الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إشارة الخلق إليه، الموجبةِ لحسن ظنِّه بنفسه الموجبِ لدعواه، فالسبب سترٌ لحاله ومقامه وحجابٌ مسبلٌ عليه.
ومن وجهٍ آخر، وهو أنه يشهد به فقرَه وذلَّه وامتهانَه امتهانَ العبيد والفَعَلةِ
(1)
، فيتخلَّص من رعونة دعوى النفس، فإنَّه إذا امتهن نفسه بمعاطاة الأسباب سَلِم من هذه الأمراض.
فيقال: إذا كانت الأسباب مأمورًا بها ففيها فائدةٌ أجلُّ من هذه الثلاث، وهي المقصودة بالقصد الأوَّل، وهذه مقصودةٌ قصدَ الوسائل، وهي القيام بالعبوديَّة؛ الأمر
(2)
الذي خلق له العبد، وأرسلت به الرُّسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السّماوات والأرض، وله وُجدت الجنة والنار.
فالقيام بالأسباب المأمور بها محضُ العبوديَّة وحقُّ الله على عبده الذي توجَّهت به نحوه المطالب، وترتَّب عليه الثواب والعقاب.
فصل
قال
(3)
:
(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب
، وغضِّ العين عن السبب؛ اجتهادًا لتصحيح التوكُّل، وقمعًا لشرف النفس، وتفرُّغًا إلى حفظ الواجبات).
قوله: (مع إسقاط الطلب)، أي من الخلق
(4)
، فلا يطلب من أحدٍ شيئًا.
(1)
أي: الذين يعملون عمل الطين والحَفْر وما أشبه ذلك.
(2)
ع: «والأمر» ، خطأ.
(3)
«المنازل» (ص 34).
(4)
زاد في ع: «لا من الحق» .
وهذا من أحسن الكلام وأنفعه للمريد، فإنَّ الطلب من الخلق في الأصل محظور، وغايته أن يباح للضرورة كإباحة الميتة للمضطرِّ، ونصَّ أحمد رضي الله عنه على أنَّه لا يجب
(1)
. وكذلك كان شيخنا يشير إليه؛ أنَّه لا يجب الطلب والسُّؤال
(2)
.
وسمعته يقول في السُّؤال: «ظلمٌ في حقِّ الربوبيَّة، وظلمٌ في حقِّ الخلق، وظلمٌ في حقِّ النفس.
أمَّا في حقِّ الربوبية فلِما فيه من الذُّلِّ لغير الله، وإراقة ماء الوجه لغير خالقه، والتعوُّض عن سؤاله بسؤال المخلوقين.
وأمَّا في حقِّ الناس فبمنازعتهم ما في أيديهم بالسُّؤال واستخراجه منهم. وأبغض ما إليهم من يسألهم، وأحبُّ ما إليهم من لا يسألهم، فإنَّ أموالهم محبوباتهم، ومن سألك محبوبك تعرَّض لمقتك وبغضك.
وأمَّا في ظلم السَّائل لنفسه
(3)
: حيث امتهنها وأقامها في مقام ذلِّ السُّؤال، ورضي لها بذلِّ الطّلب
(4)
وأهانها بذلك، ورضي أن يكون شحَّاذًا من شحَّاذٍ مثله، فإنَّ من تشحذه فهو أيضًا شحَّاذ مثلك، واللهُ وحده هو الغنيُّ، فسؤال
(1)
أي: لا يجب سؤال الناس عند الضرورة، مع إيجابه رحمه الله الأكلَ من الميتة عند الضرورة.
(2)
انظر: «الرد على البكري» (ص 190) و «جامع المسائل» (4/ 358).
(3)
ع: «وأما ظلمُ السائل نفسَه فلأنه» .
(4)
المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير»
(1)
.
والربُّ تعالى كلَّما سألته كَرُمتَ عليه ورضي عنك وأحبَّك، والمخلوق كلَّما سألته هنت عليه وأبغضك
(2)
وقلاك، كما قيل
(3)
:
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبُنيُّ آدمَ حين يُسأل يغضبُ
وقبيحٌ بالعبد المريد، أن يتعرَّض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه كلَّ ما يريد. وفي «صحيح مسلم»
(4)
عن عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعةً ــ أو ثمانيةً أو سبعةً ــ فقال: «ألا تبايعون رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ؟» ، وكنَّا حديثَ عهدٍ ببيعةٍ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمَّ قال:«ألا تبايعون رسول الله؟» ، فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نبايعك؟ فقال:«أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، والصَّلوات الخمس» وأسرَّ كلمةً خفيَّةً: «ولا تسألوا الناس شيئًا» ، ولقد رأيت بعض أولئك النّفر يسقط سوطُ أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إيَّاه.
