المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المشهد العاشر: مشهد الرحمة - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المشهد الثَّاني: مشهد رسوم الطَّبيعة ولوازم الخلقة

- ‌المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

- ‌المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة

- ‌المشهد السادس: مشهد التوحيد

- ‌المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

- ‌المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصِّفات

- ‌المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدُّد(2)شواهده

- ‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

- ‌ منزل الإنابة

- ‌ منزل التّذكُّر

- ‌(أبنية التذكُّر

- ‌المفسد الخامس: كثرة النوم

- ‌ منزل الاعتصام

- ‌الاعتصامُ(2)بحبل الله

- ‌ اعتصام العامَّة

- ‌اعتصام الخاصَّة

- ‌اعتصام خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الفرار

- ‌(فرار العامَّة

- ‌فرار الخاصَّة

- ‌فرار خاصَّة الخاصَّة

- ‌ رياضة العامة

- ‌«منزلة الرياضة»

- ‌رياضة الخاصَّة:

- ‌رياضة خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة السَّماع

- ‌ سماع العامّة

- ‌سماع الخاصَّة

- ‌سماع خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الحزن

- ‌ حزن العامَّة

- ‌ حزن أهل الإرادة

- ‌ التحزُّن للمعارضات

- ‌ منزلة الخوف

- ‌ الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة

- ‌(الدرجة الثانية: خوف المكر

- ‌ منزلة الإشفاق

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌ الدرجة الثالثة

- ‌ منزلة الخشوع

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الإخبات

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الزُّهد

- ‌من أحسن ما قيل في الزُّهد

- ‌ الدرجة الأولى: الزُّهد في الشُّبهة بعد ترك الحرام

- ‌(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول

- ‌(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد

- ‌ منزلة الورع

- ‌ الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح

- ‌(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به

- ‌فصلالخوف يثمر الورع

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرجاء

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرغبة

- ‌ الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر

- ‌(الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال

- ‌(الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشُّهود

- ‌ منزلة الرِّعاية

- ‌ منزلة المراقبة

- ‌ الدرجة الأولى: مراقبة الحقِّ تعالى في السَّير إليه

- ‌الدرجة الثانية: مراقبة نظر الحقِّ إليك برفض المعارضة

- ‌الاعتراض ثلاثة أنواعٍ سارية في الناس

- ‌النوع الأوَّل: الاعتراض على أسمائه وصفاته

- ‌النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره

- ‌(الدرجة الثالثة: مراقبةُ الأزل بمطالعة عين السبق

- ‌ منزلة تعظيم حرمات الله

- ‌(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره

- ‌(الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة

- ‌ منزلة الإخلاص

- ‌ الدّرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة التهذيب والتصفية

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الاستقامة

- ‌ الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد

- ‌(الدرجة الثانية: استقامة الأحوال

- ‌(الدرجة الثالثة: استقامةٌ بترك رؤية الاستقامة

- ‌ منزلة التوكُّل

- ‌الدرجة الثانية: إثبات الأسباب والمسبَّبات

- ‌الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد

- ‌الدرجة الخامسة: حسن الظنِّ بالله

- ‌الدرجة السّادسة: استسلام القلب له

- ‌الدرجة السابعة: التفويض

- ‌ الدرجة الأولى: التوكُّل مع الطلب ومعاطاة السبب

- ‌(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب

- ‌ منزلة التفويض

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الثِّقة بالله

- ‌ الدرجة الأولى: درجة الإياس

- ‌(الدرجة الثانية: درجة الأمن

- ‌(الدرجة الثالثة: معاينة أزليَّة الحقِّ

- ‌ منزلة التسليم

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الصبر

- ‌(الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة

- ‌(الدرجة الثالثة: الصبرُ في البلاء

- ‌ منزلة الرِّضا

- ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

- ‌ منزلة الشُّكر

- ‌ الدرجة الأولى: الشُّكر على المحابِّ

- ‌(الدرجة الثانية: الشُّكر في المكاره

- ‌(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم

- ‌ منزلة الحياء

- ‌ منزلة الصِّدق

- ‌من علامات الصِّدق: طمأنينة القلب إليه

- ‌فصلفي كلماتٍ في حقيقة الصِّدق

- ‌ الدرجة الأولى: صدق القصد

- ‌(الدرجة الثانية: أن لا يتمنَّى الحياة إلا للحقِّ

- ‌(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق

الفصل: ‌المشهد العاشر: مشهد الرحمة

وباشر الأسباب التي تُفضي به إلى ضدِّ هذه الحال، ورأى العزَّ بعد الذُّلِّ، والغنى بعد الفقر، والسُّرور بعد الحزن، والأمن بعد الخوف، والقوّة في قلبه بعد ضعفه ووهنه= ازداد إيمانًا مع إيمانه، فتَقْوى شواهدُ الإيمان في قلبه وبراهينُه وأدلَّتُه في حال معصيته وطاعته، فهذا من الذين يكفِّرُ الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون.

