الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الشُّكر
. وهي من أعلى المنازل. وهي فوق منزلة الرِّضا، فإنه يتضمَّن الرضا وزيادة، فالرضا مندرجٌ في الشكر، إذ يستحيل وجود الشكر بدونه.
وهو نصف الإيمان كما تقدَّم، والإيمان نصفان: نصفٌ شكر، ونصفٌ صبر.
وقد أمر الله به ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خلقه. وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته.
وأخبر أنَّ أهله هم المنتفعون بآياته، واشتقَّ لهم اسمًا من أسمائه، فإنَّه سبحانه هو الشَّكور، وهو موصل للشاكر إلى مشكوره
(1)
، بل يعيد الشاكر مشكورًا. وهو غاية رضا الربِّ من عبده، وأهلُه هم القليل من عباده.
قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. وقال: {أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا} [البقرة: 152].
وقال عن خليله إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 120 - 121]. وقال عن نوحٍ عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3].
(1)
ل: «شُكوره» .
وقال: {قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]. وقال: {(150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا} [البقرة: 151 - 152].
وقال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. وقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
وسمَّى نفسه شاكرًا وشَكورًا، وسمَّى الشاكرين بهذين الاسمين، فأعطاهم من وصفه وسمَّاهم باسمه، وحسبك بهذا محبَّةً للشاكرين وفضلًا.
وإعادتُه للشاكر مشكورًا كقوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22].
ورضا الربِّ عن عبده به كقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
وقلَّة أهله في العالمين تدلُّ على أنّهم هم خواصُّه، كقوله:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
وفي «الصحيح»
(1)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قام حتَّى تورَّمت قدماه، فقيل له:
(1)
ع: «الصحيحين» ، وهو كذلك فالحديث أخرجه البخاري (4836، 4837) ومسلم (2819، 2820) من حديث المغيرة بن شعبة ــ واللفظ له ــ وعائشة.
تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» .
وقال لمعاذٍ: «والله يا معاذ إنِّي لأحبُّك، فلا تنسَ أن تقول في دبر كلِّ صلاةٍ: اللهمَّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»
(1)
.
وفي «المسند» و «الترمذي»
(2)
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهمَّ أعنِّي ولا تُعِن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسِّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ. ربِّ اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مِطْواعًا، لك مخبتًا، إليك أوَّاهًا منيبًا. ربِّ تقبَّل توبتي، واغسل حَوبتي، وأجب دعوتي، وثبِّت حجَّتي، واهدِ قلبي، وسدِّد لساني، واسْلُل سخيمة صدري» .
فصل
وأصل الشُّكر في وضع اللِّسان: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورًا بيِّنًا، يقال: شَكِرت الدابَّةُ تَشْكَر شَكَرًا
(3)
على وزن (سَمِنت تَسْمَن سِمَنًا): إذا ظهر عليها أثرُ العلف، ودابَّة شَكُور: إذا
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود وغيره، وقد سبق تخريجه (1/ 121).
(2)
أحمد (1997) والترمذي (3551) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (665) وأبو داود (1510) والنسائي في «الكبرى» (10368) وابن ماجه (3830) وابن حبان (947، 948) والحاكم (1/ 519) والضياء في «المختارة» (11/ 60 - 63).
(3)
ظاهر تنظير المؤلف أنه: شِكَرًا كعِنَبٍ، ولكنَّ الذي في المعاجم أنه بفتحتين، ولذا قالوا في فعله: إنه كـ (فَرِح). انظر: «النهاية» (2/ 494) و «تاج العروس» (12/ 228، 229).
ظهر عليها من السِّمَن فوقَ ما تُعطى
(1)
من العلف.
وفي «صحيح مسلم»
(2)
: «
…
حتَّى إنَّ الدوابَّ لتَشْكَرُ من لحومهم»، أي تسمن من كثرة ما تأكل منها.
