الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة التفويض
.
قال صاحب «المنازل»
(1)
: (وهو ألطف إشارةً وأوسع معنًى من التوكُّل، فإنَّ التوكُّل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده. وهو عين الاستسلام، والتوكُّل شعبةٌ منه).
يعني أنَّ المفوِّض يتبرَّأ من الحول والقوَّة، ويفوِّض الأمر إلى صاحبه، من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه، بخلاف التوكُّل
(2)
، فإنَّ الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكِّل. فالتفويض: براءةٌ وخروجٌ من الحول والقوَّة، وتسليمُ الأمر كلِّه إلى مالكه
(3)
.
فيقال: وكذلك التوكُّل أيضًا، وما قدحتم به في التوكُّل يَرِد عليكم نظيرُه في التفويض سواء، فإنَّك كيف تفوِّض شيئًا لا تملكه البتَّة إلى مالكه؟ وهل يصحُّ أن يفوِّض واحدٌ من آحاد الرعيَّة المُلكَ إلى مَلِك زمانه؟
فالعلَّة إذن في التفويض أعظم منها في التوكُّل. بل لو قال القائل: التوكُّل فوق التفويض وأجلُّ منه وأرفع، لكان مصيبًا. ولهذا، القرآنُ مملوء به أمرًا وإخبارًا عن خاصَّة الله وأوليائه وصفوته
(4)
المؤمنين بأنَّه حالهم
(5)
.
(1)
(ص 34).
(2)
ش: «المتوكل» .
(3)
ملخَّص من كلام التلمساني في «شرحه» (ص 203).
(4)
ع: «صفوة» .
(5)
ع: «بأن حالهم التوكل» .
وأمر الله به رسولَه في أربعة مواضع من كتابه
(1)
، وسمَّاه المتوكِّل
(2)
كما في «صحيح البخاري»
(3)
عن عبد الله بن عمرو قال: قرأت في التوراة
(4)
صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «محمَّدٌ رسول الله، سمَّيته المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا صخَّابٍ
(5)
في الأسواق
(6)
».
وأخبر عن رسله بأنَّ حالهم كان التوكُّل، وبه انتصروا على قومهم
(7)
.
وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ أنَّهم أهل مقام التوكُّل
(8)
.
ولم يجئ التفويض في القرآن إلَّا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44].
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتَّخذه وكيلًا، فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ
(1)
وهي التي ذكرها المؤلف (ص 381)، وفي القرآن غيرها كما سبق التنبيه عليه (ص 408 - 409/الهامش).
(2)
في النسخ عدا ش، ع زيادة:«في أربعة» ، ولم أتبيَّن وجهها، والكلام مستقيم بدونها.
(3)
برقم (2125، 4838).
(4)
انظر: سفر إشَعْياء، الإصحاح (42).
(5)
لفظ البخاري: «سخَّاب» بالسين، وهما لغتان.
(6)
ع: «بالأسواق» ، روايتان.
(7)
كما في قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} إلى قوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 12 - 13].
(8)
كما عند البخاري (6472) ومسلم (220) من حديث ابن عباس.
إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]. وهذا يُبطل قول من قال من جهلة القوم
(1)
: إنَّ توكيل الربِّ فيه جسارةٌ على الباري، لأنَّ التوكيل يقتضي إقامة الوكيل مقام الموكِّل، وذلك عين الجسارة. قال: ولولا أنّ الله أباح ذلك وندب إليه لما جاز للعبد تعاطيه.
وهذا من أعظم الجهل، فإنَّ اتِّخاذه وكيلًا هو محض العبوديَّة وخالص التوحيد إذا قام به صاحبه حقيقةً.
ولله درُّ سيِّد القوم وشيخ الطائفة سهل بن عبد الله إذ يقول: العلم كلُّه بابٌ من التعبُّد، والتعبُّد كلُّه باب من الورع، والورعُ كلُّه باب من الزهد، والزهد كلُّه باب من التوكُّل
(2)
.
فالذي نذهب إليه: أنَّ التوكُّل أوسع من التفويض وأعلى وأرفع.
قوله: (فإنَّ التوكُّل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده).
يعني بالسبب: الاكتساب، فالمفوِّض قد فوَّض أمره إلى الله قبل اكتسابه وبعد اكتسابه
(3)
، والمتوكِّل قد قام بالسبب وتوكَّل فيه على الله، فصار التفويض أوسع.
