الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة السَّماع
.
وهو اسم مصدرٍ كالنَّبات، وقد أمر الله به في كتابه وأثنى على أهله، وأخبر أنَّ البشرى لهم، فقال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة: 108]، وقال:{وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16]، وقال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ}
(1)
[النساء: 46]، وقال:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18]، وقال:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال:{(82) سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
وجعل الإسماعَ منه والسماعَ منهم دليلًا على عِلم الخير فيهم، وعدمَ ذلك دليلًا على عدم الخير فيهم، فقال:{(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} [الأنفال: 23].
وأخبر عن أعدائه أنّهم هجروا السماع ونهوا عنه، فقال:{الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ} [فصلت: 26].
فالسَّماعُ رسولُ الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلمه، وكم في القرآن من
(1)
سقط {وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا} من الأصل، ل، ج، ع.
قوله: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71]
(1)
فالسَّماع أصل العقل، وأساس الإيمان الذي انبنى عليه، وهو رائده وجليسه ووزيره، ولكنَّ الشأن كلَّ الشأن في المسموع، وفيه وقع خبط الناس واختلافهم، وغلط من غلط منهم
(2)
.
وحقيقة السماع تنبيه القلب على معاني المسموع، وتحريكه عنها طلبًا وهربًا وحبًّا وبغضًا، فهو حادٍ يحدو بكلِّ أحدٍ إلى وطنه ومألفه. وأصحاب السماع منهم من يسمع بطبعه ونفسه وهواه، فهذا حظُّه من مسموعه ما وافق طبعه. ومنهم من يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله، فهذا يُفتَح له من المسموع بحسب استعداده وقوَّته ومادَّته. ومنهم من يسمع بالله لا يسمع بغيره، كما في الحديث الإلهيِّ الصحيح:«فبي يسمع، وبي يبصر»
(3)
، وهذا أعلى سماعًا وأصحُّ من كلِّ أحدٍ.
والكلام في السماع مدحًا وذمًّا يحتاج
(4)
إلى معرفة صورة المسموع وحقيقته، وسببه والباعث عليه، وثمرته وغايته، فبهذه الفصول الثلاثة يتحرَّر أمر السماع، ويتميَّز النافع منه والضارُّ، والحقُّ والباطل، والممدوح والمذموم.
(1)
وفي سورة السجدة: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [26].
(2)
ع: «وغلط منهم من غلط» .
(3)
تقدَّم (1/ 408) أن أصله في البخاري دون هذه الزيادة، فإنها لا تثبت.
(4)
في ع زيادة: «فيه» .
فأمَّا المسموع فعلى ثلاثة أضربٍ:
أحدها: مسموعٌ يحبُّه الله ويرضاه، وأمر به عباده، وأثنى على أهله ورضي عنهم به.
والثاني: مسموعٌ يبغضه
(1)
ويكرهه، ونهى عنه، ومدح المعرضين عنه.
الثالث: مسموعٌ مباحٌ مأذونٌ فيه، لا يحبُّه ولا يبغضه، ولا مدح صاحبه ولا ذمَّه، فحكمه حكم سائر المباحات من المناظر والمشامِّ والمطعومات والملبوسات المباحة.
فمن حرَّم هذا النوع الثالث فقد قال على الله ما لا يعلم، وحرَّم ما أحلَّ الله. ومن جعله دينًا وقربةً يتقرَّب به إلى الله فقد كذب على الله، وشرع دينًا لم يأذن به الله، وضاهى بذلك المشركين.
فصل
فأمَّا النوع الأوَّل فهو السماع الذي مدحه في كتابه، وأمر به وأثنى على أصحابه، وذمَّ المعرضين عنه ولعنهم وجعلهم أضلَّ من الأنعام، وهم القائلون في النّار:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وهو سماع آياته المتلوَّة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا السماع أساس الإيمان الذي عليه بناؤه. وهو على ثلاثة أنواعٍ: سماع إدراكٍ بحاسَّة الأذن، وسماع فهمٍ وعقلٍ، وسماع إجابةٍ وقبولٍ؛ والثلاثة في القرآن.
فأمَّا سماع الإدراك ففي قوله تعالى حكايةً عن مؤمني الجنِّ قولَهم:
(1)
ش: «يبغضه الله» .
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1] وقولهم: {يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30]، فهذا سماع إدراكٍ اتَّصل به الإيمان والإجابة.
وأمّا سماع الفهم فهو المنفيُّ عن أهل الإعراض والغفلة بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80]، وقولِه:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فالتخصيص هاهنا لإسماع الفهم والعقل، وإلَّا فالسمع العامُّ الذي قامت به الحجَّة لا تخصيص فيه.
ومنه قوله تعالى: {(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} [الأنفال: 23]، أي لو علم الله في هؤلاء الكفَّار قبولًا وانقيادًا لأفهمهم، وإلَّا فهُم قد سمعوا سمع الإدراك، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} ، أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموه
(1)
، لأنَّ في قلوبهم من داعي
(2)
التولِّي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه.
وأمَّا سماع القبول والإجابة ففي قوله تعالى حكايةً عن عباده المؤمنين أنّهم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، فإنَّ هذا سماع
(3)
قبولٍ وإجابةٍ مثمرٌ للطاعة. والتّحقيق أنَّه متضمِّن للأنواع الثّلاثة، وأنَّهم أخبروا بأنَّهم أدركوا المسموع وفهموه وأجابوا له.
(1)
ع: «فهموا» .
(2)
م، ش:«دواعي» .
(3)
ع: «سمع» .
ومِن سَمْع القبول: قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}
(1)
[التوبة: 47]، أي قابلون منهم مستجيبون لهم، هذا أصحُّ القولين في الآية
(2)
.
وأمَّا قول من قال: عيونٌ لهم وجواسيسُ فضعيف، فإنَّه سبحانه أخبر عن حكمته في تثبيطهم عن الخروج بأنَّ خروجهم يوجب الخَبال والفساد، والسَّعي بين العسكر بالفتنة، وفي العسكر من يقبل منهم ويستجيب لهم، فكان في إقعادهم عنهم لطفًا
(3)
بهم ورحمةً، حتَّى لا يقعوا في عنت القبول منهم.
أمَّا اشتمال العسكر على جواسيسَ وعيونٍ لهم، فلا تعلُّق له بحكمة التثبيط والإقعاد، ومعلومٌ أنَّ جواسيسهم وعيونهم منهم، وهو سبحانه قد أخبر أنَّه أقعدهم لئلَّا يسعوا بالفساد في العسكر ويبغونهم
(4)
الفتنة، وهذه الفتنة إنَّما تندفع بإقعادهم وإقعاد جواسيسهم وعيونهم.
وأيضًا فإنَّ الجواسيس إنَّما تُسمَّى عيونًا، هذا المعروف في الاستعمال، لا تسمَّى سمَّاعين.
(1)
في ع اقتصر على قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} .
(2)
وهو قول قتادة وابن إسحاق، والآتي قول مجاهد وابن زيد. انظر:«تفسير الطبري» (11/ 486).
(3)
كذا في النسخ الخطية، والوجه الرفع.
(4)
كذا في النسخ بالرفع، ويصح ذلك لو حُذفت واو العطف ليكون الفعل حالًا، وهو مقتضى لفظ الآية.
وأيضًا فإنَّ هذا نظير قوله تعالى في إخوانهم من اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، أي قابلون له.
والمقصود أنّ سماع خاصَّة الخاصَّة المقرَّبين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة: إدراكًا، وفهمًا وتدبُّرًا، وإجابةً. وكلُّ سماعٍ في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه، فهو هذا السماع.