وكذلك حقيقته في العبوديَّة، وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبَّةً، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة.
والشُّكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره.
فهذه الخمسة هي أساس الشُّكر، وبناؤه عليها، فمتى عدم منها واحدةً اختلَّ مِن قواعد الشكر قاعدة. وكلُّ من تكلَّم في الشكر وحدِّه، فكلامه إليها يرجع وعليها يدور.
فقيل حدُّه: أنَّه الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع
(3)
.
وقيل: الثناء على المحسن بذكر إحسانه.
وقيل: هو عكوف القلب على محبَّة المنعم، والجوارح على طاعته، وجريان اللِّسان بذكره والثناء عليه.
(1)
ع: «تأكل وتُعطى» .
(2)
ليس فيه، وإنما أخرجه أحمد (10632) والترمذي (3153) وابن ماجه (4080) والحاكم (4/ 488) من حديث أبي هريرة في وصف الأرض عند هلاك يأجوج ومأجوج في آخر الزمان.
(3)
به عرَّفه القُشيري في «الرسالة» (ص 424)، ثم قال:«ويحتمل أن يقال» وذكر الآتي.
وقيل: هو مشاهدة المنَّة، وحفظ الحرمة
(1)
.
وما ألطف ما قال حمدون القصَّار: شكر النِّعمة أن ترى نفسك فيها طفيليًّا
(2)
.
وقال أبو عثمان: الشُّكر معرفة العجز عن الشُّكر
(3)
.
وقيل: الشُّكر إضافة النِّعم إلى موليها بنعت الاستكانة له.
وقال الجنيد: الشُّكر أن لا ترى نفسك أهلًا للنِّعمة
(4)
. هذا معنى قول حمدون أن يرى نفسه فيها طفيليًّا.
وقال رويمٌ: الشُّكر استفراغ الطاقة
(5)
.
وقال الشِّبليُّ: الشُّكر رؤية المنعم لا رؤية النِّعمة
(6)
. قلت: يحتمل كلامه أمرين:
أحدهما: أن يفنى برؤية المنعم عن رؤية نعمه.
والثاني: أن لا تحجبه رؤية نعمه ومشاهدتها عن رؤية المنعم بها. وهذا أكمل، والأوَّل أقوى عندهم.
(1)
ذكره القشيري (ص 425) عن أبي بكر الورَّاق.
(2)
«القشيرية» (ص 425).
(3)
«القشيرية» (ص 426).
(4)
«القشيرية» (ص 426).
(5)
«القشيرية» (ص 426).
(6)
«القشيرية» (ص 427).
والكمال: أن تشهد النِّعمة والمنعم، لأنَّ شكره بحسب شهوده للنِّعمة، فكلَّما كان أتمَّ كان الشُّكر أكمل. والله يحبُّ من عبده أن يشهد نعمه، ويعترف
(1)
بها، ويثني عليه بها، ويحبُّه عليها، لا أن يفنى عنها ويغيب عن شهودها.
وقيل: الشُّكر قيد النِّعم الموجودة، وصيد النِّعم المفقودة.
وشكر العامَّة على المطعم والملبس وقوت الأبدان، وشكر الخاصَّة على التوحيد والإيمان وقوت القلوب
(2)
.
وقال داود: يا ربِّ، كيف أشكرك؟ وشكري نعمةٌ عليَّ مِن عندك تستوجب بها شكرًا، فقال: الآن شكرتني يا داود
(3)
.
وفي أثرٍ آخرَ إسرائيليٍّ: أنَّ موسى قال يا ربِّ، خلقتَ آدم بيديك ونفختَ فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، وعلَّمته أسماء كلِّ شيءٍ، وفعلتَ وفعلتَ؛ فكيف أطاق شكرك؟ فقال الله عز وجل: علم أنَّ ذلك منِّي، فكانت معرفته بذلك شكرًا لي
(4)
.
(1)
في ع زيادة: «له» .
