المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدرجة السابعة: التفويض - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المشهد الثَّاني: مشهد رسوم الطَّبيعة ولوازم الخلقة

- ‌المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

- ‌المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة

- ‌المشهد السادس: مشهد التوحيد

- ‌المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

- ‌المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصِّفات

- ‌المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدُّد(2)شواهده

- ‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

- ‌ منزل الإنابة

- ‌ منزل التّذكُّر

- ‌(أبنية التذكُّر

- ‌المفسد الخامس: كثرة النوم

- ‌ منزل الاعتصام

- ‌الاعتصامُ(2)بحبل الله

- ‌ اعتصام العامَّة

- ‌اعتصام الخاصَّة

- ‌اعتصام خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الفرار

- ‌(فرار العامَّة

- ‌فرار الخاصَّة

- ‌فرار خاصَّة الخاصَّة

- ‌ رياضة العامة

- ‌«منزلة الرياضة»

- ‌رياضة الخاصَّة:

- ‌رياضة خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة السَّماع

- ‌ سماع العامّة

- ‌سماع الخاصَّة

- ‌سماع خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الحزن

- ‌ حزن العامَّة

- ‌ حزن أهل الإرادة

- ‌ التحزُّن للمعارضات

- ‌ منزلة الخوف

- ‌ الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة

- ‌(الدرجة الثانية: خوف المكر

- ‌ منزلة الإشفاق

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌ الدرجة الثالثة

- ‌ منزلة الخشوع

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الإخبات

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الزُّهد

- ‌من أحسن ما قيل في الزُّهد

- ‌ الدرجة الأولى: الزُّهد في الشُّبهة بعد ترك الحرام

- ‌(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول

- ‌(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد

- ‌ منزلة الورع

- ‌ الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح

- ‌(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به

- ‌فصلالخوف يثمر الورع

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرجاء

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرغبة

- ‌ الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر

- ‌(الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال

- ‌(الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشُّهود

- ‌ منزلة الرِّعاية

- ‌ منزلة المراقبة

- ‌ الدرجة الأولى: مراقبة الحقِّ تعالى في السَّير إليه

- ‌الدرجة الثانية: مراقبة نظر الحقِّ إليك برفض المعارضة

- ‌الاعتراض ثلاثة أنواعٍ سارية في الناس

- ‌النوع الأوَّل: الاعتراض على أسمائه وصفاته

- ‌النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره

- ‌(الدرجة الثالثة: مراقبةُ الأزل بمطالعة عين السبق

- ‌ منزلة تعظيم حرمات الله

- ‌(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره

- ‌(الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة

- ‌ منزلة الإخلاص

- ‌ الدّرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة التهذيب والتصفية

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الاستقامة

- ‌ الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد

- ‌(الدرجة الثانية: استقامة الأحوال

- ‌(الدرجة الثالثة: استقامةٌ بترك رؤية الاستقامة

- ‌ منزلة التوكُّل

- ‌الدرجة الثانية: إثبات الأسباب والمسبَّبات

- ‌الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد

- ‌الدرجة الخامسة: حسن الظنِّ بالله

- ‌الدرجة السّادسة: استسلام القلب له

- ‌الدرجة السابعة: التفويض

- ‌ الدرجة الأولى: التوكُّل مع الطلب ومعاطاة السبب

- ‌(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب

- ‌ منزلة التفويض

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الثِّقة بالله

- ‌ الدرجة الأولى: درجة الإياس

- ‌(الدرجة الثانية: درجة الأمن

- ‌(الدرجة الثالثة: معاينة أزليَّة الحقِّ

- ‌ منزلة التسليم

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الصبر

- ‌(الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة

- ‌(الدرجة الثالثة: الصبرُ في البلاء

- ‌ منزلة الرِّضا

- ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

- ‌ منزلة الشُّكر

- ‌ الدرجة الأولى: الشُّكر على المحابِّ

- ‌(الدرجة الثانية: الشُّكر في المكاره

- ‌(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم

- ‌ منزلة الحياء

- ‌ منزلة الصِّدق

- ‌من علامات الصِّدق: طمأنينة القلب إليه

- ‌فصلفي كلماتٍ في حقيقة الصِّدق

- ‌ الدرجة الأولى: صدق القصد

- ‌(الدرجة الثانية: أن لا يتمنَّى الحياة إلا للحقِّ

- ‌(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق

الفصل: ‌الدرجة السابعة: التفويض

الربِّ لك. وهذا في غير باب الأمر والنهي، بل فيما يفعله بك، لا فيما أمرك بفعله.

فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيِّده، وانقياده له، وترك منازعات نفسه وإراداتها

(1)

مع سيِّده.

فصل

‌الدرجة السابعة: التفويض

. وهو روح التوكُّل ولبُّه وحقيقته. وهو إلقاء أموره كلِّها إلى الله، وإنزالُها به طلبًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب أمورَه إلى أبيه، العالمِ

(2)

بشفقته عليه ورحمته، وتمام كفايته، وحسن ولايته له وتدبيره له؛ فهو يرى أنَّ تدبيره له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وقيامَه بمصالحه وتولِّيَه لها خيرٌ من قيامه هو بمصالح نفسه وتولِّيه لها

(3)

، فلا يجد له أصلح ولا أوفق

(4)

من تفويضه أمورَه كلَّها إلى أبيه، وراحتِه من حمل كَلِّها وثقل حملها، مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها، وعلمِه بكمالِ مَن فَوَّض إليه وقدرته وشفقته.

فصل

فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة، انتقل منها إلى درجة الرِّضا. وهي ثمرة

(1)

ش، ج:«إرادتها» ، مفرد.

(2)

نعت للابن.

(3)

«خير من

لها» ساقط من ع لانتقال النظر.

(4)

ع: «أرفق» .

ص: 397

التوكُّل. ومن فسَّر التّوكُّل بها فإنّما فسَّره بأجلِّ ثمراته وأعظم فوائده، فإنَّه إذا توكَّل حقَّ التوكُّل رضي بما يفعله وكيله.

وكان شيخنا رضي الله عنه يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكُّل قبله، والرِّضا بعده، فمن توكَّل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضيِّ له بعد الفعل فقد قام بالعبودية. أو معنى هذا

(1)

.

قلت: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: «اللهمَّ إنِّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك» ، فهذا توكُّل وتفويض. ثمَّ قال:«فإنَّك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علَّام الغيوب» ، فهذا تبرُّؤٌ إليه من العلم والحول والقوَّة، وتوسُّلٌ إليه سبحانه بصفاته التي هي أحبُّ ما توسَّل إليه بها المتوسِّلون. ثمَّ سأل ربَّه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلًا وآجلًا، وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرَّته عاجلًا وآجلًا. فهذا هو حاجته التي سألها، فلم يبق عليه إلّا الرِّضا بما يقضيه له فقال:«واقدر لي الخير حيث كان ثمَّ رضِّني به» .

فقد اشتمل هذا الدُّعاء على هذه المعارف الإلهيَّة والحقائق الإيمانيَّة التي من جملتها التوكُّل والتفويض قبل وقوع المقدور، والرِّضا بعده، وهو ثمرة التوكُّلِ والتفويضِ وعلامةُ صحَّته، فإن لم يرض بما قضى له فتفويضه معلول فاسد.

فباستكمال هذه الدرجات الثمان يستكمل العبد مقامَ التوكُّل، وتثبت قدمُه فيه. وهذا معنى قول بشرٍ الحافي: يقول أحدهم: توكَّلتُ على الله؛

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 76، 10/ 37).