وهو سماع الآيات، لا سماع الأبيات
(1)
؛ وسماع القرآن، لا سماع الشيطان؛ وسماع المراشد، لا سماع القصائد
(2)
؛ وسماع الأنبياء والمرسلين والمؤمنين
(3)
، لا سماع المغنِّين والمطربين؛ وسماع كلام ربِّ الأرض والسماء، لا سماع قصائد الشُّعراء.
فهذا السماع حادٍ يحدو القلوب إلى جوار علَّام الغيوب، وسائقٌ يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحرِّكٌ يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، ومنادٍ ينادي للإيمان، ودليلٌ يدل بالركب في طريق الجنان، وداعٍ يدعو القلوب بالمساء والصباح من قِبَل فالق الإصباح: حيَّ على الفلاح، حيّ على الفلاح.
فلن تَعْدَم مِن هذا السّماع إرشادًا لحجَّة، وتبصرةً لعبرة، وتذكرةً لمعرفة،
(1)
«لا سماع الأبيات» ساقط من ل.
(2)
«وسماع المراشد، لا سماع القصائد» تأخر في ع إلى آخر الفقرة. وأشير بين السطرين أن: «سماع الأنبياء والمرسلين، لا سماع المغنيين والمطربين» موضعه أيضًا في آخر الفقرة معطوفًا على الجملة السابقة.
(3)
«والمؤمنين» ساقط من ع.
وفكرةً في آيةٍ، ودلالةً على رشد، وردًّا عن ضلالة، وإرشادًا من غيٍّ، وبصيرةً من عمًى، وأمرًا بمصلحة، ونهيًا عن مضرَّةٍ ومفسدة، وهدايةً إلى نور، وإخراجًا من ظلمة، وزجرًا عن هوًى، وحثًّا على تُقًى، وجلاءً لبصيرة، وحياةً لقلب وغذاءً، ودواءً وشفاءً، وعصمةً ونجاةً، وكشفَ شبهة، وإيضاحَ برهان، وتحقيقَ حقٍّ وإبطالَ باطل.
ونحن نرضى بحكم أهل الذوق في سماع الأبيات والقصائد، ونناشدهم بالّذي أنزل القرآن هدًى وشفاءً ونورًا وحياةً: هل وجدوا ذلك أو شيئًا منه في الدُّفِّ والمزمار، ونغمةِ الشاهد
(1)
ومطربات الألحان، والغناءِ المشتمل على تهييج الحبِّ المطلق الذي يشترك فيه محبُّ الرَّحمن، ومحبُّ الأوطان، ومحبُّ الإخوان، ومحبُّ العلم والعرفان، ومحبُّ الأموال والأثمان، ومحبُّ النِّسوان، ومحبُّ
(2)
المردان، ومحبُّ الصُّلبان؟ فهو يثير من قلب كلِّ مشتاقٍ ومحبٍّ إلى شيءٍ ساكنَه، ويُزعج قاطنَه، فيثور وجدُه، ويبدو شوقُه، فيتحرَّك على حسب ما في قلبه من الحبِّ والشّوق والوجد بذلك
(1)
«الشاهد» في اصطلاح القوم: ما يكون حاضر قلب الإنسان مستوليًا عليه. ويُطلَق على صاحب الوجه الوضيء والصوت الحسن الذي استولى ذكره وحبُّه على القلب. ومن عادة بعض الصوفية تحرِّي أصحاب الصور الجميلة من المردان للإسماع، وقد يُحضرَون ليمتحن بهم السالك نفسه: هل هو مشغول بجماله، أو مشغول عنه بما هو فيه من حال السماع؟ فإن كان الأول فالأمرد المسمَّى بـ «الشاهد» شاهد عليه في بقاء نفسه، وإن كان الثاني فهو شاهد له على فناء نفسه! انظر:«القشيرية» (ص 288 - 289)، و «الاستقامة» لشيخ الإسلام (1/ 320)، و «إحكام الدلالة على تحرير الرسالة» لزكريا الأنصاري (1/ 330).
(2)
«محب» ساقط من ع.
المحبوب كائنًا ما كان، ولهذا تجد لهؤلاء كلِّهم ذوقًا في السماع وحالًا ووجدًا وبكاءً.
ويا لله العجب! أيُّ إيمانٍ ونورٍ وبصيرةٍ وهدًى ومعرفةٍ يحصل باستماع أبياتٍ بألحانٍ وتوقيعاتٍ لعلَّ أكثرها قيلت فيما يهوى من محرَّمٍ يبغضه الله ورسوله ويعاقب عليه من تغزُّلٍ وتشبُّبٍ بمن لا يحلُّ له من ذكرٍ أو أنثى؟! فإنَّ غالب التغزُّل والتشبيب إنّما هو في الصُّور المحرَّمة، ومن أندر النادر تغزُّل الشاعر وتشبيبه في امرأته وأَمَته وأمِّ أولاده، مع أنَّ هذا واقعٌ لكنَّه كالشعرة في جلد الثور، فكيف يقع لمن له أدنى بصيرةٍ وحياةِ قلبٍ أنه
(1)
يتقرَّب إلى الله ويزداد إيمانًا وقُربًا منه وكرامةً عليه بالتذاذ ما هو بغيضٌ إليه مقيتٌ عنده، يَمقُت قائلَه وقابله
(2)
والراضي به، ويترقَّى به الحال حتَّى يزعم أنَّ ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النّافع وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم؟!
تاللهِ إنَّ هذا القلب مخسوفٌ به، ممكورٌ به، منكوسٌ! لم يَصلُح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ومطالعة أسراره، فبَلاه
(3)
بقرآن الشيطان، كما في «معجم الطبراني»
(4)
وغيره مرفوعًا وموقوفًا: «إنَّ الشيطان قال: يا ربِّ،
(1)
ع: «أن» .
(2)
م: «ناقله» .
(3)
أي: ابتلاه الله. وفي ل: «فتولاه» ، ش:«فتلاه» ، كلاهما تصحيف.
(4)
(11/ 104) ــ ومن طريقه أبونعيم في «الحلية» (3/ 278) والضياء في «المختارة» (11/ 164) ــ عن ابن عباس مرفوعًا، وأخرجه الطبراني أيضًا (8/ 245) عن أبي أمامة مرفوعًا، وإسناد كليهما واهٍ. انظر:«الضعيفة» للألباني (6054، 6055).
هذا، وقد صحَّ ذلك من قول قتادة موقوفًا عليه، أخرجه ابن أبي الدنيا في بعض رسائله ــ ومن طريقه الخطيب في «الموضِّح» (2/ 31) ــ والبيهقي في «شعب الإيمان» (4738).
اجعل لي قرآنًا، قال: قرآنك الشِّعر، قال: اجعل لي كتابًا، قال: كتابك الوشم، قال: اجعل لي مؤذِّنًا، قال: مؤذِّنك المزمار، قال: اجعل لي بيتًا، قال: بيتك الحمَّام، قال: اجعل لي مصايد، قال: مصايدك النِّساء، قال: اجعل لي طعامًا، قال: طعامك ما لم يذكر عليه اسمي».
فصل
القسم الثاني من السماع: ما يبغضه ويكرهه ويمدح المُعرِض عنه، وهو سماع كلِّ ما يضرُّه في قلبه ودينه، كسماع الباطل كلِّه، إلَّا إذا تضمَّن ردَّه وإبطالَه والاعتبارَ به بعلمه بحسن ضدِّه، فإن الضدَّ يُظهر حسنَه الضدُّ
(1)
، كما قيل
(2)
:
وإذا سمعت إلى حديثك زادني
…
حبًّا له سمعي حديثَ سواكا
وكسماع اللَّغو الذي مدح الله التاركين لسماعه والمُعرضين عنه بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، وقوله:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، قال محمَّد ابن الحنفيَّة رضي الله عنه: هو الغناء، قال الحسن أو غيره: أكرموا نفوسهم عن سماعه
(3)
.