(2)
نظر فيه المؤلف إلى كلامٍ لأبي عثمان في «القشيرية» (ص 427).
(3)
«القشيرية» (ص 427). وأسند أحمد في «الزهد» (ص 91) وابن أبي الدنيا في «الشكر» (5) ــ ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (4101) ــ وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 56) عن أبي الجَلْد البصري ــ أحد التابعين ــ أنه قرأ في بعض الكتب نحوه.
(4)
«القشيرية» (ص 427). وأسنده هنَّاد في «الزهد» (777) وابن أبي الدنيا في «الشكر» (12) والبيهقي في «الشعب» (4113) بإسناد ضعيف عن الحسن البصري.
وقيل: الشُّكر التلذُّذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه
(1)
.
وقال الجنيد ــ وقد سأله سَرِيٌّ عن الشُّكر ــ وهو صبيٌّ بعدُ: الشُّكر أن لا يستعان بشيءٍ من نعم الله على معاصيه. فقال: من أين لك هذا؟ قال: من مجالستك
(2)
.
وقيل: من قَصُرت يدُه عن المكافاة فليَطُل لسانه بالشكر.
والشُّكر معه
(3)
المزيد أبدًا، لقوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، فمتى لم تر حالك في مزيدٍ فاستقبل الشُّكر.
وفي أثرٍ إلهيٍّ يقول الله تعالى: «أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنِّطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهِّرهم من المعايب»
(4)
.
وقيل: من كتم النِّعمة فقد كفرها، ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها. وهذا
(5)
من قوله: صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمةٍ أحبَّ أن يرى أثر نعمته
(1)
«القشيرية» (ص 428) بلا نسبة.
(2)
أسنده أبو نعيم في «الحلية» (10/ 119) والبيهقي في «الشعب» (4229) والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 172) والقشيري في «الرسالة» (ص 426، 428) ــ واللفظ له ــ من طرق عن الجنيد به.
(3)
في جميع النسخ عدا الأصل، ع:«مع» ، والظاهر أنه كان كذلك في الأصل ثم أُصلح.
(4)
سبق تخريجه (ص 53).
(5)
زاد في ع: «مأخوذ» .
على عبده»
(1)
.
وفي هذا قيل
(2)
:
ومن الرزيَّة أنَّ شكري صامتٌ
…
عمَّا فعلتَ وأنَّ برَّك ناطقُ
أأرى الصنيعةَ منك ثمّ أُسِرُّها
…
إنِّي إذًا لندى الكريم لسارقُ
فصل
وتكلَّم الناس في الفرق بين الحمد والشُّكر أيُّهما أعلى وأفضل؟ وفي الحديث: «الحمد رأس الشُّكر، فمن لم يحمَدِ الله لم يشكُرْه»
(3)
.
والفرق بينهما: أنَّ الشُّكر أعمُّ من جهة أنواعه وأسبابه وأخصُّ من جهة متعلَّقاته، والحمد أعمُّ من جهة المتعلَّقات وأخصُّ من جهة الأسباب.
ومعنى هذا: أنَّ الشُّكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانةً، وباللِّسان ثناءً واعترافًا، وبالجوارح طاعةً وانقيادًا. ومتعلَّقه: النِّعم دون الأوصاف الذاتيَّة،
(1)
أخرجه أحمد (19934) وابن أبي الدنيا في «الشكر» (50) والطبراني (18/ 135) والبيهقي في «السنن» (3/ 271) و «شعب الإيمان» (5789) وغيرهم من حديث عمران بن حُصين بإسناد جيِّد. وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه بنحوه، أخرجه أحمد (6708) والترمذي (2819) ــ وحسَّنه ــ والحاكم (4/ 135) وغيرهم. وله شواهد أخرى، انظر:«نزهة الألباب» للوائلي (6/ 3394 - 3395) و «أنيس الساري» (1219).