وفي «الصحيحين»
(5)
عن ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى اللهَ وليس في وجهه مُزعة لحمٍ» .
(1)
ذكر شيخ الإسلام نحوه في «قاعدة في التوسل والوسيلة» ضمن «مجموع الفتاوى» (1/ 194 - 195).
(2)
في ع زيادة: «ومقتك» .
(3)
أنشده الأصمعي كما في «الدر الفريد» (2/ 43). وفي «العزلة» للخطابي (ص 180): أنشدني الخُزيمي. وهو مع بيتٍ قبله في «المستطرف» (ص 303).
(4)
برقم (1043).
(5)
البخاري (1474) ومسلم (1040/ 103) واللفظ له.
وفيهما
(1)
أيضًا عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ــ وذكر الصَّدقة والتعفُّف عن المسألة ــ: «اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى. واليد العليا هي المنفقة، والسُّفلى هي السائلة» .
وفي «صحيح مسلم»
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس تكثُّرًا فإنَّما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثِرْ» .
وفي «الترمذي»
(3)
عن سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المسألة كدٌّ يكُدُّ بها الرجل وجهه
(4)
، إلَّا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمرٍ لا بدَّ منه». قال الترمذي: حديث صحيح.
وفيه
(5)
عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «من أصابته فاقةٌ فأنزلها بالنَّاس لم تُسَدَّ فاقتُه، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ» .
(1)
البخاري (1429) ومسلم (1033).
(2)
برقم (1041).
(3)
برقم (681). وأخرجه أيضًا أحمد (20106، 20219) وأبو داود (1639) والنسائي (2599) وابن حبان (3386، 3397).
(4)
أي: ذلٌّ يذل بها وجهه، ويُريق بها ماءه. وفي أكثر الروايات:«كدوح يكدَح بها وجهه» ، أي: خدوش يخدش بها وجهه.
(5)
برقم (2326) وقال: «حديث حسن صحيح غريب» . وأخرجه أيضًا أحمد (3696) وأبو داود (1645) وأبو يعلى (5317) والحاكم (1/ 408) على اختلاف في لفظه. انظر: «الصحيحة» (2787). وسيأتي لفظ أبي داود في شرح منزلة الرضا عن الله (ص 573 - 574).
وفي «السُّنن» و «المسند»
(1)
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يَكْفُلُ لي أن لا يسأل الناس شيئًا أتكفَّلُ له بالجنَّة؟» ، فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحدًا شيئًا.
وفي «صحيح مسلم»
(2)
عن قبيصة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المسألة لا تحلُّ إلَّا لأحد ثلاثةٍ: رجلٌ تحمَّل حَمالةً، فحلَّت له المسألة حتَّى يصيبها ثمَّ يمسك. ورجلٌ أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيشٍ ــ أو قال: سدادًا من عيشٍ ــ. ورجل أصابته فاقةٌ حتَّى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحِجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتّى يصيب قِوامًا من عيشٍ ــ أو قال: سدادًا من عيشٍ ــ. فما سِواهنَّ من المسألة ــ يا قبيصةُ ــ فسحتٌ يأكلها صاحبها سحتًا» .
فالتوكُّل مع إسقاط هذا الطلب والسُّؤال هو محض العبوديَّة.
قوله: (وغضِّ العين عن التسبُّب
(3)
اجتهادًا في تصحيح التوكُّل).
معناه: أنَّه يُعرض عن الاشتغال بالسبب لتصحيح التوكُّل بامتحان النفس، لأنَّ المتعاطي للسبب قد يظنُّ أنَّه حصَّل التوكُّل، ولم يحصِّله لثقته
(1)
«السنن» لأبي داود (1643) ــ واللفظ له ــ و «مسند أحمد» (22366، 22385)، وأخرجه أيضًا النسائي (2590) وابن ماجه (1837) والطيالسي (1087) والطبراني في «الكبير» (2/ 98) والحاكم (1/ 412) وغيرهم؛ من طريقين صحيحين عن ثوبان. انظر:«صحيح أبي داود ــ الأم» للألباني (5/ 342).
(2)
برقم (1044).
(3)
ش: «السبب» ، وهو لفظ «المنازل» كما سبق.
بمعلومه، فإذا أعرض عن السبب صحَّ له التوكُّل.