ص: 398

يكذب على الله، لو توكَّل على الله لرضي بما يفعل الله

(1)

. وقولِ يحيى بن معاذٍ رضي الله عنه وقد سئل: متى يكون الرجل متوكِّلًا؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلًا

(2)

.

فصل

وكثيرًا ما يشتبه في هذا البابِ المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص، فيشتبه

(3)

التفويض بالإضاعة، فيضيِّع العبد حظَّه ظنًّا أنَّ ذلك منه تفويض وتوكُّل، وإنَّما هو تضييعٌ لا تفويض، فالتضييع في حقِّ الله، والتفويض في حقِّك.

ومنه: اشتباه التوكُّل بالراحة وإلقاء حَمْل الكَلِّ، فيظنُّ صاحبه أنَّه متوكِّل، وإنَّما هو عاملٌ على قدم الراحة. وعلامة ذلك أنَّ المتوكِّل مجتهد في الأسباب المأمور بها غايةَ الاجتهاد، مستريحٌ من غيرها لتعبه بها، والعامل على الراحة آخذٌ من الأمر مقدار ما تندفع به الضرورة وتسقط به عنه مطالبة الشرع؛ فهذا لون، وهذا لون.

ومنه: اشتباه خلع الأسباب بتعطيلها. فخلعها توحيد، وتعطيلها إلحاد وزندقة، فخلعها عدمُ اعتماد القلب عليها ووثوقِه

(4)

بها وركونِه إليها مع قيامه بها، وتعطيلُها إلغاؤها من الجوارح.

(1)

زاد في ع: «به» ، وهو في «القشيرية» كذلك.

(2)

قد سبق القولان، وهما في «القشيرية» (ص 410).

(3)

ش: «ويشتبه» . وكذا كان في الأصل ثم أُصلح.

(4)

ش: «وتوثُّقه» .

ص: 399

ومنه: اشتباه الثِّقة بالله بالغرَّة والعجز. والفرق بينهما: أنَّ الواثق بالله قد فعل ما أُمر به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها

(1)

، كغارس الشجر وباذر الأرض؛ والمغترُّ العاجز قد فرَّط فيما أُمر به، وزعم أنَّه واثقٌ بالله. والثِّقة إنما تصحُّ مع بذل المجهود.

ومنه: اشتباه الطُّمأنينة إلى الله والسُّكون إليه بالطُّمأنينة إلى المعلوم وسكون القلب إليه. ولا يميِّز بينهما إلَّا صاحب البصيرة، كما يُذكر عن أبي سليمان الداراني رضي الله عنه أنه رأى رجلًا بمكَّة ــ أعزَّها الله

(2)

ــ لا يتناول شيئًا إلا شربةً من ماء زمزم، فمضى عليه أيام، فقال له أبو سليمان يومًا: أرأيت لو غارت زمزم، أيشٍ كنت تشرب؟ فقام وقبَّل رأسه وقال: جزاك الله خيرًا حيث أرشدتَني، فإنِّي كنت أعبد زمزم منذ أيام

(3)

، ومضى

(4)

.

وأكثر المتوكِّلين سكونهم وطمأنينتهم إلى المعلوم، وهم يظنُّون أنه إلى الله، وعلامة ذلك أنّه متى انقطع معلومُ أحدهم حضره همُّه وبثُّه وخوفه. فعُلِم أنَّ طمأنينته وسكونه لم يكن إلى الله.

ومنه: اشتباه الرِّضا عن الله بكلِّ ما يفعل بعبده ممَّا يحبُّه ويكرهه بالعزم على ذلك وحديث النفس به، وذلك شيءٌ والحقيقة شيءٌ آخر. كما يحكى عن أبي سليمان رضي الله عنه أنَّه قال: أرجو أن أكون قد أُعطيت طرفًا من الرِّضا، لو أدخلني النَّار كنت بذلك راضيًا! فسمعت شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله

(1)

في النسخ عدا ع: «وتنميته وتزكيته» .

(2)

ج، ن:«شرَّفها الله» . ولم ترد الجملة المعترضة في ل، ش، ع.

