع إلى رب البريَّات» ، وهو لفظه في «العقود الدرية» . ولم يرد البيت في م، ش. ولفظه في ع:«ولا شفيعٌ إذا أحاطت خطيئاتي» ، وبعده زيادة بيتٍ آخر: «إلا بإذن من الرحمن خالقنا

إلى الشفيع كما قد جا في الآياتِ». وقد أُلحق أيضًا بهامش ل مصححًا عليه. وهو في «العقود» .

ص: 200

ولست أملك شيئًا دونه أبدًا

ولا شريكٌ أنا في بعض ذرّاتِ

(1)

ولا ظهيرَ له كي أستعينَ به

(2)

كما يكون لأرباب الولايات

(3)

وأمَّا (تجريد رؤية الفضل) فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلّا من الله وحده، فهو المانُّ به بلا سببٍ منك، ولا شفيعٍ لك تقدَّم إليه بالشفاعة، ولا وسيلةٍ سبقت منك توسَّلتَ بها إلى إحسانه.

والتجريد هو تخليص شهود الفضل لوليِّه حتّى لا ينسبه إلى غيره، وإلا فهو في نفس الأمر مجرَّدٌ عن النِّسبة إلى سواه، وإنّما الشأن في تجريده في الشُّهود، ليطابق الشُّهودُ الحقَّ في نفس الأمر، والله أعلم.

فصل

فإن قيل: فما تقولون في صلاةِ مَن عَدِم الخشوعَ في صلاته، هل يعتدُّ له بها أم لا؟

(1)

ج: «ولا شريك له» . في هامش ش إشارة إلى أنه في نسخة كذلك.

(2)

في ل ضُرب على «كي أستعين به» وكُتب في الهامش: «كيما أعاونه» مصححا عليه، وهو لفظ «العقود» .

(3)

جاء في هامش ج: «وتمام الأبيات المذكورة

» ثم ذكر ثلاثةً من الأربعة الباقية. والأربعة كلها ثابتة في ع. وفي ل ألحقت في الهامش مصححًا عليها، ومعها بيت ختاميّ في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في «العقود» أيضًا مع اختلاف عجزه، ولكنه ليس من نظم شيخ الإسلام كما بيَّنه ناظمه. انظر:«العقود» (ص 451/ هامش رقم 5).

ص: 201

قيل

(1)

: أمَّا الاعتداد بها في الثواب فلا يعتدُّ له منها إلا بما عَقَل فيه

(2)

وخشع فيه لربِّه. قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: ليس لك من صلاتك إلَّا ما عقلت منها

(3)

.

وفي «السنن» و «المسند»

(4)

مرفوعًا: «إنَّ العبد ليصلِّي الصلاة ولم يُكتَب له إلا نصفُها، إلا ثلثُها، إلا رُبعُها

» حتَّى بلغ عُشرَها.

وقد علَّق الله فلاح المصلِّين بالخشوع في صلاتهم، فدلَّ على أنَّ مَن لم يخشع فيها فليس من أهل الفلاح، ولو اعتُدَّ له بها ثوابًا لكان من المفلحين.

وأمَّا الاعتداد بها في أحكام الدُّنيا وسقوط القضاء، فإن غلب عليها الخشوع وتعقُّلها اعتُدَّ بها إجماعًا، وكانت السُّنن والأذكار عقيبها جوابرَ ومكمِّلاتٍ لنقصها. وإن غلب عليه عدم الخشوع فيها وعدم تعقُّلها، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها، فأوجبها أبو عبد الله بن حامدٍ من أصحاب أحمد

(5)

، وأبو حامدٍ الغزاليُّ في «إحيائه»

(6)

، لا في «وسيطه» و «بسيطه» .

(1)

«قيل» ساقط من ع.

(2)

في ع زيادة: «منها» .