وهذا الذي أشار إليه مذهبُ قومٍ من العبَّاد والسالكين. وكثيرٌ منهم كان يدخل البادية بلا زادٍ، ويرى حمل الزَّاد قدحًا في التوكُّل، ولهم في ذلك حكايات مشهورة. وهؤلاء في خفارة صدقهم، وإلَّا فدرجتهم ناقصةٌ عند العارفين.
ومع هذا فلا يمكن بشرًا البتَّة تركُ الأسباب جملةً. فهذا إبراهيم الخوَّاص رحمه الله كان مجرِّدًا في التوكُّل يدقِّق فيه، ويدخل البادية بغير زادٍ، وكان لا تفارقه الإبرة والخيوط والرَّكوة والمقراض. فقيل له: لم تحمل هذا وأنت تمنع من كلِّ شيءٍ؟ فقال: مثل هذا لا ينقص التّوكُّل، لأنَّ لله تعالى علينا فرائض، والفقير لا يكون عليه إلا ثوب واحد، فربَّما تخرَّق ثوبه، فإذا لم يكن معه إبرة وخيوط تبدو عورته، فتَفسُد عليه صلاتُه، وإذا لم يكن معه ركوةٌ فسد
(1)
عليه طهارتُه. وإذا رأيت الفقير بلا ركوةٍ ولا إبرةٍ وخيوطٍ
(2)
فاتَّهمه في صلاته
(3)
.
أفلا تراه لم يستقم له دينه إلَّا بالأسباب؟ أَوَليست
(4)
حركةُ أقدامه،
(1)
ع: «فسدت» .
(2)
ع: «رأيت الفقير عارٍ عن هذه الأشياء» ، والمثبت من سائر النسخ موافق لمصدر النقل.
(3)
أسنده القشيري (ص 414) ومن طريقه الخطيب في «تاريخه» (6/ 493).
(4)
همزة الاستفهام من ع دون سائر النسخ، وبها يستقيم المعنى. وفي الأصل ول حاول بعضهم إقامة السياق بزيادة «إلا» قبل «من الأسباب» ، فكُتب فيهما بخط مغاير فوق السطر. والمثبت من ع أولى.
ونقلُها في الطريق، والاستدلالُ على أعلامها إذا خفيت عليه= مِن الأسباب؟ فالتجرُّد من الأسباب جملةً ممتنعٌ عقلًا وشرعًا وحسًّا.
نعم، قد تعرِض للصادق أحيانًا قوَّةُ ثقةٍ بالله، وحالٌ مع الله تحمله على ترك كلِّ سببٍ غير مفروضٍ عليه، كما تحمله على إلقاء نفسه في مواضع الهلكة. ويكون ذلك الوقت بالله لا به، فيأتيه مددٌ من الله على مقتضى حاله. ولكن لا يدوم له هذا الحال، وليست في مقتضى الطبيعة، فإنها كانت هجمةً هجمت عليه بلا استدعاءٍ فحمل عليها. فإذا استدعى مثلَها وتكلَّفها لم يُجَب إلى ذلك. وفي تلك الحال إذا ترك السبب يكون
(1)
معذورًا لقوَّة الوارد وعجزه عن الاشتغال بالسبب، فيكون في وارده عونٌ له، ويكون حاملًا له. فإذا أراد تعاطي تلك الحال بدون ذلك الوارد وقع في المحال.
وكلُّ تلك الحكايات الصحيحة التي تُحكى عن القوم فهي جزئيَّة حصلت لهم أحيانًا، ليست طريقًا مأمورًا بسلوكها، ولا مقدورة. وصارت فتنةً لطائفتين:
طائفةٌ ظنَّتها طريقًا ومقامًا، فعملوا عليها، فمنهم من انقطع، ومنهم من رجع ولم يمكنه الاستمرار عليها
(2)
.
وطائفةٌ قدحوا في أربابها، وجعلوهم مخالفين للشرع والعقل، مدَّعين لأنفسهم حالًا أكمل من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ لم يكن فيهم أحدٌ
(1)
ش: «لم يكن» ، وكذا كان في الأصل ثم أُصلح، وكُتب في هامش ش:«صوابه: كان معذورًا» .
(2)
زاد في ع: «بل انقلب على عقبيه» .