(1)
ضمَّن شطر بيتٍ تقدَّم تخريجه (1/ 221).
(2)
لم أقف عليه.
(3)
«معالم التنزيل» (6/ 98، 99) بنحوه، إلا أن قول ابن الحنفيَّة إنما ذكره البغوي في تفسير الزور من قوله تعالى أوَّلَ الآية:{لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، وكذا أسنده عنه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2737). وانظر:«الدر المنثور» (11/ 227).
قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: «الغناء ينبت النِّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»
(1)
. وهذا كلام عارفٍ بأثر الغناء وثمرته، فإنَّه ما اعتاده أحدٌ إلَّا ونافق قلبُه وهو لا يشعر، ولو عرف حقيقة النِّفاق وغايته لأبصره في قلبه، فإنَّه ما اجتمع في قلبٍ
(2)
قطُّ محبَّة الغناء ومحبَّة القرآن إلَّا وطردت إحداهما الأخرى. وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبَرُّمَهم به، وصياحَهم بالقارئ إذا طوَّل عليهم، وعدمَ انتفاع قلوبهم بما يقرؤه، فلا تتحرَّك ولا تَطْرَب
(3)
ولا يَهيج منها بواعثُ الطلب، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلّا الله، كيف تخشع منهم الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع البكاء والوَجْد، والحركةُ الظاهرة والباطنة، والسماحةُ بالأثمان والثِّياب، وطيبُ السَّهر وتمنِّي طول الليل! فإن لم يكن هذا نفاقًا فهو آخيَّة النِّفاق وأساسه.
تُلي الكتابُ فأطرقوا لا خيفةً
…
لكنّه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناءُ فكالدِّباب
(4)
تراقصوا
…
واللهِ ما رقصوا مِنَ اجْل الله
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» (30، 33، 34، 37) والخلال في «السنة» (1642، 1643) والبيهقي في «السنن الكبير» (10/ 223) من طرق عن ابن مسعود موقوفًا عليه. وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصحّ. قال المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 438 - 439): «هو صحيح عن ابن مسعود من قوله
…
وفي رفعه نظر».
(2)
ع: «قلبِ عبدٍ» .
(3)
م: «يضطرب» ، وأشير في هامشها إلى أن المثبت ورد في نسخة أخرى.
(4)
في جميع المطبوعات: «كالذُّباب» ، خطأ. والمراد بـ «الدِّباب» جمع «الدُّبِّ» الحيوان المعروف. انظر:«زاد المعاد» (3/ 398) وتعليقي عليه.
دفٌّ ومزمارٌ ونغمةُ شاهدٍ
(1)
…
فمتى عهدتَ عبادةً بملاهي؟
ثَقُل الكتاب عليهم لمَّا رأوا
…
تقييده بأوامرٍ ونواهي
وعليهم خفَّ الغنا لمَّا رأوا
…
إطلاقه في اللهو دون مناهي
يا فرقةً ما ضرَّ دين محمَّدٍ
…
وجنى عليه ومَلَّه إلَّا هي
(2)
وكيف يكون السَّماع الذي يسمعه العبدُ بطبعه وهواه أنفعَ له من الذي يسمعه بالله ولله وعن الله؟ فإن زعموا أنَّهم يسمعون هذا السماع الغنائيَّ الشعريَّ كذلك، فهذا غاية اللَّبس على القوم، فإنَّه إنَّما يُسمع بالله ولله وعن الله ما يحبُّه الله ويرضاه. ولهذا قلنا: إنَّه لا يتحرَّر الكلام في هذه المسألة إلَّا بعد معرفة صورة المسموع وحقيقته ومرتبته، فقد جعل الله لكلِّ شيءٍ قدرًا، ولن يجعل الله مَن شِرْبُه ونصيبه وذوقه ووجده من سماع الآيات البيِّنات كمن نصيبه وشربه وذوقه ووجده من سماع الغناء والأبيات.
ومن أعجب العجائب: استدلال من استدلَّ على أنَّ هذا السماع مِن طريق القوم أو أنَّه مباحٌ بكونه مستلَذًّا طيبًا تلذُّه النُّفوس وتستروح إليه، وأنَّ
(1)
سبق بيان معنى الشاهد (ص 137).
(2)
ذكرها المؤلف أيضًا في «الكلام على مسألة السماع» (ص 19 - 20). وأنشد البيتين الأوَّلين مع الأخير الطرطوشيُّ (ت 520) في «تحريم السماع» (ص 233) عن «بعضهم» مع اختلاف في لفظها. وذكر شيخ الإسلام الثلاثة الأولى مع الأخير في «جامع المسائل» (1/ 91) بلا نسبة. وذكر المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 402 - 403) الأربعة الأولى مع ثمانية أبياتٍ أخرى، وقد وردت هنا بعد هذه الستة في نسخةٍ حديثة بدار الكتب المصرية (20531) نُسخت سنة (1301)، وعنها في طبعة الفقي (1/ 487)، ولعل الناسخ قد زادها من «الإغاثة» . انظر هامش المحقق في طبعة دار الكتب المصرية (2/ 232).
الطِّفل يسكن إلى الصوت الطيِّب، والجمل يُقاسي تعب السَّير ومشقَّة الحمولة فيهوَّن عليه بالحُداء
(1)
.
وبأنَّ الصوت الطيِّب نعمة من الله على صاحبه وزيادةٌ في خلقه.
وبأنَّ الله ذمَّ الصوت الفظيع، فقال:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
وبأنَّ الله وصف نعيم الجنة فقال فيه: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15]، وأن ذلك هو السماع الطيِّب
(2)
، فكيف يكون حرامًا وهو في الجنَّة؟
وبأنَّ الله تعالى ما أَذِن لشيءٍ كأَذَنه ــ أي: كاستماعه ــ لنبيٍّ حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن
(3)
.
وبأنَّ أبا موسى الأشعريَّ رضي الله عنه استمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم صوتَه وأثنى عليه بحُسن الصوت وقال: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود» ، وقال له أبو موسى: لو أعلم أنَّك استمعت لحبَّرتُه لك تحبيرًا
(4)
. أي زيَّنته لك وحسَّنته.
(1)
هذا وما سيأتي من الاستدلالات جلُّها للقُشيري في «رسالته» (ص 675 - 681). وانظر: «اللمع» للطوسي (ص 273 - 277) و «إحياء علوم الدين» (2/ 270 - 278).
(2)
به فسَّره يحيى بن أبي كثير الطائي (من العلماء العبَّاد من صغار التابعين). أخرجه عنه الطبري في «تفسيره» (18/ 472).
(3)
كما في حديث أبي هريرة عند البخاري (7544) ومسلم (792).
(4)
كما في حديثه عند عبد الرزاق (4187) والنسائي في «الكبرى» (8004) وابن حبان (7197) والبيهقي في «السنن الكبير» (3/ 12). وقد أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793) مختصرًا دون قول أبي موسى.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «زيِّنوا القرآن بأصواتكم»
(1)
.
وبقوله: «ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن»
(2)
، والصحيح أنَّه من التغنِّي، وهو تحسين الصوت به، وبذلك فسَّره أحمد فقال: يحسِّنه بصوته ما استطاع
(3)
.
وبأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ عائشة رضي الله عنها على غناء القَينتَين يوم العيد، وقال لأبي بكرٍ:«دعهما، فإنَّ لكلِّ قومٍ عيدًا، وهذا عيدُنا أهلَ الإسلام»
(4)
.