(3)

لم أجده عن ابن عباس. وصحَّ بنحوه من قول سفيان الثوري في «حلية الأولياء» (7/ 61). وفي الباب ما رواه ابن المبارك في «الزهد» (1300) بإسناد ضعيف عن عمَّار بن ياسر أنه قال: «لا يُكتَب للرجل من صلاته ما سها عنه» .

(4)

«سنن أبي داود» (796) و «السنن الكبرى» للنسائي (614، 615) و «مسند أحمد» (18879، 18894). وقد سبق تخريجه والكلام عليه (1/ 170).

(5)

وهو قول ابن الجوزي أيضًا. انظر: «الإنصاف» (3/ 675).

(6)

(1/ 159 - 161).

ص: 202

واحتجُّوا بأنَّها صلاةٌ لا يثاب عليها، ولم يضمن له فيها الفلاح، فلم تبرأ ذمَّته منها ولم يسقط القضاء عنه كصلاة المرائي.

قالوا: ولأنَّ الخشوع والعقل روح الصلاة ومقصودها ولبُّها، فكيف يعتَدُّ بصلاةٍ فقَدَتْ روحَها ولبَّها، وبقيت صورتُها وظاهرها؟

قالوا: ولو ترك العبد واجبًا من واجباتها عمدًا لأبطلها تركه، وغايته

(1)

: أن يكون بعضًا من أبعاضها بمنزلة فوات عضوٍ من أعضاء العبد المعتَق في الكفَّارة؛ فكيف إذا عَدِمت روحَها ولبَّها ومقصودها، وصارت بمنزلة العبد الميِّت؟ فإذا لم يعتدَّ بالعبد المقطوع اليد يعتقه تقرُّبًا إلى الله تعالى في كفَّارةٍ واجبةٍ، فكيف يعتدُّ بالعبد الميِّت؟

ولهذا قال بعض السلف: الصلاة كجاريةٍ تهدى إلى ملكٍ من الملوك، فما الظّنُّ بمن يُهدي إليه جاريةً شلَّاء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد والرِّجل، أو مريضةً، أو زَمِنةً

(2)

، أو قبيحةً، حتَّى يُهدي جاريةً ميِّتةً بلا روحٍ أو جاريةً قبيحةً؟ فهكذا الصلاة التي يُهديها العبد ويتقرَّب بها إلى ربِّه تعالى، والله طيِّبٌ لا يقبل إلّا طيِّبًا، وليس من العمل الطيِّب صلاةٌ لا روح فيها، كما أنّه ليس من العتق الطيِّب عتقُ عبدٍ لا روح فيه.

قالوا: وتعطيل القلب عن عبوديَّة الحضور والخشوع تعطيلٌ لمَلِك الأعضاء عن عبوديَّته وعزلٌ له عنها، فماذا تغني طاعة الرعيَّة وعبوديَّتُها وقد عُزِل ملِكُها وتعطَّل؟

(1)

ل، ج، ن:«غايتها» .

(2)

ش: «دميمة» .

ص: 203

قالوا: والأعضاء تابعةٌ للقلب، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، فإذا لم يكن قائمًا بعبوديَّته، فالأعضاء أولى أن لا يُعتدَّ بعبوديتها. وإذا فسدت عبوديَّته بالغفلة والوسواس فأنَّى تصحُّ عبودية رعيَّته وجنده، ومادَّتُهم منه، وعن أمره يصدرون، وبه يأتمرون؟

قالوا: وفي «الترمذيِّ»

(1)

وغيره مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يستجيب الدُّعاء من قلبٍ غافلٍ» . وهذا إمَّا خاصٌّ بدعاء العبادة، وإمَّا عامٌّ له ولدعاء المسألة، وإمّا خاصٌّ بدعاء المسألة الذي هو حقُّ

(2)

العبد فهو تنبيهٌ على أنَّه لا يقبل دعاء العبادة الذي هو خالصُ حقِّه من قلب غافل.