قطُّ فعل ذلك، ولا أخلَّ بشيءٍ من الأسباب. وقد ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يوم أحدٍ
(1)
، ولم يحضر الصفَّ قطُّ عريانًا كما يفعله من لا علم عنده ولا معرفة. واستأجر دليلًا مشركًا على دين قومه يدلُّه على طريق الهجرةوقد هدى الله به العالمين
(2)
. وكان يَدَّخر لأهله قوت سنةٍ وهو سيِّد المتوكِّلين
(3)
. وكان إذا سافر في جهادٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ حمل معه الزاد والمزاد وجميعُ أصحابه، وهم أهل التوكُّل حقًّا.
وأكمل المتوكِّلين بعدهم من اشتمَّ رائحة توكُّلهم من مسيرةٍ بعيدةٍ، أو لحق أثرَ غباره
(4)
. فأحوال القوم
(5)
محكُّ الأحوال وميزانها، بها يعلم صحيحها من سقيمها.
وكانت هممهم
(6)
في التوكُّل أعلى من همم من بعدهم، فإنَّ توكُّلهم كان في فتح القلوب
(7)
والبلاد
(8)
. فملؤوا بذلك التوكُّلِ القلوبَ هدًى
(1)
كما في حديث السائب بن يزيد عند أحمد (15722) والنسائي في «الكبرى» (8529) وابن ماجه (2806) بإسناد صحيح. وفي الباب حديث الزبير عند الترمذي (1692) وابن حبان (6979) والحاكم (3/ 25) بإسناد حسن.
(2)
كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (2263).
(3)
كما في حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري (5357) ومسلم (1757).
(4)
أي: غبار توكلهم. وفي ع: «أثرًا من غبارهم» .
(5)
ع: «فحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه» .
(6)
ع: «فإن هممهم كانت» .
(7)
ع: «فتح بصائر القلوب» .
(8)
زاد في ع: «وأن يُعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحِّده جميع العباد» .
وإيمانًا، وفتحوا به بلاد الكفر وجعلوها ديار إيمانٍ
(1)
. وكانت هممهم
(2)
أعلى وأجلَّ من أن يصرف أحدُهم قوَّةَ توكُّله واعتماده على الله في شيءٍ يحصل بأدنى حيلةٍ وسعيٍ، فيجعله نُصبَ عينيه ويحمل عليه قوى توكُّله.
قوله: (وقمعًا لشرف النفس)، يريد أنَّ المتسبِّب قد يكون متسبِّبًا بالولايات الشريفة في العبادة
(3)
، أو التِّجارات الرفيعة، والأسباب التي له بها جاهٌ وشرفٌ في الناس، فإذا تركها يكون تركُها قمعًا لشرف نفسه وإيثارًا للتواضع.
وقوله: (وتفرُّغًا لحفظ الواجبات)، أي يتفرَّغ بتركها لحفظ واجباته التي تزاحمها تلك الأسباب.
فصل
قال
(4)
: (الدرجة الثالثة: التوكُّل مع معرفة التوكُّل، النازعةِ إلى الخلاص من علَّة التوكُّل. وهي أن يعلم أنَّ مَلَكة الحقِّ تعالى للأشياء هي مَلَكةُ عزَّةٍ، لا يشاركه فيها مشارك، فيكِلَ شركتَه إليه، فإنَّ من ضرورة العبوديَّة أن يعلم العبد أنَّ الحقَّ هو مالك الأشياء وحده).
(1)
زاد في ع: «وهبَّت رياح روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينًا وإيمانًا» .
(2)
ع: «همم الصحابة» .
(3)
كذا في النسخ. وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «في العادة» ، ففي «شرح التلمساني» (ص 200) ــ والمؤلف صادر عنه هنا ــ:«عادةً» .
(4)
«المنازل» (ص 34).
يريد أنَّ صاحب هذه الدرجة متى قطع الأسباب والطلب، وتعدَّى تلك الدرجتين، فتوكُّله فوق توكُّل من قبله. وهو إنّما يكون بعد معرفته بحقيقة التوكُّل، وأنَّه دون مقامه، فتكون معرفته به وبحقيقته
(1)
نازعةً ــ أي باعثةً وداعيةً ــ إلى تخلُّصه من علَّة التوكُّل. أي: لا يعرف علّة التّوكُّل حتّى يعرف حقيقته، فحينئذٍ يعرف التوكُّل المعرفةَ التي تدعوه إلى التخلُّص من علَّته.