وبأنَّه صلى الله عليه وسلم أذن في العُرس في الغناء وسمَّاه لهوًا
(5)
. وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُداء وأذن فيه
(6)
، وكان يسمع إنشاد الصحابة، وكانوا يرتجزون بين
(1)
أخرجه أحمد (18494) وأبو داود (1468) والنسائي (1015) والدارمي (3543) وابن خزيمة (1551) وابن حبان (749) والحاكم (1/ 571 - 575). وقد علَّقه البخاري مبوِّبًا به في كتاب التوحيد.
(2)
أخرجه البخاري (7527) من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد (1476) وأبو داود (1469) والدارمي (1531) وابن حبان (120) والحاكم (1/ 569) وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص. وانظر: «التتبُّع» (5) و «العلل» (1734) للدارقطني.
(3)
لم أجده، والذي في «المغني» (14/ 167) أنه قال: يرفع صوته به. وانظر: «مسائل صالح» (1/ 367). وما ذكره المؤلف روي من قول التابعي الفقية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بنحوه، كما عند أبي داود (1471) وغيره.
(4)
أخرجه البخاري (3931) ومسلم (892) من حديث عائشة.
(5)
كما في حديث عائشة عند البخاري (5162) أنها زفَّت امرأةً إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو» .
(6)
فيه غيرحديث، كحديث أنس في قصة حادٍ كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسمه أنجشة. انظر: البخاري (6211) ومسلم (2323).
يديه في حفر الخندق:
نحن الذين بايعوا محمَّدَا
…
على الجهاد ما بقينا أبدَا
(1)
ودخل مكَّة والمرتجز يرتجز بين يديه بشعر عبد الله بن رواحة
(2)
.
وحدا به الحادي في منصرفه من خيبر فجعل يقول:
واللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا
…
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
فأنزلنْ سكينةً علينا
…
وثبِّت الأقدام إن لاقينا
إنّ الأُلى قد بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنةً أبينا
ونحن إن صيح بنا أتينا
(3)
فدعا لقائله
(4)
.
وسمع قصيدةَ كعب بن زهيرٍ وأجازه ببردةٍ
(5)
. واستنشد الأسود بن
(1)
كما في حديث أنس عند البخاري (2834) ومسلم (1805/ 130).
(2)
بل كان هو نفسه المرتجز، وذلك في عمرة القضاء، كما في حديث أنس عند الترمذي (2848) والنسائي (2873) وابن خزيمة (2680) وابن حبان (4521). وانظر:«زاد المعاد» (3/ 466) وتعليقي عليه.
(3)
في ع زيادة: «وبالصياح عوَّلوا علينا
…
ونحن عن فضلك ما استغنينا».
والبيتان وردا في بعض روايات الحديث.
(4)
أخرجه مسلم (1802/ 124) وليس فيه ذكر جميع الأبيات، والحادي: سلمة بن الأكوع، والأبيات لأخيه عامر، وكان عامر يرتجز بها في طريقهم إلى خيبر، وقد استُشهد هناك. انظر: البخاري (4196، 6148) ومسلم (1802/ 123، 1807).
(5)
أخرجه الحاكم (3/ 579 - 584) من طرق فيها لين وعامَّتها مراسيل، وليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه ببردةٍ. وانظر:«الإصابة» (9/ 274).
سَرِيعٍ قصائدَ حمد بها ربَّه
(1)
. واستنشد من شعر أميَّة بن أبي الصَّلت مائة قافيةٍ
(2)
. وأنشده الأعشى شيئًا من شعره فسمعه
(3)
. وصدَّق لَبِيدًا في قوله:
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطل
(4)
ودعا لحسَّان أن يؤيِّده الله بروح القدس ما دام ينافح عنه، وكان يعجبه شعره، وقال له:«اهْجُهم وروح القدس معك»
(5)
.
وأنشدته عائشة رضي الله عنها قول أبي كبيرٍ الهذليِّ:
ومبَرَّأٍ من كلِّ غُبَّر حيضةٍ
…
وفساد مرضعةٍ وداءٍ مُغْيِلِ
وإذا نظرت إلى أسرَّة وجهه
…
برَقَتْ كبرق العارض المتهلِّل
(1)
أخرجه أحمد (15585) والبخاري في «الأدب المفرد» (342، 859، 861) والطبراني في «الكبير» (1/ 282، 287، 288) والحاكم (3/ 614، 615) بأسانيد فيها ضعف. ثم إنَّ في بعض طرقه: أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن له قصائد حمد فيها الله، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن ربك يحب الحمد» ولم يزده على ذلك، وفي رواية: لم يستزده، وفي رواية: لم يستنشده.
(2)
كما في «صحيح مسلم» (2255) من حديث الشَّريد بن سُويد الثقفي.
(3)
أخرجه البخاري في «تاريخه» (2/ 61) وعبد الله بن أحمد في زوائد «مسند أبيه» (6885) وأبو يعلى (6871) من طريق صدقة بن طَيسلة، عن معن بن ثعلبة المازني، عن الأعشى المازني. والإسناد فيه لين، لأن صدقة ومعن لم يوثِّقهما غير ابن حبان.
(4)
أخرجه البخاري (3841) ومسلم (2256) من حديث أبي هريرة.
(5)
أخرجه البخاري (3213) ومسلم (2486) من حديث البراء بن عازب. وأخرجه البخاري (3212) ومسلم (2485) أيضًا من حديث حسان بلفظ: «أجب عنِّي، اللهم أيِّده بروح القدس» .
وقالت: أنت أحقُّ بهذا البيت، فسُرَّ بقولها
(1)
.
وبأنَّ ابن عمر رخَّص فيه، وعبد الله بن جعفرٍ وأهل المدينة
(2)
.
وبأنَّ كذا وكذا وليٍّ
(3)
لله حضروه وسمعوه، فمن حرَّمه فقد قدح في هؤلاء السادة القدوة الأعلام
(4)
.
وبأنَّ الإجماع منعقدٌ على إباحة أصوات الطُّيور المُطربة الشجيَّة، فملذَّة
(5)
سماع صوت الآدميِّ أولى بالإباحة أو مساويةٌ.
وبأنَّ السماع يحدو روحَ السامع وقلبَه إلى نحو محبوبه، فإن كان محبوبه حرامًا كان السماع مُعينًا له على الحرام، وإن كان مباحًا كان السماع في حقِّه مباحًا، وإن كانت محبَّته رحمانيَّةً كان السماع في حقِّه قربةً وطاعةً، لأنَّه يحرِّك المحبَّة الرحمانيَّة ويقوِّيها
(6)
ويهيِّجها.
(1)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 45) والبيهقي في «السنن الكبير» (7/ 422) والخطيب في «تاريخ بغداد» (15/ 339) بإسناد غريب فيه راوٍ مجهول. قال الحافظ ابن كثير: وهذا حديث منكر جدًّا، وقال الألباني: لوائح الوضع عليه ظاهرة. انظر: «التكميل في الجرح والتعديل» (1/ 118 - 119) و «الضعيفة» (4144).
والبيتان من قصيدةٍ لأبي كبير في «حماسة أبي تمام» (1/ 73 - 74) و «ديوان الهذليين» (2/ 93، 94).
(2)
كما في «اللمع» للطوسي (ص 276 - 277).
(3)
كذا في النسخ، والجادة النصب.
(4)
قال المكي في «قوت القلوب» (2/ 61): «فإن أنكرناه (أي: السماع) مجملًا فقد أنكرنا على تسعين صادقًا من خيار الأمة» !
(5)
ع: «فلذَّة» .
(6)
م، ش:«يقربها» .
وبأنَّ التذاذ الأذن بالصوت الطيِّب كالتذاذ العين بالمنظر الحسن، والشمِّ بالروائح الطيِّبة، والفم بالطُّعوم الطيِّبة؛ فإن كان هذا حرامًا كانت جميع هذه اللذَّات والإدراكات محرَّمةً.