(2)
البيتان لأبي تمَّام في «ديوانه» (2/ 454) و «القشيرية» (ص 429).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (20481) ــ ومن طريقه الثعلبي في «تفسيره» (2/ 378) والبيهقي في «الشعب» (4085) والبغوي في «شرح السنة» (1271) ــ عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو. رجاله ثقات، لكنه منقطع بين قتادة وابن عمرو.
فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه، وهو المحمود عليها كما هو محمودٌ على إحسانه وعدله، والشُّكر يكون على الإحسان والنِّعم. فكلُّ ما يتعلَّق به الشُّكر يتعلَّق به الحمدُ من غير عكسٍ. وكلُّ ما يقع به الحمد يقع به الشُّكر من غير عكسٍ، فإنَّ الشُّكر يقع بالجوارح، والحمد بالقلب واللِّسان.
فصل
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(1)
: (الشُّكر اسمٌ لمعرفة النِّعمة، لأنَّها السبيل إلى معرفة المنعم. ولهذا سمَّى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن شكرًا).
معرفة النِّعمة ركنٌ من أركان الشُّكر، لا أنَّها جملة الشُّكر، كما تقدَّم: أنَّه الاعتراف بها، والثناء عليه بها، والخضوع له ومحبَّته، والعمل بما يرضيه فيها. لكن لمَّا كان معرفتها ركنَ الشُّكرِ الأعظمَ الذي يستحيل وجود الشُّكر بدونه= جعل أحدَهما اسمًا للآخر.
قوله: (لأنَّها السبيل إلى معرفة المنعم)، يعني: أنَّه إذا عرف النِّعمة توصَّل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها. وهذا من جهة معرفة كونها نعمةً، لا من أيِّ جهةٍ عرفها بها. ومتى عرف المُنعم أحبَّه وجدَّ في طلبه، فإنَّ من عرف الله أحبَّه لا محالة، ومن عرف الدُّنيا أبغضها لا محالة.
وعلى هذا يكون قوله: (الشُّكر اسم لمعرفة النِّعمة) مستلزمًا لمعرفة المنعم، ومعرفته تستلزم محبَّته، ومحبَّته تستلزم شكره. فيكون قد ذكر بعض
(1)
(ص 41).
أقسام الشُّكر باللفظ، ونبَّه على سائرها باللُّزوم. وهذا من حُسن
(1)
اختصاره وكمال معرفته وتصوُّره، قدَّس الله روحه.
قال
(2)
: (ومعاني الشُّكر ثلاثة أشياء: معرفة النِّعمة، ثمَّ قبول النِّعمة، ثمَّ الثناء بها. وهو أيضًا من سبل العامَّة).
أمَّا معرفتها فهو إحضارها في الذِّهن ومشاهدتها وتمييزها. فمعرفتها: تحصيلها ذهنًا كما حصلت له خارجًا، إذ كثيرٌ من الناس يُحسَن إليه وهو لا يدري، فلا يصحُّ من هذا الشكرُ.
قوله: (ثمَّ قبول النِّعمة)، قبولها
(3)
هو تلقِّيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها، وأنَّ وصولها إليه بغير استحقاقٍ منه ولا بذل ثمنٍ، بل يرى نفسه فيها كالطُّفيليِّ، فإنَّ هذا شاهدٌ بقبولها حقيقةً.
قوله: (ثمَّ الثناء بها)، الثناء على المنعم المتعلِّقُ بالنِّعمة نوعان: عامٌّ وخاصٌّ. فالعامُّ: وصفه بالجود والكرم، والبرِّ والإحسان، وسعة العطاء، ونحو ذلك. والخاصُّ: التّحدُّث بنعمته، والإخبارُ بوصولها إليه من جهته، كما قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].
وفي هذا التحديث المأمور به قولان:
أحدهما: أنّه ذكر النِّعمة والإخبارُ بها وقولُه: أنعم الله عليَّ بكذا وكذا.
(1)
في النسخ عدا الأصل، ل:«أحسن» .