وصاحب هذا المشهد متى تبصَّر فيه وأعطاه حقَّه صار من أطبَّاء القلوب العالمين بدائها ودوائها، فنفعه الله في نفسه، ونفع به من شاء من خلقه.

فصل

‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

، فإنَّ العبد إذا وقع في الذّنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة والكيفيّة الغضبيَّة التي كانت عنده لمن صدر منه ذنبٌ، حتّى لو قَدَر عليه لأهلكه، وربما دعا الله عليه أن يُهلكه ويأخذه، غضبًا منه لله وحرصًا على أن لا يُعصى، فلا يجد في قلبه رحمةً للمذنبين

(1)

الخطَّائين، ولا يراهم إلّا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم إلّا بلسان الطّعن فيهم والعيب لهم والذّمِّ.

فإذا جرت عليه المقادير وخُلِّي ونفسَه استغاث بالله والتجأ إليه، وتململ بين يديه تململ السَّليم

(2)

، ودعاه دعاء المضطرِّ، فتبدّلت تلك الغلظة على المذنبين رقّةً، وتلك القساوة

(3)

على الخطَّائين رحمةً

(4)

، مع

(1)

ج، ن:«للمؤمنين» .

(2)

السليم: اللَّديغ، سمّي ذلك تفاؤلًا بالسلامة.

(3)

ج، ن:«القسوة» .

(4)

في ع زيادة: «ولينًا» .

ص: 44

قيامه بحدود الله، وتبدَّل دعاؤه عليهم دعاءً لهم، وجعل لهم وظيفةً من عمره يسأل الله فيها أن يغفر لهم. فما أنفعَه له من مشهدٍ، وما أعظَمَ جدواه عليه!

فصل

فيورثه ذلك: المشهدَ الحادي عشر، وهو مشهد العجز والضّعف، وأنّه أعجز شيءٍ عن حفظ نفسه وأضعف، وأنّه لا قوّة له ولا قدرة ولا حول

(1)

إلّا بربِّه، فيشهد قلبَه كريشةٍ ملقاةٍ بأرضِ فلاةٍ تُسيِّرها الرِّياح يمينًا وشمالًا، ويشهد نفسه كراكب سفينةٍ في البحر تهيج بها الرِّياح وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارةً وتخفضها أخرى

(2)

.

تجري عليه أحكام القدر وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليِّه، ملقًى ببابه، واضعًا خدّه على ثرى أعتابه، لا يملك لنفسه ضَرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلَّا الجهل والظُّلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاةٍ ملقاةٍ بين الذِّئاب والسِّباع لا يردُّهم عنها إلّا الرّاعي، فلو تخلّى عنها طرفة عينٍ لتقاسموها أعضاءً، هكذا حال العبد ملقًى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجنِّ، فإن حماه منهم وكفَّهم عنه لم يجدوا إليه سبيلًا، وإن تخلَّى عنه ووَكَله إلى نفسه طرفة عينٍ لم ينقسم عليهم، بل هو نصيب من ظفر به منهم.

وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا، ويعرف ربَّه، وهذا أحد التأويلات

(1)

زيد بعده في م، ش:«ولا قوة» ، وهو تكرار.

(2)

ع: «تارةً أخرى» .

ص: 45

للكلام المشهور: «من عرف نفسه عرف ربَّه» ، وليس

(1)

حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما

(2)

هو أثرٌ إسرائيليٌّ بغير هذا اللّفظ أيضًا

(3)

: «يا إنسان اعرِفْ نفسك تعرف ربّك»

(4)

، وفيه ثلاث تأويلاتٍ:

أحدها: أنّ من عرف نفسه بالضّعف عرف ربَّه بالقوّة، ومن عرفها بالعجز عرف ربَّه بالقدرة، ومن عرفها بالذُّلِّ عرف ربَّه بالعزِّ، ومن عرفها بالجهل عرف ربّه بالعلم، فإنّ الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثّناء والمجد والغنى، والعبد فقيرٌ ناقصٌ محتاجٌ، وكلّما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذلِّه وضعفه ازدادت معرفته لربِّه بأوصاف كماله.