(3)

في ع زيادة: «ثم تركه» ، وليست في مصدر النقل.

(4)

«القشيرية» (ص 416).

ص: 400

يقول: هذا عزمٌ منه على الرِّضا وحديثُ نفسٍ به، ولو أدخله النار لم يكن من ذلك شيء، وفرقٌ بين العزم على الشيء وبين حقيقته

(1)

.

ومنه: اشتباه علم التوكُّل بحال التوكُّل

(2)

، فكثيرٌ من الناس يعرف التوكُّل وحقيقته وتفاصيله، فيظنُّ أنَّه بذلك متوكِّلٌ، وليس من أهل التوكُّل، فحال التوكُّل أمرٌ

(3)

وراء العلم به. وهذا كمعرفة المحبَّة والعلم بها وأسبابها ودواعيها وحال المحبِّ العاشق

(4)

، ومعرفةِ

(5)

علم الخوف وحال الخوف

(6)

. وهو شبيهٌ بمعرفة المريض ماهيَّة الصحَّة وحقيقتها وحالُه بخلافها.

فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوي فيه بالحقائق، والعوارض بالمطالب، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.

فصل

والتوكُّل من أعمِّ المقامات تعلُّقًا بالأسماء الحسنى، فإنَّ له تعلُّقًا خاصًّا بعامَّة أسماء الأفعال وأسماء الصِّفات. فله تعلُّقٌ باسم الغفَّار، والتوَّاب،

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 37، 689) و «الاستقامة» (2/ 86 - 87).

(2)

ش: «المتوكلين» .

(3)

في ع زيادة: «آخر» .

(4)

ع: «وحالُ المحب العاشق وراء ذلك» .

(5)

ع: «وكمعرفة» .

(6)

ع: «وحالُ الخائف وراء ذلك» .

ص: 401

والعفوِّ

(1)

، والرحيم. وتعلُّقًا

(2)

باسم الفتَّاح، والوهَّاب، والرزَّاق، والمعطي، والمحسن. وتعلُّقًا باسم المعزِّ المذلِّ، الخافض

(3)

الرَّافع، المانع، من جهة توكُّله عليه في إذلال أعداء دينه وخفضِهم ومنعِهم أسباب النصر. وتعلُّقًا بأسماء القدرة والإرادة. وله تعلُّق عامٌّ بجميع الأسماء الحسنى، ولهذا فسَّره من فسَّره من الأئمة بأنَّه المعرفة بالله. وإنَّما أراد أنَّه بحسب معرفة العبد يصحُّ له مقام التوكُّل، فكلَّما كان بالله أعرف كان توكُّله عليه أقوى.

فصل

وكثيرٌ من المتوكِّلين يكون مغبونًا في توكُّله، وقد توكَّل حقيقةَ التوكُّل وهو مغبونٌ، كمن صرف توكُّله إلى حاجةٍ جزويَّةٍ

(4)

استفرغ فيها قوَّة توكُّله، ويمكنه نيلها

(5)

بأيسر شيءٍ، وتفريغُ قلبه للتوكُّل في زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدِّين والتأثير في العالم خيرًا؛ فهذا توكُّل العاجز القاصر الهمَّة. كما يصرف بعضهم همَّته وتوكُّله ودعاءه إلى وجعٍ يمكن مداواته بأدنى شيءٍ، أو

(1)

ش، ج، ن:«الغفور» . وكذا كان في الأصل ول، ثم محيت الراء في الأصل وضُرب عليها في ل، وضرب على نقطة الغين فيهما لتصير فتحةً، مع كتابة «ع» صغيرة تحتها في الأصل للدلالة على الإهمال.

(2)

كذا هنا وفي الموضعين الآتيين، على توهُّم عطفه على «فإن له تعلقًا» .