(2)
(ص 41).
(3)
ش: «قبول النعمة» .
قال مقاتلٌ
(1)
: يعني اشكر ما ذُكِر من النِّعم عليك في هذه السُّورة مِن: جبر اليتم، والهدى بعد الضَّلالة، والإغناء بعد العيلة.
والتحدُّث بنعمة الله شكرٌ، كما في حديث جابرٍ مرفوعًا:«من صُنع إليه معروفٌ فليَجزِ به، فإن لم يجد ما يجزي فليُثنِ عليه، فإنَّه إذا أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلَّى بما لم يُعطَ كان كلابس ثوبَي زورٍ»
(2)
.
فذكر أقسام الخلق الثلاثة: شاكر النِّعمة المثني بها. والجاحد لها الكاتم لها. والمظهر أنَّه من أهلها وليس من أهلها، فهو متحلٍّ بما لم يُعطَه.
وفي أثرٍ آخر مرفوعٍ: «من لم يشكرِ القليلَ لم يشكرِ الكثير، ومن لم يشكرِ الناس لم يشكرِ الله، والتحدُّث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمةٌ
(1)
ابن سليمان في «تفسيره» (3/ 495). والمؤلف صادر عن «المعالم» للبغوي (4/ 458).
(2)
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (215) وأبو داود (4813) والترمذي (2034) وابن حبان (3415) والبغوي في «المعالم» (8/ 459) ــ واللفظ له ــ من حديث شُرَحبيل بن سعد عن جابر. وشُرحبيل ضعيف، ووقع في رواية الترمذي مكانه «أبو الزبير» ، وهو خطأ من أحد الرواة. وله طريق أخرى عن جابر عند أبي داود (4814) بلفظ:«مَن أُبلي بلاءً فذكره فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره» ، وإسناده جيِّد.
ولأول الحديث شاهد من حديث ابن عمر عند أحمد (5365) وأبي داود (1672) والنسائي (2567) والروياني (1419) وابن حبان (3408) والبيهقي (4/ 199) وغيرهم بإسناد صحيح، وفي عامَّة رواياته الأمر بالدعاء له ــ بدل الثناء عليه ــ عند عدم وجود ما يكافئه به. ولآخر الحديث شاهد من حديث أسماء عند البخاري (5219) ومسلم (2130).
والفرقة عذاب»
(1)
.
والقول الثاني: التحدُّث بالنِّعمة المأمور به في هذه الآية هو الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالته، وتعليم الأمَّة. قال مجاهدٌ: هي النبوَّة. قال الزجَّاج: أي بلِّغ ما أُرسلتَ به، وحدِّث بالنبوَّة التي آتاك الله. وقال الكلبيُّ: هو القرآن، أمره أن يقرأه
(2)
.
والصواب أنَّه يعمُّ النّوعين، إذ كلٌّ منهما نعمةٌ مأمورٌ بشكرها والتحدُّثِ بها، وإظهارُها من شكرها.
قوله: (وهو أيضًا من سبل العامَّة)، يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل وجَعْلِ نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبيل.
بل الشُّكر سبيل رسل الله وأنبيائه وأخصِّ خلقه وأقربهم إليه. ويا عجبًا، أيُّ مقامٍ أرفع من الشُّكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان، حتى المحبَّة والرِّضا والتوكُّل وغيرها؟! فإنّ الشُّكر لا يصحُّ إلا بعد حصولها. وتالله ليس لخواصِّ الله وأهلِ القُرب منه سبيلٌ أرفع من الشُّكر ولا أعلى.
ولكن الشيخ وأصحاب الفناء كلَّهم يرون أن فوق هذا مقامًا أجلَّ منه
(1)
أخرجه عبد الله في زوائد «مسند أبيه» (18449) والبزار (3282) والطبراني في «الكبير» (21/ 84، 85) والثعلبي في «الكشف والبيان» (29/ 518) ــ ومن طريقه البغوي في «المعالم» (8/ 459) والمؤلف صادر عنه ــ والبيهقي في «الشعب» (8698) من حديث النعمان بن بشير بإسناد حسن غريب. انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (9/ 51) و «الجرح والتعديل» (9/ 403).