التأويل الثاني: أنّ من نظر إلى نفسه وما فيها من الصِّفات الممدوحة

(5)

من القوَّة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة، عرف أنَّ من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به

(6)

، فمعطي الكمال أحقُّ بالكمال، فكيف يكون العبد حيًّا متكلِّمًا سميعًا بصيرًا مريدًا عالمًا يفعل باختياره، ومَن خَلَقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه؟ فهذا من أعظم المحال، بل من جعل العبد متكلِّمًا أولى أن يكون هو متكلِّمًا، ومن جعله حيًّا عليمًا سميعًا بصيرًا فاعلًا قادرًا أولى أن يكون كذلك. فالتّأويل الأوّل من باب الضِّدِّ، وهذا من باب الأولويَّة.

(1)

ج، ن:«وليس هو» . ع: «وليس هذا» .

(2)

ج، ن:«بل» .

(3)

زيد بعده في ج، ن:«وصيغته» .

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (16/ 349)، و «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (66).

(5)

ش: «المحمودة» ، وجاء في هامشها ما أثبت هنا مرموزًا عليه بـ «خ» .

(6)

ج: «بالكمال» .

ص: 46

والتأويل الثالث: أنّ هذا من باب النّفي، أي كما أنّك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك، فلا

(1)

تعرف حقيقتها، ولا ماهيَّتها ولا كيفيَّتها، فكيف تعرف حقيقة ربّك وكيفيّة صفاته؟

والمقصود: أنَّ في هذا المشهد يعرِف العبد أنَّه عاجزٌ ضعيفٌ، فتزول عنه رعونات الدّعاوي، والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنّه ليس له من الأمر شيءٌ وليس بيده شيء، إن هو إلّا محض الفقر والعجز والضَّعف.

فصلٌ

فحينئذٍ يطلع منه على المشهد الثاني عشر، وهو مشهد الذُّلِّ والانكسار والخضوع والافتقار للربِّ جل جلاله، فيشهد في كلِّ ذرّةٍ من ذرّاته الباطنة والظّاهرة ضرورةً تامّةً وافتقارًا تامًّا إلى ربِّه ووليِّه، ومن بيده صلاحُه وفلاحه، وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة

(2)

حقيقتها، وإنّما تُدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كسرةٌ خاصّةٌ لا يشبهها شيء، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل، الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يُرغَب في مثله، وأنّه لا يصلح للانتفاع إلّا بجبرٍ جديدٍ من صانعه وقيِّمه، فحينئذٍ يستكثر في هذا المشهد ما مِن ربِّه إليه من الخير، ويرى أنَّه لا يستحقُّ منه قليلًا

(3)

ولا كثيرًا، فأيُّ خيرٍ ناله من الله تعالى استكثره على نفسه، وعلم أنّ قدره دونه، وأنّ رحمة ربِّه اقتضت ذكره به

(1)

في الأصل وغيره: «ولا» ، ولعل المثبت من ع أشبه.

(2)

ش: «العبد» ، تصحيف.

(3)

ع: «قليلًا منه» ، تقديم وتأخير.

ص: 47

وسياقته إليه، واستقلَّ ما من نفسه من الطّاعات لربِّه، ورآها ولو ساوت طاعات

(1)

الثّقلين من أقلِّ

(2)

ما ينبغي لربِّه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإنّ الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كلَّه.

فما أقربَ الجبرَ

(3)

من هذا القلب المكسور، وما أدنى النصرَ والرحمةَ والرِّزق منه، وما أنفعَ هذا المشهدَ له وأجداه عليه! وذرّةٌ من هذا ونَفَسٌ منه أحبُّ إلى الله من طاعاتٍ أمثال الجبال من المُدلِّين المُعجَبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحبُّ القلوب إلى الله تعالى قلبٌ قد تمكّنت منه هذه الكسرة وملكته هذه الذِّلَّة، فهو ناكس الرّأس بين يدي ربِّه تعالى، لا يرفع رأسه إليه حياءً وخجلًا من الله تعالى.