(3)

سقط من ع، ورُسم في ل، ج، ن بالظاء المشالة، فأثبت محقق طبعة الصميعي:«الحافظ» مع أنه مقرون بـ «الرافع» ، وسيأتي قوله:«إذلال أعداء دينه وخفضِهم» .

(4)

ج، ن:«جزئية» ، وهما لغتان.

(5)

ش، ج، ن:«فعلها» ، تصحيف.

ص: 402

جوعٍ يمكن زواله بنصف درهمٍ

(1)

، ويدع صرفه إلى نصرة الدِّين وقمع المبتدعين

(2)

ومصالح المسلمين.

فصل

قال صاحب «المنازل» رحمه الله

(3)

: (التوكُّل كِلَة الأمر إلى مالكه، والتعويل على وكالته. وهو من أصعب منازل العامَّة عليهم، وأوهى السُّبل عند الخاصَّة، لأنَّ الحقَّ قد وكل الأمور كلَّها إلى نفسه، وأَيأَس العالَم مِن ملك شيءٍ منها).

قوله: (كلة الأمر إلى مالكه)، أي تسليمه إلى من هو بيده.

(والتعويل على وكالته)، أي الاعتماد على قيامه بالأمر، والاستغناء بفعله عن فعلك، وإرادته عن إرادتك. والوكالة يراد بها أمران، أحدهما: التوكيل

(4)

، وهو الاستنابة والتفويض. والثاني: التوكُّل، وهو التصرُّف بطريق النِّيابة عن الموكِّل، وهذا من الجانبين، فإنَّ الله عز وجل يوكِّل العبد ويقيمه في حفظ

(5)

ما وكَّله فيه، والعبد يوكِّل الربَّ ويعتمد عليه.

فأمَّا وكالة الربِّ عبدَه، ففي قوله:{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]، قال قتادة: وكَّلنا بها الأنبياء الثمانية عشر

(1)

ع: «بنصف رغيفٍ أو نصف درهم» .

(2)

في ع زيادة: «وزيادة الإيمان» .

(3)

(ص 33).

(4)

الأصل، ل، ن، ع:«التوكل» ، تصحيف.

(5)

في النسخ عدا ع: «حفظه» ، إلا أن هاء الضمير مُحيت من ل، وهو الصواب.

ص: 403

الذين ذكرناهم ــ يعني قبل هذه الآية. وقال أبو رجاءٍ العُطارديُّ: معناه: إن يكفر بها أهل الأرض، فقد وكَّلنا بها أهل السماء وهم الملائكة. وقال ابن عباسٍ ومجاهدٌ: هم الأنصار وأهل المدينة

(1)

. والصواب: أنَّ المراد من قام بها إيمانًا ودعوةً وجهادًا ونصرةً، فهؤلاء هم الذين وكّلهم الله بها.

فإن قلت: فهل يصحُّ أن يقال: إنَّ أحدًا وكيل الله؟

قلت: لا، فإنَّ الوكيل من يتصرَّف عن

(2)

موكِّله بطريق النِّيابة، واللهُ عز وجل لا نائب له، ولا يخلفه أحدٌ، بل هو الذي يخلف عبده كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللهمَّ أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل»

(3)

. على أنّه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنّه مأمورٌ بحفظ ما وُكِّل فيه ورعايته والقيام به

(4)

.

وأمَّا توكيل العبد ربَّه فهو تفويضه إليه وعزلُ نفسه عن التصرُّف، وإثباته لأهله ووليِّه. ولهذا قيل في التوكُّل: إنَّه عزلُ النفس عن الرُّبوبيَّة وقيامُها بالعبوديَّة

(5)

. وهذا معنى كون الربِّ وكيلَ عبده، أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه، لا أنه نائبه في التصرُّف.

فوكالة الربِّ عبده أمرٌ وتعبُّد وإحسانٌ إليه، وخلعةٌ منه عليه، لا عن ح

(1)

أقوالهم عدا قول مجاهد أخرجها الطبري في «تفسيره» (9/ 389، 390). والمؤلف صادر عن «معالم التنزيل» (3/ 166).