(2)
النقل من «معالم التنزيل» (8/ 458). وقول مجاهد أسنده الطبري (24/ 490). وقول الزجاج في «معانيه» (5/ 340).
وأعلى، لأنَّ الشُّكر يتضمَّن نوع دعوى، وأنَّه شكر الحقِّ على إنعامه، ففي الشاكر بقيَّةٌ من بقايا رسمه لم يفنَ عنها
(1)
. فلو فني عنها بتحقُّقه أنَّ الحقَّ سبحانه هو الذي شكر نفسه بنفسه، وأنَّ من لم يكن كيف يشكر من لم يزل= علم أنَّ الشُّكر من منازل العامَّة.
ولو أنَّ السُّلطان كسا عبدًا من عبيده ثوبًا من ثيابه، فأخذ يشكر السُّلطان على ذلك= لعُدَّ مخطئًا، مسيئًا للأدب، فإنَّه مدَّعٍ بذلك مكافأة السُّلطان بشكره، فإنَّ الشُّكر مكافأةٌ، والعبد أصغر قدرًا من المكافأة. والشُّهود للحقيقة يقتضي اتِّحادَ
(2)
نسبة الأخذ والعطاء، ورجوعَها إلى وصف المعطي وحوله وقوَّته، فالخاصَّة يسقط عندهم الشُّكر بالشُّهود، وفي حقِّهم ما هو أعلى منه.
هذا غايةُ تقرير كلامهم، وكسوتُه أحسن عبارةٍ لئلَّا يُتعدَّى
(3)
عليهم بسوء التعبير الموجِب للتنفير. ونحن معنا العصمة النافعة: أنَّ كلَّ أحدٍ غير المعصوم فمأخوذٌ من قوله ومتروك، وكلُّ سبيلٍ لم يوافق سبيله فمهجورٌ غير مسلوكٍ.
فأمَّا تضمُّن الشُّكر لنوع دعوى، فإن أريد بهذه الدعوى إضافته
(4)
الفعلَ إلى نفسه، وأنَّه كان به، وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوَّته ومنَّته على عبده= فلعمر الله هذه علَّة مؤثرة ودعوى كاذبة.
(1)
ع: «لم يتخلص عنها ويفرُغ منها» .
(2)
ش: «إيجاد» ، خطأ.
(3)
هذا مقتضى النقط في ل، ش. والسياق يحتمل:«نَتعدَّى» .
(4)
ع: «إضافة العبد» .
وإن أريد أنَّ شهوده لشكره شهودٌ لنعمة الله عليه به، وتوفيقه له فيه، وإذنه له به
(1)
ومشيئته، ومنَّته عليه، فشهد عبوديَّته وقيامَه بها وكونَها بالله= فأيُّ دعوى في هذا؟ وأيُّ علَّةٍ؟
نعم، غايته أنَّه لا يجامع الفناء
(2)
، فكان ماذا؟! أنتم جعلتم الفناء غايةً، فأوجب لكم ما أوجب، وقدَّمتموه على ما قدَّمه الله ورسوله، فتضمَّن ذلك تقديم ما أخَّر، وتأخير ما قدَّم. وإلغاء ما اعتبر، واعتبار ما ألغى. ولولا منَّة الله على الصادقين منكم بتحكيم الرِّسالة والتقيُّد بالشرع لكان أمرًا غير هذا، كما جرى لغير واحدٍ من السالكين على هذه الطريق الخطرة، فلا إله إلَّا الله، كم بها
(3)
من قتيلٍ وسليبٍ، وجريحٍ وأسيرٍ
(4)
!