قيل لبعض العارفين

(4)

: أيسجد القلب؟ قال: نعم، يسجد سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللِّقاء، فهذا سجود القلب.

فقلبٌ لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجدٍ السُّجودَ المراد منه، وإذا سجد القلب لله هذه السّجدة العظمى سجدت معه جميع

(5)

الجوارح، وعنا الوجهُ حينئذٍ للحيِّ القيُّوم، وخشع الصَّوت والجوارح كلُّها، وذلّ

(1)

ش: «طاعة» .

(2)

ش: «أجلّ» ، تصحيف.

(3)

ج: «فإذا قَرُب الجبرُ» ، تحريف.

(4)

في «فتاوى شيخ الإسلام» (21/ 287) أنه سهل بن عبد الله التستري، ولكن في «الفتوحات» لابن العربي (1/ 515) أن سهلًا هو السائل، والمسؤول بعض العارفين مِن عبَّادان.

(5)

«جميع» سقطت من ج، ن.

ص: 48

العبد وخضع واستكان، ووضع خدَّه على عتبة العبوديّة ناظرًا بقلبه إلى ربِّه ووليِّه نظر الذّليل إلى العزيز الرّحيم، فلا يُرى إلّا متملِّقًا لربِّه خاضعًا له، ذليلًا مستكينًا

(1)

مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضّى ربّه كما يترضَّى المحبُّ الكاملُ المحبَّةِ محبوبَه المالكَ له الذي لا غنى له عنه ولا بدَّ له منه، فليس له همٌّ غير استرضائه واستعطافه، لأنّه لا حياة له ولا فلاح إلّا في قربه ورضاه عنه ومحبَّته له

(2)

، يقول

(3)

: كيف أُغضِب مَن حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمَّن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبِّه وذِكره؟

وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللِّباس، ويربِّيه أحسن التّربية

(4)

، ويرقِّيه في درجات الكمال أتمَّ ترقيةٍ، وهو القيِّم بمصالحه كلِّها، فبعثه أبوه في حاجةٍ له، فخرج عليه في الطريق

(5)

عدوٌّ فأسره وكَتَفه وشدَّه وثاقًا، ثمّ ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضدِّ ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكّر تربية والده وإحسانَه إليه الفينة بعد الفينة، فيَهيج من قلبه لواعج الحسرات

(6)

كلَّما رأى حاله وتذكَّر ما كان فيه

(7)

، فبينا هو في أسر عدوِّه يسومه سوء

(1)

«مستكينًا» ساقط من ع.

(2)

«ومحبته» تفرَّدت به ع. و «له» ضُرب عليه في الأصل ول، ولم يرد في ج، ن.

(3)

ج، ن:«ولسان حاله يقول» .

(4)

ل: «يزينه أحسن الزينة» .

(5)

الأصل، ل، م:«طريق» . ع: «طريقه» .

(6)

أي: الحسرات المُحرقة للفؤاد، فاللَّعْج: الحُرقة، واللَّاعج: الهوى المُحرِق.

(7)

ع: «كان عليه وكلَّ ما كان فيه» .

ص: 49

العذاب ويريد نحره في آخر الأمر، إذ حانت منه التفاتةٌ إلى نحو ديار

(1)

أبيه فرأى أباه منه قريبًا، فسعى إليه وألقى نفسه عليه، يستغيث: يا أبتاه، يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تستبق على خدَّيه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوُّه في طلبه حتّى وقف على رأسه، وهو ملتزمٌ لوالده ممسكٌ له، فهل تقول: إنّ والده يسلمه مع

(2)

هذه الحال إلى عدوِّه ويخلِّي بينه وبينه؟ فما الظّنُّ بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده والوالدة بولدها إذا فرَّ إليه، وهرب من عدوِّه إليه، وألقى نفسَه طريحًا ببابه، يمرِّغ خدّه في ثَرى أعتابه باكيًا بين يديه، يقول: يا ربِّ، يا ربِّ، ارحم من لا راحم له سواك، ولا وليَّ له سواك

(3)

، ولا ناصر له سواك

(4)

، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك؛ مسكينك وفقيرك، وسائلك ومؤمِّلك ومرجِّيك، لا ملجا ولا منجا له منك إلّا إليك، أنت ملاذه وبك معاذه.