فالجواب: أنَّ هذا
(1)
حيدةٌ عن المقصود، وروغانٌ عن محلِّ النزاع، وتعلُّقٌ بما لا تعلُّق
(2)
به، فإنَّ جهة كون الشيء مستلذًّا
(3)
للحاسَّة ملائمًا لها لا يدلُّ على إباحته ولا تحريمه، ولا كراهته ولا استحبابه، فإنَّ هذه اللذَّة تكون في الأحكام الخمسة: تكون في الحرام، والواجب، والمكروه، والمستحبِّ، والمباح؛ فكيف يَستدلُّ بها على الإباحة مَن يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال؟!
وهل هذا إلَّا بمنزلة من استدلَّ على إباحة الزِّنا بما يجد به فاعلُه من اللذَّة، وأنَّ لذَّته لا ينكرها ذو طبع سليم؟ وهل يَستدلُّ بوجود اللذَّة والملاءمة على حِلِّ اللذيذ الملائم أحدٌ؟ وهل خَلَت غالبُ المحرَّمات من اللذَّات؟ وهل أصوات المعازف التي صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تحريمُها وأنَّ في أمّته من يستحلُّها بأصحِّ إسنادٍ
(4)
، وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها، وقال جمهورهم بتحريم جملتها= إلَّا لذيذةٌ تلَذُّ
(5)
للسمع؟ وهل في التذاذ
(1)
ع: «هذه» .
(2)
ع: «متعلَّق» .
(3)
ع: «ملتذًّا» .
(4)
يعني: حديث البخاري (5590) عن أبي عامر ــ أو أبي مالك ــ الأشعري مرفوعًا: «ليكونَنَّ من أمتي أقوام يستحلُّون الحر والحرير والخمر والمعازف
…
».
(5)
ع: «تلتذُّ» .
الجَمَل والطفل بالصوت الطيِّب دليلٌ على حُكمه مِن إباحةٍ أو تحريم؟
وأعجب من هذا: الاستدلالُ على الإباحة بأنَّ الله خلق الصوت الطيِّب، وهو زيادة نعمةٍ منه لصاحبه.
فيقال: والصُّورة الحسنة الجميلة أليست زيادةً في النِّعمة، واللهُ خالقها ومعطي حسنها؟ أفيدلُّ ذلك على إباحة التّمتُّع بها والالتذاذ بها على الإطلاق؟! وهل هذا إلَّا مذهبُ أهل الإباحة الجارين مع رسوم الطبيعة؟ وهل في ذمِّ الله لصوت الحمار ما يدلُّ على إباحة الأصوات المطربات بالنَّغَمات الموزونات، والألحان اللذيذات، من الصُّور المستحسنات، بأنواع القصائد المستحسنات، بالدُّفوف والشبَّابات
(1)
؟ هذا وأبيك
(2)
إحدى المضحكات المُعجِبات!
وأعجب من هذا: الاستدلال على الإباحة بسماع أهل الجنَّة. وما أجدرَ صاحبَه أن يستدلَّ على إباحة الخمر بأنَّ في الجنَّة خمرًا، وعلى لبس الحرير بأنَّ لباس أهلها حريرٌ، وعلى حلِّ أواني الذهب والفضَّة والتَّحلِّي بها للرِّجال بكون ذلك ثابتًا في الجنَّة!
فإن قال: قد قام الدليل على تحريم هذا، ولم يقم على تحريم السماع.
قيل: هذا الآن استدلالٌ آخر غير الاستدلال بإباحته لأهل الجنَّة، فعلم أنَّ استدلالك بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل لا يرضى به مُحصِّل.
وأمَّا قولك: لم يقم دليلٌ على تحريم السّماع، فيقال لك: أيَّ السّماعات
تعني؟ وأيَّ المسموعات تريد؟ فالسماعات والمسموعات منها المحرَّم والمكروه والمباح والواجب والمستحب، فعيِّن نوعًا يقع الكلام فيه نفيًا وإثباتًا.
فإن قلت: سماع القصائد، قيل لك: أيَّ القصائد تعني؟ ما مُدح الله به ورسولُه
(1)
وكتابُه، وهجي به أعداؤه؟ فهذا
(2)
لم يزل المسلمون يروونها ويَسمعونها ويُسمعونها
(3)
ويتدارسونها، وهي التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأثاب عليها، وحرَّض حسَّانَ عليها، وهي التي غرَّت أصحاب السماع الشيطانيِّ فقالوا: تلك قصائد وسماعنا قصائد! فنعم إذًا، والسُّنَّة كلامٌ والبدعة كلام، والتسبيح كلامٌ والغيبة والقذف كلام
(4)
!
ولكن هل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم سماعكم
(5)
الشيطاني المشتمل على أكثر من مائة مفسدةٍ مذكورةٍ في غير هذا الموضع
(6)
؟ وقد أشرنا فيما تقدَّم
(7)
إلى بعضها.
ونظير هذا: ما غرَّهم من استحسانه صلى الله عليه وسلم الصوت الحسن بالقرآن وإذْنه فيه وأَذَنه له ومحبَّة الله له، فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النِّسوان
(1)
في ع زيادة: «ودينه» .
(2)
ع: «فهذه» .
(3)
«ويُسمعونها» ساقط من ع وجميع الطبعات.
(4)
ع: «والغيبة كلام، والدعاء كلام والقذف كلام» .
(5)
في ع زيادة: «هذا» .
(6)
انظر: «الكلام على مسألة السماع» للمؤلف (ص 19 - 20، 216 - 229).
(7)
(ص 140).
والمُردان وغيرهم بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد
(1)
، وذكرِ القدِّ والنَّهد والخصر، ووصف العيون وفعلها، والشعر الأسود، ومحاسن الشباب، وتوريد الخدود، وذكر الوصل والصدِّ، والتجنِّي والهجران، والعتاب والاستعطاف، والاشتياق والقلق والفراق، وما جرى هذا المجرى ممَّا هو أفسد للقلب من سُكر الخمر بما لا نسبة بينهما، وأيُّ نسبةٍ لسكر يومٍ
(2)
ونحوه إلى سَكرة العشق التي لا يستفيق
(3)
صاحبُها إلَّا في عسكر الهالكين سليبًا حريبًا
(4)
أسيرًا قتيلًا؟ وهل تقاس سَكرة الشراب إلى سكرة الأرواح بالسَّماع؟ وهل يُظنُّ بحكيمٍ أن يحرِّم سكرًا لمفسدةٍ فيه معلومةٍ، ويبيح سكرًا مفسدتُه أضعاف أضعاف مفسدة الشراب؟ حاشا أحكم الحاكمين.
فإن نازعوا في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح خرجوا عن الذوق والحسِّ فظهرت
(5)
مكابرة القوم. فكيف يحمي الطبيبُ المريض عمَّا يشوِّش عليه صحَّته ويبيح له ما فيه أعظم السُّقم؟ والمنصف يعلم أنّه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب وسقمها بسكر السماع، وكلامنا مع واجدٍ لا فاقدٍ، فهو المقصود بالخطاب.
وأعجب من هذا: استدلالهم
(6)
على إباحة السماع المركَّب ممَّا ذكرنا
(1)
سبق ذكر معنى الشاهد (ص 137).
(2)
ع: «لمفسدة سكرِ يومٍ» .
(3)
في ع زيادة: «الدهرَ» .
(4)
الحريب هو السَّليب، أي: المسلوب الذي سُلب ماله.
(5)
ع: «وظهرت» .
(6)
ع: «استدلالكم» .