فيقال: والتوكُّل قد يكون قبل السبب ومعه وبعده، فيتوكَّل على الله أن يقيمه في سببٍ يوصله إلى مطلوبه، فإذا قام به توكَّلَ على الله حال مباشرته، فإذا أتمَّه توكَّل على الله في حصول ثمرته؛ فيتوكَّل على الله قبله ومعه وبعده.
(1)
يعني به التلمساني في «شرحه» (ص 203).
(2)
ذكره أبو طالب في «قوت القلوب» (2/ 3).
(3)
ع: «وبعده» .
فعلى هذا هو أوسع من التفويض على ما ذكر.
قوله: (وهو عين الاستسلام)، أي التفويض عين الانقياد بالكليَّة إلى الحقِّ سبحانه، ولا يبالي أكان ما يقضي له الخير أم خلافه؟ والمتوكِّل يتوكَّل على الله في مصالحه
(1)
.
وهذا القدر هو الذي لحظه القوم في هضم مقام التوكُّل ورفع مقام التفويض عليه، وجوابه من وجهين.
أحدهما: أنّ المفوِّض لا يفوِّض أمره إلى الله إلَّا لإرادته أن يقضي له ما هو خيرٌ له في معاشه ومعاده. وإن كان المقضيُّ له خلاف ما يظنُّه خيرًا فهو راضٍ به، لأنَّه يعلم أنَّه خير له وإن خفيت عليه جهة المصلحة فيه. وهكذا حال المتوكِّل سواء، بل أرفع من المفوِّض، لأنَّ معه من عمل القلب ما ليس مع المفوِّض، فالمتوكِّل مفوِّض وزيادة، فلا يستقيم مقام التوكُّل إلَّا بالتفويض، فإنَّه إذا فوَّض أمره إليه اعتمد بقلبه كلِّه عليه بعد تفويضه.
ونظير هذا: أنَّ من فوَّض أمره إلى رجلٍ وجعله إليه، فإنَّه يجد مِن نفسه بعد تفويضه اعتمادًا خاصًّا وسكونًا وطمأنينةً إلى المفوِّض إليه أكثر ممَّا كان قبل التفويض، وهذا هو حقيقة التّوكُّل.
الوجه الثاني: أنَّ أهمَّ مصالح المتوكِّل حصولُ مراضي محبوبه ومحابِّه، فهو يتوكَّل عليه في تحصيلها له، فأيُّ مصلحةٍ أعظم من هذا؟
وأمَّا التفويض فهو تفويض حاجات العبد المعيشيَّة وأسبابها إلى الله، فإنَّه لا يفوِّض إليه محابَّه، والمتوكِّل يتوكَّل عليه في محابِّه.
(1)
باختصار من «شرح التلمساني» (ص 204).
والوهم إنَّما دخل حيث يظنُّ الظانُّ أنَّ التوكُّل مقصور على معلوم الرِّزق، وقوت البدن، وصحَّة الجسم. ولا ريب أنَّ هذا التوكُّل ناقصٌ بالنِّسبة إلى التوكُّل في إقامة الدِّين والدعوة إلى الله.
قال
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ. الأولى: أن يعلم أنَّ العبد لا يملك قبل عمله استطاعةً، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعوِّل على نيَّة).
أي: يتحقَّق أنَّ استطاعته بيد الله لا بيده، فهو مالكها دونه، فإن لم
(2)
يعطه الاستطاعة فهو عاجز، فهو لا يتحرَّك إلَّا بالله لا بنفسه، فكيف يأمن المكر؟! وهو: أن لا يحرِّكَه مَن حركتُه بيده، بل يُثبِّطه ويُقعده مع القاعدين
(3)
، كما قال فيمن منعه مِن هذا التوفيق:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
فهذا مكر الله بالعبد: أن يقطع عنه موادَّ توفيقه، ويخلِّي بينه وبين نفسه، ولا يبعث دواعيه ولا يحرِّكه إلى مرضاته ومحابِّه. وليس هذا حقًّا علاه يكون ظالمًا بمنعه، بل هو مجرَّد فضله الذي يُحمَد على بذله لمن بذله له، وعلى منعه لمن منعه
(4)
إيَّاه، فله الحمد على هذا وهذا.
(1)
«المنازل» (ص 35).
(2)
ع: «فإنه إن لم» .
(3)
السياق في ع: «فكيف يأمن المكر وهو محرَّك لا محرِّك، يحرّكه مَن حركتُه بيده، وإن شاء ثبَّطه وأقعده مع القاعدين» .
(4)
«لمن منعه» ساقط من ل.