الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هذا أيضًا: صدق الخبر، لأنَّه وجود المخبَر بتمام حقيقته في ذهن السامع. فالتمام والوجود نوعان: خارجيٌّ وذهنيٌّ، فإذا أخبرت المخاطَب بخبرٍ صادقٍ حصلت له حقيقة المخبَر بكماله وتمامه في ذهنه.
ومن هذا: وصفهم الرُّمح بأنّه صَدْق الكعوبِ إذا كانت كعوبه صلبةً قويَّةً ممتلئةً
(1)
.
قال
(2)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ.
الدرجة الأولى: صدق القصد
، وبه يصحُّ الدخول في هذا الشَّأن، ويتلافى به كلُّ تفريطٍ، ويتدارك كلُّ فائتٍ، ويعمر كلُّ خرابٍ. وعلامة هذا الصادق: أن لا يحتمل داعيةً تدعو إلى نقض عهدٍ، ولا يصبر على صحبة ضدٍّ، ولا يقعد عن الجدِّ بحال).
يعني بـ (صدق القصد) كمال العزم، وقوَّة الإرادة، بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السُّلوك، وميلٌ شديدٌ يقهر السرَّ على صحَّة التوجُّه. فهو طلبٌ لا يمازجه رياءٌ ولا فتور، ولا يكون فيه قسمةٌ بحالٍ.
ولا يصحُّ الدخولُ في شأن السفر إلى الله والاستعدادُ للقائه إلَّا به، ويُتلافى به كلُّ تفريطٍ، فإنَّه حاملٌ على كلِّ سببٍ ينال به الوصول، وقطعِ كلِّ سببٍ يحول بينه وبينه، فلا يترك فرصةً تفوته، وما فاته من الفرص السابقة تداركها بحسب الإمكان. فيُصلح من قلبه ما مزَّقته يدُ الغفلة والشهوة، ويعمِّر منه ما خرَّبته يدُ البطالة، ويوقد منه ما أطفأته أهوية النفس، ويلمُّ منه ما شعَّثته
(1)
قال عنترة في «معلَّقته» :
جادَتْ له كَفِّي بعاجلِ طعنةٍ
…
بمُثَقَّفٍ صَدْقِ الكعوبِ مُقَوَّمِ
(2)
«المنازل» (ص 43).
يدُ التفريط والإضاعة، ويستردُّ منه ما سرقته يدُ اللصوص والسُّرَّاق
(1)
، ويستفرغ منه ما ملأته موادُّ الأخلاط الرديَّة الفاسدة المترامية إلى الهلاك والعطب، ويداوي منه الجراحات التي أصابته عند الغارة عليه
(2)
، ويغسل منه الحوبات والأوساخ التي تراكبت عليه على تقادم الأوقات، حتَّى لو اطَّلع عليه لأحزنه سوادُه ووسخه الذي صار دباغًا له، فيطهِّره بالماء البارد
(3)
قبل أن يكون طهوره بالحميم
(4)
، فإنَّه لا يجاور الرّحمن قلبٌ دنسٌ
(5)
أبدًا، ولا بدَّ من طهورٍ، فاللبيب يؤثر أسهل الطَّهورين وأنفعهما. والله المستعان.
قوله: (وعلامة هذا الصادق
(6)
: أن لا يحتمل داعيةً تدعو إلى نقض عهدٍ)، يعني: أنَّ الصادق حقيقةً هو الذي قد انجذبت قوى روحه كلُّها إلى إرادة الله وطلبه، والسَّير إليه، والاستعداد للقائه. ومن هذه حاله لا يحتمل سببًا يدعوه إلى نقض عهده مع الله بوجهٍ.
وقوله: (ولا يصبر على صحبة ضدٍّ)، الضِّدُّ عند القوم هم أهل الغفلة
(1)
ع: «ما نهبتْه أكف اللصوص والسرَّاق» ، ثم زاد:«ويزرع ما وجده بَوْرًا من أراضيه، ويقلع ما وجده شوكًا وشبرقًا في نواحيه» .
(2)
ع: «الجراحات التي أصابته مِن غارات الرياء» . قوله: «غارات» هكذا استظهرته، وإلا فرسمه «عرات» مهملًا غير منقوط.
(3)
زاد في ع: «من ينابيع الصدق الخالصة من جميع الكدورات» .
(4)
ل، ج، ن:«بالجحيم» ، وإليه غيِّر في الأصل. وفي ع جمع بينهما:«بالجحيم والحميم» .
(5)
زاد في ع: «بأوساخ الشهوات والرياء» .
(6)
الأصل، ش:«الصدق» ، وقد سبق على الصواب قريبًا.
وقطَّاع طريق القلب إلى الله. وأضرُّ شيءٍ على الصادق صحبتهم، بل لا تصبر نفسه على ذلك أبدًا، إلَّا جمعَ ضرورةٍ، وتكون صحبتهم له
(1)
بقالبه وشبحه، دون قلبه وروحه. فإنَّ هذا لمَّا استحكمت فيه الغفلةُ كما استحكم الصِّدق في الصّادق= أحسَّت روحه بالأجنبيَّة التي بينه وبينه والمضادَّة، فاشتدَّت النُّفرة
(2)
. وبحسب هذه الأجنبيَّة وإحساس الصادق بها تكون نفرته
(3)
عن الأضداد.
فإنَّ هذا الضدَّ إن نطق أحسَّ قلبُ الصادق أنَّه نطق بلسان الغفلة والرِّياء والكبر وطلب الظهور
(4)
، فنفر قلبُه منه. وإن صمت أحسَّ قلبُه أنَّه صمت على غير حضورٍ وجمعيَّةٍ على الله، وإقبالٍ بالقلب عليه، وعكوف السرِّ، فيفر منه أيضًا. وقلب الصّادق قويُّ الإحساس، فيجد الغيريَّة والأجنبيَّة من الضدِّ، ويَشَمُّ القلبُ القلبَ كما يشمُّ الرائحة الخبيثة، فينزوي وجهه لذلك، ويعتريه عُبوسٌ، فلا يأنس به إلَّا تكلُّفًا، ولا يصاحبه إلَّا ضرورةً، فيأخذ من صحبته قدر الحاجة، كصحبة من يشتري منه، أو يحتاج إليه في مصالحه
(5)
.
قوله: (ولا يقعد عن الجدِّ بحالٍ) يعني: أنَّه لمَّا كان في طلبه صادقًا مستجمع القوة، لم يَقعُد به عزمه عن الجدِّ في جميع أحواله، فلا تراه إلَّا جادًّا، وأمره كلُّه جدٌّ.
(1)
زاد في ع: «في تلك الحال» .
(2)
زاد في ع: «وقوي الهَرَب» .
(3)
زاد في ع: «وهربه» .
(4)
سقط «وطلب الظهور» من ع، وزاد مكانه:«ولو كان ذاكرًا أو قارئًا أو مصلِّيًا أو حاجًّا أو غير ذلك» .
(5)
زاد في ع: «كالزوجة والخادم ونحوه» .