ثمَّ بيَّن المعرفة التي يعلم بها
(2)
علَّة التوكُّل، فقال:(أن يعلم أنَّ ملكة الحقِّ للأشياء ملكة عزَّةٍ)، أي: ملكة امتناعٍ وقوَّةٍ وقهرٍ، تمنع أن يشاركه في ملكه لشيءٍ من الأشياء مشاركٌ، فهو العزيز في ملكه، الذي لا يشاركه غيره في ذرَّةٍ منه، كما هو المتفرِّد
(3)
بعزَّته التي لا يشاركه فيها مشاركٌ.
فالمتوكِّل يرى أنَّ له شيئًا قد وكَّل الحقَّ فيه، وأنّه سبحانه صار وكيلَه عليه. وهذا مخالفٌ لحقيقة الأمر، إذ ليس لأحدٍ من الأمر مع الله تعالى شيءٌ، فلهذا قال:(لا يشاركه فيه مشارك، فيكِلَ شركته إليه)، فلسان الحال يقول لمن جعل الربَّ تعالى وكيله: في ماذا وكَّلتَ ربَّك؟ أفيما هو له وحده، أو لك وحدك، أو بينكما؟ فالثاني والثالث ممتنعٌ بتفرُّده بالملك وحده، والتَّوكيل في الأوَّل ممتنع، فكيف تُوكِّله فيما ليس لك منه شيءٌ البتَّة؟!
فيقال: هاهنا أمران: توكُّل وتوكيل. فالتوكُّل: محض الاعتماد والثِّقة والسُّكون إلى من له الأمر كلُّه. وعلمُ العبد بتفرُّد الحقِّ سبحانه بملك الأشياء كلِّها، وأنَّه ليس له مشاركٌ في ذرَّةٍ من ذرَّات الكون= من أقوى أسباب
(1)
ل، ش:«وتحقيقه» ، وهو مقتضى رسمه في الأصل وإن كان مهملًا غيرَ منقوط.
(2)
ع: «التي بها يعرف» .
(3)
كذا ضبطه في الأصل، ل. وفي سائر النسخ:«المنفرد» .
توكُّله وأعظمِ دواعيه. فإذا تحقَّق ذلك علمًا ومعرفةً، وباشر قلبَه حالًا، لم يجد بدًّا من اعتماد قلبه على الحقِّ وحدَه، وثقته به، وسكونه إليه وحده، وطمأنينته به وحده؛ لعلمه أنَّ حاجاتِه وفاقاتِه وضروراتِه وجميعَ مصالحه بيده وحده، لا بيد غيره. فأين يجد قلبُه مناصًا من التوكُّل بعد هذا؟
فعلَّة التوكُّل حينئدٍ: التفاتُ قلبه إلى من ليس له شِرْكةٌ في ملك الحقِّ، ولا يملك مثقالَ ذرَّةٍ في السّماوات ولا في الأرض. هذه علَّة توكُّله، فهو يعمل على خلاص
(1)
توكُّله من هذه العلَّة.
نعم، ومن علَّةٍ أخرى، وهي رؤية توكُّله، فإنَّه التفاتٌ إلى عوالم نفسه. وعلَّةٍ ثالثةٍ: وهي صرفه قوَّةَ توكُّله إلى شيءٍ غيرُه أحبُّ إلى الله منه. فهذه العلل الثَّلاث هي علل التوكل.
وأمَّا التوكيل
(2)
: فليس المراد منه إلا مجرَّد التفويض، وهو من أخصِّ مقامات العارفين
(3)
، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول:«اللهمَّ إنِّي أسلمتُ نفسي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك»
(4)
. وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} فكان جزاء هذا التّفويض قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45].
(1)
ع: «تخليص» .
(2)
في جميع النسخ والمطبوعات: «التوكل» ، خطأ. وقد سبق قول المؤلف:«هاهنا أمران: توكُّل وتوكيل» ، وقد انتهى من كلامه على التوكل.
(3)
وهي المنزلة الآتية من منازل السائرين.
(4)
أخرجه البخاري (6311) ومسلم (2710) من حديث البراء في الدعاء عند النوم.
فإن كان التّوكُّل معلولًا بما ذُكِر، فالتَّفويض أيضًا كذلك؛ وليس
(1)
فليس.
ولولا أنَّ الحقَّ لله ورسوله، وأنَّ كلَّ من عدا الله ورسوله فمأخوذٌ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطإ= لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ومنازل السائرين كالنُّجوم الدَّراريِّ.
ومن كان عنده علمٌ فليرشد
(2)
إليه، ومن رأى في كلامنا زيغًا وخطأً
(3)
فليُهدِ إلينا الصواب، نشكُرْ له سعيَه ونقابِلْه بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم. والله الموفِّق.
* * * *