(2)

الأصل: «من» .

(3)

أخرجه مسلم (1342) من حديث ابن عمر.

(4)

وانظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 460).

(5)

هو قول ذي النون، وقد سبق عزوه.

ص: 404

اجةٍ منه وافتقارٍ إليه، كموالاته له. وأمَّا توكيل العبد ربّه فتسليمٌ لربوبيَّته وقيامٌ بعبوديَّته.

وقوله: (وهو من أصعب منازل العامَّة عليهم)، لأنَّ العامَّة لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم، ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصَّة، وهي التي تشهد

(1)

التوكل

(2)

، فهم في رقِّ الأسباب، فيصعب عليهم الخروجُ عنها، وخلوُّ القلب منها، والاشتغالُ بملاحظة المسبِّب وحده.

وأمّا كونه (أوهى السُّبل عند الخاصَّة)، فليس على إطلاقه، بل هو من أجلِّ السُّبل عندهم وأفضلها وأعظمها قدرًا. وقد تقدَّم في صدر الباب أمرُ الله رسولَه بذلك، وحضُّه عليه هو والمؤمنين. ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم: المتوكِّل

(3)

، وتوكُّله أعظم توكُّلٍ.

وقد قال الله

(4)

: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، وفي ذكر أمره بالتوكُّل

(5)

مع إخباره بأنَّه على الحقِّ دلالةٌ على أن الدِّين مجموعُه

(6)

في هذين الأمرين: أن يكون العبد على الحقِّ في قوله وعمله

(1)

كذا في النسخ، وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «تثمر» ، على غرار ما سبق (ص 247) من قوله:«والإيمان بالقدر يثمر التوكل» .

(2)

ع: «التوكيل» .

(3)

هكذا سمِّي في التوراة على ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص في حديثٍ له عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم فيها. أخرجه البخاري (2125).

(4)

في ع زيادة: «له» .

(5)

«وقد قال الله

» إلى هنا ساقط من طبعة الصميعي.

(6)

ع: «بمجموعه» .

ص: 405

واعتقاده ونيَّته، وأن يكون متوكِّلًا على الله واثقًا به؛ فالدِّين كلُّه في هذين المقامين.

وقال رسل الله وأنبياؤه: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12]، فالعبد آفته إمَّا من عدم الهداية، وإمّا من عدم التّوكُّل، فإذا جمع التوكُّل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كلَّه.

نعم، التوكُّل على الله في معلوم الرِّزق المضمون، والاشتغالُ به عن التّوكُّل في نصرة الحقِّ والدِّين= من أوهى منازل الخاصَّة. أمَّا التوكُّل عليه في حصول ما يحبُّه ويرضاه فيه وفي الخلق، فهذا توكُّل الرُّسل والأنبياء، فكيف يكون من أوهى منازل الخاصَّة؟!

قوله: (لأنَّ الحقَّ قد وكل الأمور إلى نفسه، وأيأس العالم من ملك شيءٍ منها).

جوابه

(1)

: أنَّ الذي تولَّى ذلك أسند

(2)

إلى عباده كسبًا وفعلًا وإقدارًا واختيارًا وأمرًا ونهيًا ما استعبدهم به، وامتحن به من يطيعه ممَّن يعصيه، ومن يُؤْثره ممَّن يؤثر عليه. وأمرهم بتوكُّلهم عليه فيما أسنده إليهم وأمرهم به وتعبَّدهم به. وأخبر أنَّه يحبُّ المتوكِّلين عليه، كما يحبُّ الشاكرين، وكما يحبُّ المحسنين، وكما يحبُّ الصّابرين

(3)

. وأخبر أنَّ كفايته لهم مقرونةٌ بتوكُّلهم عليه، وأنَّه كافي مَن توكَّل عليه وحَسْبُه.