من الهيئة الاجتماعية بغناء بِنْتَين صغيرتين دون البلوغ عند امرأةٍ صبيَّة في يوم عيدٍ وفرحٍ بأبياتٍ من أبيات العرب في وصف الشَّجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشِّيم، فأين هذا من هذا؟
والعجب أنّ هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم، فإنَّ الصدِّيق الأكبر سمَّى ذلك مزمور الشَّيطان
(1)
وأقرَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية، ورخَّص فيه لجويريَتَين غير مكلَّفتين، ولا مفسدة في إنشاده ولا استماعه، أفيدلُّ هذا على إباحة ما يعلمونه ويعملونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟ فيا سبحان الله! أَضَلَّت العقولُ والأفهام؟
وأعجب من هذا كلِّه: الاستدلال على إباحته بما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحُداء المشتمل على الحقِّ والتوحيد؟! وهل حرَّم أحدٌ مطلقَ الشِّعر وقولَه واستماعه؟ فكم هذا التعلُّق ببيوت
(2)
العنكبوت!
وأعجب من هذا: الاستدلال على إباحته بإباحة أصوات الطُّيور اللذيذة، وهل هذا إلَّا من جنس قياس الذين قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]! وأين أصوات الطُّيور إلى نغمات الغِيد الحِسان، والأوتار والعيدان، وأصوات أشباه النِّساء من المُردان، والغناءِ بما يحدو الأرواح والقلوب إلى مواصلة كلِّ محبوبةٍ ومحبوبٍ؟! وأين الفتنة بهذا إلى الفتنة بصوت القُمريِّ والبُلبل والهَزَارِ
(3)
ونحوها؟
(1)
ع: «مزمورًا من مزامير الشيطان» .
(2)
م، ش:«ببيت» .
(3)
طائر حسن الصوت، قيل: هو العندليب بالفارسية، وقيل: هو نوع منه.
بل نقول: لو كانا سواءً لكان اتِّخاذ هذا السّماع قربةً وطاعةً تُستنزَل
(1)
به المعارف والأذواق والمواجيد وتُحَلُّ به
(2)
الأحوال= بمنزلة التقرُّب إلى الله بأصوات الطُّيور، ومعاذ الله أن يكونا سواءً.
والذي يفصل النِّزاع في حكم هذه المسألة ثلاثُ قواعدَ مِن أهمِّ قواعد الإيمان والسُّلوك، فمن لم يَبْنِ عليها فبناؤه على شفا جرفٍ هارٍ.
القاعدة الأولى: أنَّ الذوق والحال والوجد: هل هو حاكمٌ أو محكومٌ عليه، فيُحكم عليه
(3)
بحاكمٍ آخر أو يُتحاكم
(4)
إليه؟
فهذا منشأ ضلال من ضلَّ من المفسدين لطريق القوم الصَّحيحة، حيث جعلوه حاكمًا، فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع، وفيما هو صحيح وفاسد، وجعلوه محكًّا
(5)
للحقِّ والباطل، فنبذوا لذلك موجَب العلم والنُّصوص، وحكَّموا عليها الأذواق والأحوال والمواجيد، فعَظُم الأمر وتفاقم الفساد، وطَمَست معالمُ الإيمان والسُّلوك المستقيم، وانعكس السَّير، وكان إلى الله فصيَّروه إلى النُّفوس، فالنَّاس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله، وهؤلاء يعبدون نفوسهم
(6)
.
(1)
في عامَّة النسخ عدا ش، ع:«مستنزل» ، ولعل المثبت منهما هو الصواب.
(2)
أي: تُنْزَل به. وفي الأصل، ل:«تُحك به» . وفي ج، ن:«تحكمه» . ولعل المثبت من م، ش أشبه.
(3)
«فيحكم عليه» ساقط من ع.
(4)
في النسخ عدا ع: «متحاكم» ، ولعل المثبت من ع أشبه.
(5)
م، ن، ع:«محكمًا» .
(6)
بإزاء هذه الفقرة حاشية في ل نصُّها: «
…
فيا غربة الإسلام في عاشر قرن».
والعجب
(1)
أنَّهم دخلوا في أنواع من
(2)
الرِّياضات والمجاهدات والزُّهد ليتجرّدوا عن شهوات النُّفوس وحظوظها، فانتقلوا من شهواتٍ إلى شهواتٍ أكبر منها، ومن حظوظٍ إلى حظوظٍ أعظم منها، وكان حالهم في الشهوات
(3)
التي انتقلوا عنها أكمل، وحالُ أربابها خيرٌ
(4)
مِن حال هؤلاء، لأنَّهم لم يعارضوا بها العلم، ولا قدَّموها على النُّصوص، ولا جعلوها دينًا وقربةً، ولا ازدروا بها العلم وأهله. والشَّهوات التي انتقلوا إليها جعلوها أعلامًا يشمِّرون إليها، فهي قبلة قلوبهم، فهم
(5)
واقفون مع حظوظهم من الله، فانون بها عن مراد الله منهم؛ الناس يعبدون الله وهم يعبدون أنفسهم، عائبون
(6)
لأهل الحظوظ والشهوات ومزدرون بهم، وهم أعظم الناس حظوظًا، وإنّما زهدوا في حظٍّ إلى حظٍّ أعلى منه، وتركوا شهوةً لشهوةٍ
(7)
.
فليتدبَّر اللبيب هذا الموضع في نفسه وفي غيره، فكلُّ ما خالف مراد الله الدينيَّ من العبد فهو حظُّه وشهوته، مالًا كان أو رياسةً أو صورةً، أو ذوقًا أو حالًا أو وجدًا
(8)
.
(1)
ع: «ومن العجب» .
(2)
«من» ساقطة من ع.
(3)
ع: «شهوات نفوسهم» .
(4)
كذا في الأصول بالرفع.
(5)
في ع زيادة: «حولها عاكفون» .
(6)
ل: «عاتبون» .
(7)
ش، ن:«بشهوة» .
(8)
عُلِّق في ل فوق السطر: «أو ناموسًا» .
ثمَّ من قدَّمه على مراد الله فهو أسوأ حالًا ممَّن عرف أنَّه نقصٌ ومحنةٌ وأنَّ مراد الله أولى بالتقديم منه، فهو يتوب منه كلَّ وقتٍ إلى الله.
ثمّ إنَّه وقع من
(1)
تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلَّا الله، فإنَّ الأذواق مختلفةٌ في نفسها
(2)
، كثيرة الألوان، متباينةٌ أعظم التباين، فكلُّ طائفةٍ لهم أذواقٌ وأحوالٌ ومواجيد، بحسب معتقداتهم وسلوكهم. فالقائلون بوحدة الوجود لهم ذوقٌ وحالٌ ووجدٌ في معتقدهم بحسبه، والنصارى لهم ذوقٌ في النصرانيَّة ووجدٌ
(3)
بحسب رياضتهم وعقائدهم. وكلُّ من اعتقد شيئًا وسلك
(4)
سلوكًا ــ حقًّا كان أو باطلًا ــ فإنَّه إذا ارتاض وتجرَّد، ولزمه
(5)
وتمكَّن من قلبه = بقي له فيه حالٌ وذوقٌ ووجدٌ، فبِذَوق مَن تُوزَن الحقائق إذًا ويُفْرَق
(6)
الحقُّ من الباطل؟
وهذا سيِّد أهل الأذواق والمواجيد والكشوف والأحوال من هذه الأُمَّة، المحدَّثُ المكاشَف
(7)
، لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطباته في شيءٍ من
(1)
ل: «في» .
(2)
ع: «أنفسها» .
(3)
«ووجدٌ» ساقط من ع.
(4)
ع: «أو سلك» .
(5)
ع: «لزمه» بدون واو العطف، فيكون حينئذ جواب «إذا» . وعليه فقد زاد الفقي في طبعته واو العطف قبل «بقي» الآتي ليستقيم السياق.
(6)
ع: «ويعرف» .