قالوا: ولأنَّ عبوديَّة مَن غلب عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبةً الإخلاصَ

(3)

، فإنَّ الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبُّد، والغافل لا قصد له، فلا عبودية له.

قالوا: وقد قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ

(1)

برقم (3479)، وأخرجه أيضًا ابن عدي في «الكامل» (6/ 219) والطبراني في «الأوسط» (5109) والحاكم (1/ 493) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي:«حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» . وفي إسناده صالح المُرِّي، واهي الحديث جدًّا مع صلاحه في نفسه، ولذا تُعقِّب الحاكم في قوله:«حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري وهو أحد زهَّاد أهل البصرة» .

وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد (6655) بإسناد ضعيف فيه ابنُ لَهِيعة. وشاهد آخر عند ابن المبارك في «الزهد» (85 - رواية نعيم) بإسناد جيد عن صفوان بن سُلَيم مرسلًا.

(2)

في جميع النسخ عدا ل، ع:«في» ، تحريف.

(3)

ع: «للإخلاص» .

ص: 204

سَاهُونَ} [الماعون: 4]، وليس السهو عنها تركها، وإلَّا لم يكونوا مصلِّين، وإنّما هو السهو عن واجبها، إمَّا الوقت كما قال ابن مسعودٍ وغيرُه

(1)

، وإمَّا الحضور والخشوع. والصواب أنَّه يعمُّ النوعين، فإنَّه سبحانه أثبت لهم صلاةً ووصفهم بالسهو عنها، فهو السهو عن وقتها الواجب أو إخلاصها وحضورها الواجب، ولذلك وصفهم بالرِّياء، ولو كان السهو سهوَ تركٍ لما كان هناك رياء.

قالوا: ولو قدَّرنا أنَّه السهو عن واجب الوقت فقط، فهو تنبيهٌ على التّوعُّد بالويل على سهو الإخلاص والحضور بطريق الأولى لوجوهٍ:

أحدها: أن الوقت يسقط في حال العذر وينتقل إلى بدله، والإخلاص والحضور لا يسقط بحالٍ ولا بدل له.

الثاني: أن واجب الوقت يسقط لتكميل مصلحة الحضور، فيجوز الجمع بين الصلاتين للشُّغل المانع من فعل إحداهما في وقتها بلا قلبٍ ولا حضورٍ، كالمسافر والمريض وذي الشُّغل الذي يحتاج معه إلى الجمع، كما نصَّ عليه أحمد

(2)

وغيره.

فبالجملة: مصلحة الإخلاص والحضور وجمعيَّة القلب على الله تعالى في الصلاة أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها، فكيف يظنُّ به أنَّه يُبطلها بترك تكبيرةٍ واحدةٍ، أو اعتدالٍ في ركنٍ، أو ترك حرفٍ أو شدَّةٍ من القراءة الواجبة، أو ترك تسبيحةٍ أو قول (سمع الله لمن حمده) أو (ربَّنا ولك

(1)

انظر: «تفسير الطبري» (15/ 569، 24/ 659 - 661).

(2)

في رواية ابن مُشَيش. انظر: «الفروع» (3/ 108).

ص: 205

الحمد) أو ذكر رسوله بالصلاة عليه، ثمَّ يصحِّحها مع فوات لبِّها ومقصودها الأعظم وروحها وسرِّها؟!

فهذا ما احتجّت به هذه الطّائفة، وهي حججٌ كما تراها قوةً وظهورًا.

قال أصحاب القول الآخر: قد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في «الصحيح»

(1)

أنَّه قال: «إذا أذّن المؤذِّن أدبر الشّيطان له ضُراطٌ

(2)

حتّى لا يسمع التَّأذين، فإذا قُضي التأذين أقبل، فإذا ثوِّب بالصّلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتَّى يَخطِر بين المرء وبين نفسه، فيذكِّره ما لم يكن يذكر، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لِما لم يكن يذكر، حتَّى يظَلَّ

(3)

الرجل إنْ يدري كم صلَّى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس».