(1)

أي الجواب عن كون ذلك دليلًا على ما ادعاه مِن وَهْيِ منزلة التوكل عند الخاصة.

(2)

ش: «أن الله تولى ذلك وأسند» .

(3)

زاد في ع: «وكما يحب التوابين» .

ص: 406

وجعل لكلِّ عملٍ من أعمال البرِّ ومقامٍ من مقاماته جزاءً معلومًا، وجعل نفسَه جزاء المتوكِّل عليه وكفايتَه، فقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: 5]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]، ثمَّ قال في التوكُّل

(1)

: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكِّل

(2)

، ولم يجعله لغيره. وهذا يدلُّ على أنَّ التوكُّل أقوى السُّبل عنده وأحبُّها إليه.

وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه بمنافٍ لتوكُّل العبد عليه. بل هذا تحقيق كون الأمور كلِّها موكولةً إلى نفسه، لأنَّ العبد إذا علم ذلك وتحقَّقه معرفةً صارت حالُه التوكُّلَ قطعًا على من هذا شأنه، لعلمه بأنَّ الأمور كلَّها موكولة إليه وأنَّ العبد لا يملك شيئًا منها البتة. فهو لا يجد بدًّا من اعتماده عليه، وتفويضه إليه، واستناده إليه، وثقته به؛ من الوجهين: من جهة فقره وعدم ملكه شيئًا البتَّة، ومن جهة كون الأمر كلِّه بيده وإليه، والتوكُّل ينشأ من هذين العِلمين.

فإن قيل: فإذا كان الأمر كلُّه لله، وليس للعبد من الأمر شيء، فكيف يوكِّل المالكَ على ملكه؟ وكيف يستنيبه فيما هو ملكٌ له دون هذا الموكِّل؟ فالخاصَّة لمَّا تحقَّقوا هذا نزلوا عن مقام التوكُّل وسلَّموه إلى العامَّة، وبقي الخطاب بالتوكُّل لهم دون الخاصَّة.

(1)

ش: «المتوكل» ، وفي الأصل محتمل.

(2)

ش: «للمتوكلين» .

ص: 407

قيل: لمَّا كان الأمر كلُّه لله عز وجل، وليس للعبد فيه شيءٌ البتَّة= كان توكُّله على الله تسليمَ الأمر إلى من هو له، وعزلَ نفسه عن منازعات مالكه، واعتمادَه عليه فيه، وخروجَه عن تصرُّفه بنفسه وحوله وقوَّته وكونه به إلى تصرُّفه بربِّه وكونه به سبحانه دون نفسه. وهذا مقصود التوكُّل.

وأمَّا عزل العبد نفسه عن مقام التوكُّل، فهو عزلٌ لها عن حقيقة العبودية.

وأمّا توجُّه الخطاب به إلى العامَّة، فيا سبحان الله! هل خاطب الله بالتوكُّل في كتابه إلا خواصَّ خلقه، وأقربهم إليه، وأكرمهم عليه؟ وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكِّلين، والمعلَّق على الشرط عدمٌ عند عدمه، وهذا يدلُّ على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكُّل، فمن لا توكُّل له لا إيمان له، قال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].

وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. وهذا يدلُّ على انحصار المؤمنين فيمن كان بهذه الصِّفة.

وأخبر عن رسله بأنَّ التوكُّل ملجؤهم ومعاذهم. وأمر به رسوله في أربع

(1)

مواضع من كتابه

(2)

. فكيف يكون من أوهى السُّبل وهذا شأنه؟

(1)

كذا في النسخ، على تقدير: أربع آيات.

(2)

يشير المؤلف إلى الآيات الأربع التي ذكرها في مطلع باب التوكل (ص 381)، وهي: آل عمران: 159، النساء: 81، الفرقان: 58، النمل:79. وهناك آيات أخرى أمر الله فيها رسوله بالتوكل، كقوله تعالى في خاتمة هود: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، وقوله في مطلع الأحزاب: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}، وغيرهما.

ص: 408