الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به. وله متعلَّقان، أحدهما: نفس المكروه المحذورِ وقوعُه، والثاني: السبب والطريق المفضي إليه؛ فعلى قدر شعوره بإفضاء السبب إلى المَخُوف وبقدر المخوف يكون خوفُه. وما نقص من شعوره بأحد هذين نقص من خوفه بحسبه، فمن لم يعتقد أن سبب كذا يفضي إلى محذور كذا لم يخَفْ من ذلك السبب، ومن اعتقد أنَّه يفضي إلى مكروهٍ ما ولم يعرف قدرَه لم يخَفْ منه ذلك الخوف، فإذا عرف قدر المَخُوف وتيقَّن إفضاءَ السبب حصل له الخوف. هذا معنى تولُّده من تصديق الوعيد وذِكر الجناية ومراقبة العاقبة.
وفي مراقبة العاقبة زيادةُ استحضار المخوف وجعلُه نُصْبَ عينه بحيث لا ينساه، فإنَّه وإن كان عالمًا به لكنَّ نسيانَه وعدمَ مراقبته يحول بين القلب
(1)
وبين الخوف، فلذلك كان الخوف علامة صحَّة الإيمان، وترحُّلُه من القلب علامة ترحُّل الإيمان منه.
فصل
قال
(2)
:
(الدرجة الثانية: خوف المكر
في جريان الأنفاس المستغرقة في اليقظة المشوبةِ بالحلاوة).
يريد أنّ من حصلت له اليقظة بلا غفلةٍ، واستغرقت أنفاسه فيها، واستحلى ذلك فإنَّه لا أحلى من الحضور في اليقظة= فإنَّه ينبغي أن يخاف المكر وأن يُسلَب هذا الحضور واليقظة والحلاوة، فكم من مغبوطٍ بحاله انعكس عليه الحال، ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال، فأصبح
(1)
في النسخ عدا الأصل، ش، ع زيادة:«منه» .
(2)
«منازل السائرين» (ص 20).
يقلِّب كفّيه ويضرب باليمين على الشِّمال! بينما بَدْرُ أحوالِه مستنيرًا في ليالي التَّمام، إذ أصابه الكسوف فدخل في الظَّلام، فبُدِّل بالأنس وحشةً، وبالحضور غيبةً، وبالإقبال إعراضًا، وبالتقريب إبعادًا، وبالجمع تفرقةً، كما قيل
(1)
:
أحسنت ظنَّك بالأيَّام إذ حسنت
…
ولم تخَفْ سوءَ ما يأتي به القدرُ
وسالمتْك اللَّيالي فاغتررتَ بها
…
وعند صفو اللّيالي يَحدُث الكدرُ
قال
(2)
(3)
: (وليس في مقام أهل الخصوص وحشة الخوف، إلا هيبة الجلال، وهي أقصى درجةٍ يشار إليها في غاية الخوف).
يعني: أنَّ وحشة الخوف إنّما تكون مع الانقطاع والإساءة، وأهلُ الخصوص أهل وصولٍ إلى الله تعالى وقربٍ منه، فليس خوفهم خوفَ وحشةٍ كخوف المسيئين المنقطعين، لأنَّ الله عز وجل معهم بصفة الإقبال عليهم والمحبّة لهم.
وهذا بخلاف هيبة الجلال، فإنَّها متعلِّقةٌ بذاته وصفاته، وكلَّما كان عبدُه به أعرفَ وإليه أقربَ كانت هيبةُ جلالِه
(4)
في قلبه أعظم، وهي أعلى من درجة خوف العامَّة.
(1)
هما للشافعي في «الانتقاء» لابن عبد البر (ص 101)، ولسعيد بن حميد في «الزَّهرة» (ص 806). وذكر القشيري (ص 355) أنه سمع أبا علي الدقَّاق ينشدهما كثيرًا.
(2)
«منازل السائرين» (ص 20).
(3)
ع: «الدرجة الثالثة قوله» . ولم يعَنْوِن صاحب «المنازل» للدرجة الثالثة.
(4)
ع: «هيبته وإجلاله» .
قال
(1)
: (وهي هيبةٌ تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصون المسامر
(2)
أحيان المسامرة، وتفصم المعاين بصدمة العزَّة).
يعني: أنَّ أكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة، وهي وقت تملُّق العبد ربَّه، وتضرُّعِه بين يديه واستعطافه والثَّناء عليه بآلائه وأسمائه وأوصافه، أو مناجاته بكلامه، هذا هو مراد القوم بالمناجاة.
وهذه المناجاة توجب كشف الغطاء بين القلب وبين الربِّ، ورفع الحجاب المانع من مكافحة القلب لأنوار أسمائه وصفاته، وتجلِّيها عليه، فتعارضه الهيبة في خلال هذه الأوقات، فتقبض مِن عَنان مناجاته بحسب قوَّة واردها.
وأمّا صون المسامر
(3)
أحيان المسامرة: فالمسامرة عندهم أخصُّ من المناجاة، وهي مخاطبة القلب للربِّ خطابَ المحبِّ لمحبوبه، فإن لم تقارنها هيبة جلاله، أخذت به في نوع
(4)
الانبساط والإدلال، فتجيء الهيبة صائنةً للمسامر في مسامرته من انخلاعه من أدب العبوديَّة.
وأمّا فصمها المعاين بصدمة العزَّة، فإنَّ الفصم: القطع، أي تكاد تقتله وتمحقه بصدمة عزَّة الربوبية بمعانيها الثلاثة، وهي: عزَّة الامتناع، وعزَّة القوَّة والشدَّة، وعزَّة السُّلطان والقهر، فإذا صدمت المعاين كادت تفصمه وتمحق أثره، إذ لا يقوم لعزَّة الربوبية شيء.
(1)
«منازل السائرين» (ص 20).
(2)
ل، ج، ن:«المشاهد» ، وكذا في «المنازل» وشروحه.
(3)
في ل غُيِّر إلى «المشاهد» ليوافق متن «المنازل» .
(4)
«نوع» ساقط من ع.
فصل
القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبّة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطَّير جيِّد الطّيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى عدم الجناحان فهو عرضةٌ لكلِّ صائدٍ وكاسرٍ، ولكنَّ السلف استحبُّوا أن يقوى في الصِّحة جناحُ الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدُّنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف. هذه طريقة أبي سليمان وغيره، قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإنه إذا كان الغالب عليه الرجاء فسد
(1)
.
وقال غيره: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوفِ وغلبةُ الحبِّ، فالمحبَّة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنِّه وكرمه.
* * * *
(1)
ذكره القشيري (ص 354).