يا من ألوذ به فيما أؤمِّله

ومن أعوذ به فيما

(5)

أحاذره

لا يجبر النّاس عظمًا أنت كاسِرُه

ولا يَهيضُون عظمًا أنت جابره

(6)

فإذا استبصر في هذا المشهد، وتمكَّن

(7)

من قلبه وباشره، وذاق طعمه

(1)

م، ج، ن:«دار» .

(2)

ج، ن:«مُسْلمه على» .

(3)

«ولا وليَّ له سواك» ساقط من ع.

(4)

«ولا ناصر له سواك» ساقط من ج، ن.

(5)

ل، ش، ع:«مما» .

(6)

البيتان لأبي الطيب المتنبي، وقد تقدَّما (1/ 289).

(7)

في الأصل وغيره: «تمكَّن» من دون واو العطف على أنه جواب «إذا» ، ولعلَّ المثبت من ع أشبه.

ص: 50

وحلاوته= ترقَّى

(1)

منه إلى:

المشهد الثالث عشر، وهو الغاية التي شمَّر إليها السَّالكون، وأَمَّها القاصدون، ولحظ إليها العاملون.

وهو مشهد العبوديَّة والمحبَّة، والشوق إلى لقائه، والابتهاج

(2)

والفرح والسُّرور به، فتقرُّ به عينه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئنُّ إليه جوارحه، ويستولي ذكرُه على لسان محبِّه وقلبه، فتصير خطرات المحبّة مكان خطرات المعصية، وإرادةُ التقرُّب إليه ومرضاته

(3)

مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركاتُ اللِّسان والجوارح بالطّاعات مكان حركاتها بالمعاصي، قد امتلأ قلبه من محبّته، ولهج لسانه بذكره، وانقادت الجوارح لطاعته، فإنّ هذه الكسرة الخاصّة لها تأثيرٌ عجيبٌ في المحبَّة لا يُعبَّر عنه.

ويحكى عن بعض العارفين قال

(4)

: دخلت على الله من أبواب الطّاعات كلِّها، فما دخلت من بابٍ إلّا رأيت عليه الزِّحام فلم أتمكَّن من الدُّخول، حتّى جئت باب الذُّلِّ والافتقار، فإذا هو أقرب بابٍ إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوِّق، فما هو

(5)

إلَّا أن وضعتُ قدمي في عَتَبته فإذا هو قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.

(1)

في الأصل وغيره: «وترقَّى» ، والمثبت من ج، ن، ع.

(2)

في ع زيادة: «به» .

(3)

ع: «وإلى مرضاته» .

(4)

ج، ن:«أنه قال» . وقد جرت عادة أهل الحديث وغيرهم من أهل العلم بحذف «أنه» في مثل هذا التركيب خطًّا لا نُطقًا. انظر: «الفتح» (1/ 105).

(5)

«فما هو» من ج، ن، ع.

ص: 51

وكان شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله يقول: من أراد السعادة الأبديَّة فليلزم عتبة العبوديَّة

(1)

.

وقال بعض العارفين: لا طريق أقربُ إلى الله من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عملٌ واجتهادٌ، ولا يضرُّ مع الذُّلِّ والافتقار بطالةٌ، يعني بعد فعل الفرائض.

والقصد: أنّ هذه الذِّلّة والكسرة الخاصة تُدخله على الله، وترميه على طريق المحبّة، فيفتح له منها بابٌ لا يفتح له من غير هذا الطّريق، وإن كانت طرق سائر الأعمال والطّاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبّة، لكنَّ الذي يُفتح منها من طريق الذلِّ والانكسار والافتقار وازدراء النّفس، ورؤيتِها بعين الضّعف والعجز والعيب والنّقص والذّمِّ بحيث يشاهدها ضيعةً وعجزًا وتفريطًا وذنبًا وخطيئةً= نوعٌ آخر وفتحٌ آخر.

والسالك بهذا

(2)

الطّريق غريبٌ في النّاس، هُم في وادٍ وهو في وادٍ، وهي تسمَّى طريقة

(3)

الطَّير، يسبق النّائمُ فيها على فراشه السُّعاة، فيصبح وقد قطع الرَّكب، بينا هو يحدِّثك وإذا به قد سبق الطَّرف وفات السُّعاة، فالله المستعان وهو خير الغافرين.

وهذا الذي حصل له من آثار محبّة الله له

(4)

وفرحه بتوبة عبده، فإنَّه

(1)

وانظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 34) و «جامع المسائل» (6/ 125).