قالوا: فأمَرَه صلى الله عليه وسلم في هذه الصَّلاة التي قد أغفله الشيطان فيها حتَّى لم يدر كم صلّى بأن يسجد سجدتي السهو، ولم يأمره بإعادتها، ولو كانت باطلةً كما زعمتم لأمره بإعادتها.

قالوا: وهذا هو السرُّ في سجدتي السهو، ترغيمًا للشَّيطان في وسوسته للعبد وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة، ولهذا سمَّاهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«المرغمتين»

(4)

، وأمر من سها بهما، ولم يفصِّل في سهوه الذي صدر عنه مُوجِب السُّجود بين القليل والكثير والغالب والمغلوب، وقال: «لكلِّ سهوٍ

(1)

للبخاري (1231) ومسلم (389/ 83 - ج 1/ 398) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ع: «له حُصاص» ، وهو عند مسلم في بعض الروايات.

(3)

رُسم في النسخ بالضاد.

(4)

سبق تخريجه (1/ 354).

ص: 206

سجدتان»

(1)

ولم يستثنِ من ذلك السهو الغالب مع أنَّه الغالب

(2)

.

قالوا: ولأنَّ شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة، وأمَّا حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب. فلله تعالى حكمان: حكمٌ في الدُّنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح، وحكم الآخرة

(3)

على الحقائق والبواطن. ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين ويكل سرائرهم إلى الله، ويناكحون ويرثون ويورثون، ويعتدُّ بصلاتهم في أحكام الدُّنيا، فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة. وأحكام الثواب والعقاب ليس إلى البشر، بل إلى الله يتولَّاه في الدار الآخرة.

قالوا: فنحن في حكم شرائع الإسلام نحكم بصحة صلاة المنافق والمُرائي مع أنها تُسقط عنه العقاب ولا يحصل له الثواب، فصلاة المسلم الغافل المبتلى بالوسواس وغفلة القلب عن كمال حضوره أولى بالصحة.

نعم، لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلًا ولا آجلًا، فإنَّ للصلاة مزيدًا عاجلًا في القلب من قوَّة إيمانه واستنارته، وانشراحه وانفساحه، ووَجْد حلاوة العبادة والفرح والسُّرور، واللذَّة التي تحصل لمن اجتمع قلبه وهمُّه على الله وحضر قلبُه بين يديه، كما يحصل لمن قرَّبه

(1)

أخرجه أحمد (22417) وأبو داود (1038) وابن ماجه (1219) من حديث ثوبان، وتمامه:«بعد ما يسلِّم» . وإسناده ضعيف، فيه زهير بن سالم العنسي، قال الدارقطني: حمصي منكر الحديث. ويُغني عنه حديث ابن مسعود مرفوعًا: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» . أخرجه البخاري (401) ومسلم (572/ 94) واللفظ له.

(2)

«مع أنه الغالب» ساقط من ع.

(3)

م، ج، ن، ع:«حكم في الآخرة» .

ص: 207

السُّلطان منه وخصَّه بمناجاته والإقبال عليه، والله أعلى وأجلُّ. وكذلك ما يحصل لهذا من الدرجات العلى في الآخرة ومرافقة المقرَّبين. كلُّ هذا يفوته بفوات الحضور والخشوع، وإنَّ الرجلين ليكون مقامهما في الصفِّ واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

وليس كلامنا في هذا كلِّه، فإن أردتم بوجوب الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه، إن شاء أن يحصِّلها وإن شاء أن يفوِّتها على نفسه. وإن أردتم بوجوب الإعادة

(1)

أنَّا نلزمه بها ونعاقبه على تركها ونرتِّب عليه أحكام تارك الصلاة فلا.

وهذا القول الثاني أرجح القولين، والله أعلم.

* * * *

(1)

ع: «بوجوبها» .

ص: 208