الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصادق الذَّكيُّ يأخذ من كلٍّ منهم ما عنده من الحقِّ فيستعين به على مطلبه، ولا يردُّ ما يجده عنده من الحقِّ بتقصيره في الحقِّ الآخر
(1)
ويُهدره به؛ فالكمال المطلق لله ربِّ العالمين، وما مِن العباد إلَّا مَن
(2)
له مقامٌ معلومٌ.
قال
(3)
:
(الدرجة الثالثة:
تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة، والاستغراقِ في قصد الوصول، والنظر إلى أوائل الجمع).
لمَّا جعل الدرجة الأولى انقطاعًا عن الخلق والثَّانيةَ انقطاعًا عن النَّفس جعل الثَّالثة لطلب السبق. وجعله بـ (تصحيح الاستقامة)، وهي الإعراض عمَّا سوى الحقِّ، ولزومُ الإقبال عليه، والاشتغالُ بمحابِّه.
ثمَّ بـ (الاستغراق في قصد الوصول)، وهو أن يَشغَلَه طلبُ الوصول عن كلِّ شيءٍ بحيث يستغرق همومَه وعزائمه وإراداتِه وأوقاتَه. وإنَّما يكون ذلك بعد بدوِّ برق الكشف المذكور له.
وأمَّا (النظر إلى أوائل الجمع)، فالجمع هو قيامُ الخلق كلِّهم بالحقِّ وحده، وقيامُه عليهم بالرُّبوبية والتدبير. والنظر إلى أوائل ذلك: الالتفات إلى مقدِّماته وبداياته، وهي العقبة التي ينحدر منها على وادي الفناء.
وقد قيل: إنّها وقفةٌ تعترض القاطع لأودية التفرقة قبل وصوله إلى الجمع، ومنها يشرف عليه. وهذه الوقفة تعترض كلَّ طالب مُجِدٍّ في طلبه،
(1)
ع: «في الآخر» .
(2)
«من» لم ترد في ع.
(3)
«المنازل» (ص 25).
فمنها يرجع على عقبيه، أو يصل إلى مطلبه، كما قيل
(1)
:
لابدَّ للعاشق من وقفةٍ
…
ما بين سلوانٍ وبين الغرامْ
وعندها ينقل أقدامه
…
إمَّا إلى خلفٍ وإمَّا أمامْ
والذي يظهر لي من كلامه أنَّ أوائل الجمع مبادئه ولوائحه وبوارقه.
وبعد هذا درجة رابعة، وهي الانقطاع عن مراده من ربِّه والفناءُ عنه
(2)
إلى مراد ربِّه منه والفناءُ به، فلا يريد منه، بل يريد ما يريده، منقطعًا به عن كلِّ إرادةٍ، فينظر في أوائل الجمع في مراده الدِّينيِّ الأمريِّ الذي يحبُّه ويرضاه.
وأكثر أرباب السُّلوك عندهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فرقٌ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} جمعٌ. ثمَّ منهم من يرى أنَّ ترك الفرق زندقة وكفر، فهو يعرض عن الجمع إلى الفرق. ومنهم من يرى أنَّ مقام التفرقة مقام ناقص مرغوب عنه، ويرى سوء حالِ أهله وتشتُّتَهم، ويرغب عنه عاملًا على الجمع، يتوجَّه معه حيث توجَّهت ركائبه.
والمستقيمون منهم يقولون: لا بدَّ للعبد السالك من جمعٍ وفرقٍ؛ وقيامُ العبوديَّة بهما، فمن لا تفرقة له لا عبوديَّة له، ومن لا جمع له لا معرفة له ولا حال، فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فرقٌ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} جمعٌ.
والحقُّ: أنّ كلًّا من مشهدَي
(3)
(1)
لم أقف عليه، والشطر الأول للعباس بن الأحنف في بيتين له. انظر:«الشعر والشعراء» (ص 831) و «الزهرة» (ص 106).
(2)
ع: «القناعة» ، تحريف.
(3)
في الأصل وغيره: «مشهد» مفردًا، ولعل المثبت من ع أولى.
متضمِّنٌ للفرق والجمع، وكمالُ العبوديَّة بالقيام بهما في كلِّ مشهدٍ.
ففرقُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}
(1)
: تنوُّع ما يُعبَد به، وكثرةُ تعلُّقاته وضروبه. وجمعه: توحيد المعبود بذلك كلِّه، وإرادةُ وجهه وحده، والفناءُ عن كلِّ حظٍّ ومرادٍ يزاحم حقَّه ومراده. فتضمَّن هذا المشهد فرقًا في جمعٍ، وكثرةً في وحدةٍ، فصاحبه يتنقَّل في منازل العبودية من عبادةٍ إلى عبادة، ومعبودُه واحد
(2)
.
وأمَّا فرق {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : فشهود ما يستعين به عليه، ومرتبتِه ومنزلتِه، ومحلِّه من النفع والضر، وبدايته وعاقبته، واتِّصالِه بل وانفصاله، وما يترتَّب عليه من هذا الاتِّصال والانفصال؛ فيشهد مع ذلك فقرَ المستعين وحاجته ونقصه، وضرورتَه إلى كمالاته التي يستعين ربَّه
(3)
في تحصيلها، وآفاتِه التي يستعينه في دفعها، ويشهد حقيقة الاستعانة وكفاية المستعان به. وهذا كلُّه فرقٌ يثمر عبوديَّةَ هذا المشهد.
وأمّا جمعه: فشهود تفرُّده سبحانه بالأفعال، وصدورِ الكائنات بأسرها عن مشيئته، وتصريفها بإرادته وحكمه. فغيبته بهذا المشهد عمَّا قبله من الفرق نقصٌ في العبوديّة، كما أنَّ تفرُّقه في الذي قبله دون ملاحظته نقصٌ أيضًا. والكمالُ إعطاء الجمع والفرق حقَّهما في هذا المشهد والمشهدِ الأوَّل.
(1)
من قوله: «متضمن للفرق
…
» إلى هنا ساقط من ع.
(2)
في ع زيادة: «لا إله إلا هو» .
(3)
في ل زاد بعضهم باء الجرِّ قبله فصار: «بربِّه» ، وكذا جاء في ج. والمثبت من الأصل وغيره يؤيده قوله الآتي:«يستعينه» .
(1)
ع: «تضمين» .