(2)

ع: «بهذه» .

(3)

ع: «طريق» .

(4)

«له» ساقطة من ل، ش.

ص: 52

سبحانه يحبُّ التوَّابين

(1)

ويفرح بتوبتهم أعظم فرحٍ وأكملَه. فكلّما طالع العبد منَّته سبحانه

(2)

قبل الذَّنب، وفي حال مواقعة الذنب، وبعد الذنب

(3)

، وبرَّه به وحلمه عنه، وإحسانه إليه= هاجت من قلبه لواعج محبّته والشّوق إلى لقائه، فإنَّ القلوب مجبولةٌ على حبِّ من أحسن إليها، وأيُّ إحسانٍ أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي وهو يمدُّه بنعمه، ويعامله بألطافه، ويسبل عليه ستره، ويحفظه من خطفات أعدائه المترقِّبين له أدنى عثرةٍ ينالون منه بها بغيتهم، ويردُّهم عنه، ويحول بينهم وبينه؟ وهو في ذلك كلِّه بعَينه، يراه ويطَّلع عليه، فالسَّماء تستأذن ربَّها أن تحصبه، والأرض تستأذنه أن تخسف به، والبحر يستأذنه أن يغرقه، كما في «مسند الإمام أحمد رضي الله عنه»

(4)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ما من يومٍ إلّا والبحر يستأذن ربَّه أن يغرق بني آدم، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه، والرّبُّ تعالى يقول: دعوا عبدي، فأنا أعلم به إذ

(1)

زِيد في ش: «ويحب المتطهرين» .

(2)

في ع زيادة: «عليه» .

(3)

ع: «وفي حال مواقعته وبعده» .

(4)

ليس فيه هذا اللفظ الطويل الذي ذكره، ولعله كان في كتاب «الزهد» لأحمد (وليس في القدر المطبوع منه) فتوهَّم أنه في «مسنده» ، لاسيما أن لفظه بهذا التمام أشبه بمواعظ التابعين والإسرائيليات منه بالأحاديث المسندة. وإنما الذي في «المسند» (303) هو حديث عمر مرفوعًا بلفظ:«ليس من ليلةٍ إلا والبحرُ يُشرِف فيها ثلاث مرَّاتٍ على الأرض يستأذن الله في أن ينفضخ عليهم، فيكفُّه الله عز وجل» . وأخرجه إسحاق أيضًا في «مسنده» (المطالب العالية: 2043). وإسناده ضعيف، فيه رجلٌ مبهم لم يُسمَّ. انظر:«مسند فاروق» (2/ 587) و «الضعيفة» (4392) ..

ص: 53

أنشأته من الأرض، إن كان عبدكم فشأنكم به، وإن كان عبدي فمنِّي إلى

(1)

عبدي، وعزَّتي وجلالي إن أتاني ليلًا قبلته، وإن أتاني نهارًا قبلته، وإن تقرَّب منِّي شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، وإن تقرّب منِّي ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، وإن مشى إليّ هرولت إليه، وإن استغفرني غفرت له، وإن استقالني أقلته، وإن تاب إليَّ تبت عليه؛ من أعظم منِّي جودًا وكرمًا وأنا الجواد الكريم؟ عبيدي يبيتون يبارزوني

(2)

بالعظائم وأنا أكلؤهم في مضاجعهم وأحرسهم على فرشهم، مَن أقبل إليَّ تلقَّيته من بعيدٍ، ومن ترك لأجلي أعطيتُه فوق المزيد، ومن تصرَّف بحولي وقوَّتي ألنت له الحديد، ومن أراد مرادي أردتُ ما يريد، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقنِّطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهِّرهم من المعايب».

ولنقتصر على هذا القدر من ذكر التَّوبة وأحكامها وثمراتها، فإنّه ما أطيل الكلامُ فيها إلّا لفرط الحاجة والضرورة إلى معرفتها، ومعرفة أحكامها وتفاصيلها ومسائلها، والله الموفِّق لمراعاة

(3)

ذلك والقيام به عملًا وحالًا كما وفَّق له علمًا ومعرفةً، فما خاب من توكَّل عليه ولاذ به ولجأ إليه، ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله.

* * * *

(1)

في طبعتي الفقي والصميعي: «وإليَّ» خلافًا للنسخ.

(2)

كذا بحذف نون الرفع تخفيفًا.

(3)

ش: «لرعاية» .

ص: 54