وأمَّا أنَّ
(5)
الشاكر فيه بقيَّةٌ من بقايا رسمه، فيقال: إذا كانت هذه البقيَّة محضَ العبوديَّة ومَرْكبَها والحاملةَ لها، فأيُّ نقصٍ في هذا؟ فإنَّ العبوديَّة لا تقوم بنفسها، وإنَّما تقوم بهذا الرسم، فلا نقصَ في حمل العبوديَّة عليه والسَّير به إلى الله.
نعم، النقص كلُّ النقص: حملُ الشهوة
(6)
والحظِّ المخالف لمراد الربِّ
(1)
ع: «وإرادته» مكان «وإذنه له به» .
(2)
زاد في ع: «ولا يخوض تيَّاره» .
(3)
ع: «فيها» .
(4)
زاد في ع: «وطريد» .
(5)
ع: «وأما قولكم: إن» .
(6)
ع: «حمل النفس والشهوة» .
تعالى الدينيِّ
(1)
على هذا الرسم والسَّير به إلى النفس. ولعلَّ العامل على الفناء بهذه المثابة، وهو ملبوس عليه؛ فالعارف يستقصي التفتيش عن كمائن النفس.
وأمَّا قولكم: كيف يشكر من لم يكن من لم يزل؟ فهذا بالشَّطح أليق منه بالمعرفة، فإنَّ من لم يزل إذا أَمَر من لم يكن بالشكر، ورضيه منه وأحبَّه، وأثنى عليه به، واستدعاه واقتضاه منه، وأوجب له به المزيد، وأضافه إليه، واشتقَّ له منه الاسم، وأوقع عليه به الحكم، وأخبر أنَّه غاية رضاه منه، وأمره مع ذلك أن يشهد أنَّ شكره به وبإذنه ومشيئته وتوفيقه= فهذا شكر من لم يكن لمن لم يزل، وهو محض العبوديَّة.
وأمَّا ضرب مثل كسوة السُّلطان لعبده وأخذِه في الشُّكر له مكافأةً، فهذا من أبطل الأمثلة عقلًا ونقلًا وفطرةً، وهو الحجاب الذي أوجب لمن قال:(إنَّ شكر المنعم لا يجب عقلًا) ما قال، حتَّى زعم أنَّ شكره قبيحٌ عقلًا ولولا الشرع لما حَسُن الإقدام عليه، وضَرَب هذا المثل الذي ضربتموه بعينه
(2)
.
وهذا من القياس الفاسد المتضمِّنِ قياسَ الخالق على المخلوق. وبمثله عُبدت الشمس والقمر والأوثان
(3)
، إذ قال المشركون: جناب العظيم لا يُهجَم عليه بغير وسائل ووسائط. وسرت هاتان الرقيقتان فيمن فسد من أهل التعبُّد وأهل النظر والبحث، والمعصومُ من عصمه الله.
(1)
ش: «الذي بني» ، تحريف.
(2)
كأنه يشير إلى الآمدي. انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 90).
(3)
وفي ذلك يقول ابن سيرين: «أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس» . أخرجه ابن أبي شيبة (36956) والدارمي (195).
فيقال: الفرق من وجوهٍ كثيرةٍ جدًّا تفوت الحصر.
منها: أنَّ الملك محتاجٌ فقيرٌ إلى من أنعم عليه، لا يقوم ملكه إلَّا به، فهو محتاجٌ إلى معاوضته بتلك الكسوة ــ مثلًا ــ خدمةً له، وحفظًا له، وذبًّا عنه، وسعيًا في تحصيل مصالحه، فكسوته له من باب المعاوضة والمعاونة، فإذا أخذ في شكره فكأنَّه جعل ذلك ثمنًا لنعمته وليس بثمنٍ لها.
وأمَّا إنعام الربِّ على عبده فإحسانٌ إليه وتفضُّلٌ عليه، ومجرَّد امتنانٍ، لا لحاجةٍ منه إليه، ولا لمعاوضةٍ، ولا لاستعانةٍ به، ولا يتكثَّر
(1)
به من قلَّةٍ، ولا يتعزَّز به من ذلَّةٍ، ولا يتقوَّى به من ضعفٍ؛ سبحانه وبحمده.