(7)
يعني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدَّثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب» . أخرجه البخاري (3469) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها.
أمور الدِّين حتَّى يَنشُد عنه الرِّجالَ والنِّساء والأعراب
(1)
، فإذا أخبروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ لم يلتفت إلى ذوقه ولا إلى وجده وخطابه، بل يقول:«لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره»
(2)
، ويقول:«أيُّها الناس، رجلٌ أخطأ وامرأةٌ أصابت»
(3)
.
فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمَّة رضي الله عنه، ليس كفعل من غشَّ نفسه والدِّين والأمَّة.
القاعدة الثانية: أنَّه إذا وقع النِّزاع في حكم فعلٍ من الأفعال، أو حالٍ من الأحوال، أو ذوقٍ من الأذواق: هل هو صحيحٌ أو فاسدٌ، وحقٌّ أو باطل= وجب الرُّجوع فيه إلى الحجَّة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين،
(1)
أي: حتى يسألهم عن ذلك الأمر هل سمعوا فيه شيئًا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث ابن عباس (الآتي تخريجه) أن عمر قام على المنبر فنشدهم قائلًا: «أذكِّر الله امرءًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين» .
(2)
أخرجه عبد الرزاق (18343) ــ ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (4/ 8) والدارقطني (3209) والحاكم (3/ 575) ــ من حديث ابن عباس، وإسناده صحيح. وأخرجه أيضًا الشافعي في «الأم» (7/ 264) بنحوه.
(3)
وذلك عند ما أراد أن يضع حدًّا لأعلى ما تبلغ مهور النساء، فاحتجَّت عليه امرأة بقوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} الآية. أخرجه الزبير بن بكَّار ــ كما في «مسند الفاروق» (2/ 501) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 530)، وفي إسناده انقطاع. وروي بنحوه من طريق آخر عند ابن المنذر في «تفسيره» ــ كما في «تفسير ابن كثير» (النساء:20) ــ ولكنه منقطع أيضًا .. وله طريق ثالث عند أبي يعلى ــ كما في «مسند الفاروق» (2/ 498) و «المطالب العالية» (1566) ــ والبيهقي (7/ 233) على خلاف في وصله وانقطاعه، وفيه أيضًا مُجالد بن سعيد، ضعيف؛ ولفظه:«اللهم غُفرًا، كلُّ الناس أفقهُ من عمر» . وانظر: «العلل» للدارقطني (241) و «إرواء الغليل» (1927).
وهو وحيه الذي تُتلقَّى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه، وتُعرَض عليه وتوزن به، فما زكَّاه منها وقبله ورجَّحه وصحَّحه فهو المقبول، وما أبطله وردَّه فهو الباطل المردود، ومن لم يَبْنِ على هذا الأصل علمَه وسلوكه
(1)
فليس على شيءٍ وإنْ وإنْ
(2)
، وإنَّما معه خَدْع وغرور {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ يَحْسِبُهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ} [النور: 39].
القاعدة الثالثة: إذا أشكل على الناظر أو السالك حكمُ شيءٍ هل هو الإباحة أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملًا على مفسدةٍ راجحةٍ ظاهرةٍ فإنَّه يستحيل على الشارع الأمرُ به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعيٌّ، ولاسيَّما إذا كان طريقًا مفضيًا إلى ما يبغضه
(3)
الله ورسوله، مُوصِلًا إليه عن قربٍ، وهو رقيةٌ له ورائدٌ وبريد، فهذا لا يشكُّ في تحريمه أولو البصائر، فكيف يُظنُّ بالحكيم الخبير أن يحرِّم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنَّه يسوق
(4)
النّفس إلى المسكر
(5)
الذي يسوقها إلى المحرَّمات، ثمَّ يبيح ما هو أعظم سوقًا للنُّفوس إلى المحرَّم بكثيرٍ؟! فإنَّ الغناء كما قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه هو رقية الزِّنا
(6)
، وقد شاهد الناس أنَّه ما
(1)
في ع زيادة: «وعمله» .
(2)
تكرَّر في ع ثلاث مرَّات، مع علامة التصحيح على الأخيرين.
(3)
ع: «يُغضب» .
(4)
في الأصل، م:«يشوِّق» ، والسياق يدل على أنه تصحيف.
(5)
م، ش، ع:«السكر» .
(6)
لم أجده عن ابن مسعود. وإنما روي من قول الفُضيل بن عياض رحمه الله كما في «ذم الملاهي» لابن أبي الدنيا (54) ومن طريقه عند البيهقي في «شعب الإيمان» (4755). وإلاه نسبه المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 433 - 434) ثم نقله عن «ذم الملاهي» بإسناده.
عاناه صبيٌّ إلَّا وفسد، ولا امرأةٌ إلَّا وبغت، ولا شابٌّ إلَّا وإلَّا، ولا شيخٌ إلَّا وإلَّا، والعِيان من ذلك يغني عن البرهان، ولاسيَّما إذا جمع هيئةً تحدو النُّفوس أعظمَ حدوٍ إلى المعصية والفجور، بأن يكون على الوجه الذي ينبغي من المكان والإمكان، والعُشراء والإخوان، وآلات المعازف من اليَراع والدُّفِّ والأوتار والعيدان، وكان القوَّالُ
(1)
شاديًا شجيَّ الصوت لطيفَ الشمائل من المردان أو النِّسوان، وكان القول في العشق والوصال والصّدِّ والهجران.
ودارت كؤوس الهوى بينهم
…
فلست ترى فيهم صاحيا
فكلٌّ على قدر مشروبه
…
وكلٌّ أجاب الهوى الدَّاعيا
فمالوا سُكارى ولا سُكر مِن
…
تناول أمِّ الهوى خاليا
وجارٍ على القوم ساقيهمُ
…
ولم يؤثروا غيره ساقيا
فمزَّق منهم قلوبًا غَدَتْ
…
لباسًا عليه يرى ضافيا
فلم يستفيقوا إلى أن أتى
…
إليهم منادي اللِّقا داعيا
أجيبوا فكلُّ امرئٍ منكمُ
…
على حاله ربَّه لاقيا
هنالك تعلم مِن حمأةٍ
…
شربتَ مع القوم أم صافيا
وتاللهِ لا بدَّ قبل اللِّقا
…
ءِ تعلم ذا إن تكن واعيا
فلا بدَّ تصحو فإمَّا هنا
…
وإمَّا هناك فكن راضيا
(2)
(1)
القوَّال هو المُسْمِع المُنشد في السماع الصوفي.
(2)
الظاهر أن الأبيات من نظم المؤلف.
فصل
وإذا لم يكن بدٌّ من المحاكمة إلى الذوق فهلُمَّ نحاكمك إلى ذوقٍ لا ننكره نحن ولا أنت، غير هذه الأذواق التي ذكرناها.
فالقلب تعرض له حالتان: حالة حزنٍ وأسفٍ على مفقودٍ، وحالةُ فرحٍ وطَرَبٍ بموجودٍ، وله بمقتضى هاتين الحالتين عبوديَّتان. فله بمقتضى الحالة الأولى: عبوديَّة الرِّضاء وهي للسابقين، والصَّبر وهي لأصحاب اليمين. وله بمقتضى الحالة الثانية عبودية الشُّكر، والشاكرون فيها أيضًا نوعان: سابقون، وأصحاب يمينٍ. فاقتطعَتْه النفس والشيطان عن هاتين العبوديَّتين بصوتين أحمقين فاجرين، هما للشيطان لا للرحمن: صوت النَّدب والنِّياحة عند الحزن وفوات المحبوب، وصوت اللهو والمزمار والغناء عند الفرح وحصول المطلوب، فعوَّضه الشيطان بهذين الصَّوتين عن تلك العبوديَّتين.