وأمرُه له بالشُّكر أيضًا: إنعامٌ آخر عليه، وإحسانٌ منه إليه، إذ منفعة الشُّكر ترجع إلى العبد
(2)
لا إلى الله، والعبد هو الذي ينتفع بشكره، كما قال تعالى:{شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ} [النمل: 40]، فشكره
(3)
إحسانٌ منه إلى نفسه، فلا يُذَمُّ ما أتى به من ذلك وإن كان لا يحسن مقابلة المنعم به
(4)
، فإنَّه إنّما هو محسنٌ إلى نفسه بالشُّكر، لا أنّه مكافئٌ به لنعم الربِّ، فالربُّ لا يكافئ أحدٌ
(5)
نعمه أبدًا، ولا أقلَّها
(6)
؛ فالله أحسَنَ إلى عبده بنعمه،
(1)
ع: «ليتكثَّر» ، وكذا الأفعال الآتية.
(2)
زاد في ع: «دنيا وآخرةً» .
(3)
ع: «فشكر العبد» .
(4)
زاد في ع: «ولا يستطيع شكره» .
(5)
ع: «فالرب تعالى لا يستطيع أحدٌ أن يكافئ» .
(6)
زاد في ع: «ولا أدنى نعمةً من نعمه، فإنه تعالى هو المنعم المتفضل الخالق للشكر والشاكر وما يشكر عليه، فلا يستطيع أحدٌ أن يحصي ثناءً عليه، فإنه هو المحسن إلى عبده
…
».
وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها، فشكرُه نعمةٌ منه
(1)
تحتاج إلى شكرٍ آخر، وهلمَّ جرًّا.
ومن تمام نعمته سبحانه وعظيم برِّه وكرمه وجوده: محبَّته له على هذا الشُّكر، ورضاه منه به، وثناؤه عليه به؛ ومنفعتُه وعائدته
(2)
مختصَّةٌ بالعبد، لا تعود منفعته على الله. وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه، يُنعم عليك ثمَّ يُوزعك شكر النِّعمة ويرضى عنك بذلك، ثمَّ يعيد إليك منفعة شكرك ويجعله سببًا لك لاتصال نعمه والزِّيادة منها
(3)
.
وهذا الوجه وحده يكفي
(4)
، وبه يتنبَّه اللبيب على ما بعده.
وأمَّا كون الشُّهود يسقط الشُّكر، فلعَمْر الله إنَّه إسقاطٌ لحقِّ المشكور بحظِّ المشاهد. نعم، بحظٍّ عظيمٍ متعلِّقٍ بالحقِّ عز وجل، لا حظٍّ سفليٍّ متعلِّقٍ بالكائنات، ولكنَّ صاحبه قد سار من حرمٍ إلى حرمٍ.
وكان يقع لي هذا القدر منذ زمانٍ، ولا أتجاسر على التصريح به، لأنَّ أصحابه يرون مَن ذاكرهم به بعين الفرق الأوَّل، فلا يُصغون إليهم البتَّة، لا سيَّما وقد ذاقوا حلاوته ولذَّته، ورأوا تخبيط أهل الفرق الأوَّل وتلوُّثَهم بنفوسهم وعوالمها، وانضاف إلى ذلك أن جعلوه غايةً، فتركَّب من هذه الأمور ما تركَّب. وإذا لاحت الحقائق فليقل القائل ما شاء.
(1)
ع: «نعمةٌ من الله أنعم بها عليه» .
(2)
ج، ن:«فائدته» .
(3)
السياق في ع: «سببًا لتوالي نعمه واتصالها إليك والزيادة على ذلك منها» .
(4)
زاد في ع: «اللبيب» هنا، وحذفه من الجملة الآتية.