وقد أشار النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنسٍ رضي الله عنه: «إنَّما نُهِيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت ويلٍ عند مصيبةٍ، وصوت مزمارٍ عند نعمة»
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذي (1005) وابن أبي شيبة (12251) والبزار (1001) والحاكم (4/ 40) والبيهقي (4/ 69) من حديث ابن أبي ليلي عن عطاء عن جابر، وفي رواية الحاكم: عن جابر عن عبد الرحمن بن عوف. إسناده ضعيف من أجل ابن أبي ليلى، ثم إنه قد اضطَرب فيه كما في «العلل» للدارقطني (2887)، إلا أن الترمذي حسَّنه، ولعله لاعتضاده بحديث أنس مرفوعًا:«صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنَّة عند مصيبة» . أخرجه البزار (7513) والضياء في «المختارة» (6/ 188، 189) وغيرهما بإسناد فيه لين. وانظر: «الصحيحة» (427).
ووافق ذلك راحةً من النَّفس وشهوةً ولذَّة، وسرت فيها تلك الرقائق حتَّى تعبَّد بها مَن قلَّ نصيبه من النور النبوي وقلَّ شربه من العين المحمَّدية، وانضاف ذلك إلى صدقٍ وطلبٍ وإرادةِ مضادَّةٍ لأهل شهوات الغيِّ وأهل البطالة، ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم وكثافةَ حُجُبهم وغلظةَ طباعهم وثقلَ أرواحهم، وصادف ذلك تحريكًا لسواكنهم وإيقادًا
(1)
للواعج الحبِّ وإزعاجًا للنُّفوس إلى أوطانها الأولى ومعاهدها التي سُبيت منها، والنُّفوس الطالبة المرتاضة السائرة لا بدَّ لها من محرِّكٍ يحرِّكها وحادٍ يحدوها، وليس لها من حادي القرآن عوضٌ عن حادي السّماع= فتركَّب من هذه الأمور إيثارٌ منهم للسَّماع ومحبَّة صادقة له، تزول الجبال عن أماكنها ولا تفارق قلوبهم، إذ هو مثيرُ عزماتِهم ومحرِّكُ سواكنهم ومزعجُ بواطنهم.
فدواءُ مثل صاحب هذه الحال أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيِّبة، مع الإمعان في تفهُّم معانيه وتدبُّر خطابه، قليلًا قليلًا إلى أن يخلع قلبُه
(2)
محبةَ سماع الأبيات، ويلبس محبَّةَ سماع الآيات، ويصير ذوقُه وشربه وحاله ووجده فيه، فحينئذٍ يعلم هو مِن نفسه أنَّه لم يكن على شيءٍ، ويتمثَّل حينئذٍ بقول القائل
(3)
:
وكنت أرى أن قد تناهى بيَ الهوى
…
إلى غايةٍ ما فوقها لي مطلبُ
فلمَّا تلاقينا وعاينتُ حسنها
…
تيقَّنت أنِّي إنّما كنت ألعبُ
(1)
ع: «وانقيادًا» ، تصحيف.
(2)
ع: «مِن قلبه» .
(3)
نسبه ابن داود الظاهريِّ في «الزهرة» (ص 274) إلى بعض أهل عصره، وصدر البيت الثاني فيه:«فلمَّا تفرَّقنا تذكَّرتُ ما مضى» .
ومنافاة النَّوح للصبر، والغناء والمعازف للشُّكر= أمرٌ معلومٌ بالضرورة من الدِّين
(1)
، لا يمتري فيه إلَّا أبعد النّاس من العلم والإيمان، فإنَّ الشُّكر هو الاشتغال بطاعة الله لا بالصَّوت الأحمق الفاجر الذي هو للشيطان، وكذلك النَّوح ضدُّ الصبر، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النائحة وقد ضَرَبها حتَّى بدا شعرُها وقال:«لا حرمة لها؛ إنَّها تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه، وتنهى عن الصَّبر وقد أمر الله به، وتفتن الحيَّ وتؤذي الميِّت، وتبيع عَبرتها وتبكي بشَجْوِ غيرها»
(2)
.
ومعلومٌ عند الخاصَّة والعامَّة أنّ فتنة سماع الغناء والمعازف أعظم من فتنة النوح بكثيرٍ، والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنَّه ما ظهرت المعازفُ وآلات اللهو في قومٍ وفَشَت فيهم واشتغلوا بها إلَّا سُلِّط عليهم العدوُّ، وبُلُوا بالقحط والجدب وولاة السُّوء، والعاقل يتأمَّل أحوال العالَم وينظر، والله المستعان.
ولا تستطِل كلامَنا في هذه المنزلة، فإنَّ لها عند القوم شأنًا عظيمًا.
وأمَّا قولهم: من أنكر على أهله فقد أنكر على كذا وكذا وليٍّ
(3)
لله، فحجَّة عامِّيَّة. نعم، أنكر
(4)
أولياء الله على أولياء الله؛ كان ماذا؟! فقد أنكر
(1)
م، ش:«الذي» ، وله وجه.
(2)
أخرجه عمر بن شبَّة في «تاريخ المدينة» (3/ 15) عن الأوزاعي قال: بلغني أن عمر
…
إلخ بنحوه. وأخرج عبد الرزاق (6681، 6682) صدره إلى قوله: «لا حرمة لها» بإسنادين مرسلين عن عمر.
(3)
كذا في النسخ، والجادة النصب. وقد سبق مثله (ص 146).
(4)
ع: «إذا أنكر» .
عليهم مِن أولياء الله من هو أكثر منهم عددًا، وأعظم عند الله وعند المؤمنين منهم قدرًا، وأقرب بالقرون المفضَّلة عهدًا، وليس من شرط وليِّ الله العصمة. وقد تقاتل أولياء الله في صفِّين بالسُّيوف، ولمَّا سار بعضهم إلى بعضٍ كان يقال: سار أهل الجنَّة إلى أهل الجنَّة
(1)
.
وكون وليِّ الله يرتكب المحظور والمكروه متأوِّلًا أو عاصيًا لا يمنع ذلك الإنكارَ عليه، ولا يُخرجه عن أصل ولاية الله تعالى، وهيهات هيهات أن يكون أحدٌ من أولياء الله المتقدِّمين حضر هذا السماع المُحدَث المشتملَ على هذه الهيئة التي تفتن القلوب أعظمَ من فتنة المشروب، حاشا أولياء الله من ذلك!
وإنَّما السماع الذي اختلف فيه مشايخُ القوم: اجتماعهم في مكانٍ خالٍ من الأغيار يذكرون الله ويتلون شيئًا من القرآن، ثمَّ يقوم بينهم قوَّالٌ ينشدهم شيئًا من الأشعار المزهِّدة في الدُّنيا، المرغِّبة في لقاء الله تعالى ومحبَّته وخوفه ورجائه والدار الآخرة، وينبِّههم
(2)
على بعض أحوالهم من غدرةٍ أو غفلة، أو بُعدٍ أو انقطاع، أو تأسُّفٍ على فائت، أو تداركٍ لفارط، أو وفاءٍ بعهد، أو تصديقٍ بوعد، أو ذكر قلقٍ وشوقٍ، أو خوفِ فُرقةٍ أو صدٍّ، أو ما جرى هذا المجرى.
فهذا السّماع الذي اختلف فيه القوم، لا سماع المُكاء والتَّصدية والمعازف، والخُماريَّات
(3)
وعشق الصُّور من المردان والنِّسوان، وذكر
(1)
لم أقف عليه.
(2)
ش: «ينبئهم» ، تصحيف.
(3)
أي: الأشعار التي قيلت في وصف «الخُمار» ، وهو السُّكْر والنَّشوة. وتسمَّى «الخمريات» أيضًا.