الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال
(1)
: (و
اعتصام خاصَّة الخاصَّة:
بالاتِّصال، وهو شهود الحقِّ تفريدًا، بعد الاستحذاء
(2)
له تعظيمًا، والاشتغالُ به قربًا).
لمّا كان ذلك الانقطاع موصلًا إلى هذا الاتِّصال كان ذلك للمتوسِّطين، وهذا عنده لأهل الوصول.
ويعني بـ (شهود الحقِّ تفريدًا) أن يشهد الحقَّ سبحانه وحده منفردًا، ولا شيء معه، وذلك لفناء الشاهد في المشهود، والحوالة في ذلك عند القوم على الكشف. وقد تقدَّم
(3)
أنَّ هذا ليس بكمالٍ، وأنَّ الكمال أن يفنى بمراده عن مراد نفسه، وأمّا فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه فدون
(4)
هذا الفناء في الرُّتبة كما تقدَّم.
وأمَّا قوله: (بعد الاستحذاء له تعظيمًا)، فالشيخ رحمه الله لكثرة لهجه بالاستعارات عبَّر عن معنًى لطيفٍ عظيمٍ بلفظة الاستحذاء التي هي استفعالٌ من المحاذاة، وهي المقابلة التي لا يبقى فيها جزء من المُحاذي خارجًا عمَّا حاذاه، بل قد واجهه وقابله بكلِّيَّته وجميع أجزائه.
(1)
«منازل السائرين» (ص 16).
(2)
بالحاء المهملة كما سيأتي في شرح المؤلف، وهو تبعٌ فيه لـ «شرح التلمساني» (ص 98). والذي في مطبوعة «المنازل»:(الاستخذاء) بالخاء المعجمة، وذكر القاساني في «شرحه» (ص 82) أنه هكذا في النسخة المقروءة على الشيخ. والاستخذاء هو التذلُّل والخضوع والانقياد. انظر:«تاج العروس» (خذأ، خذي).
(3)
(1/ 255) وما بعدها.
(4)
كذا في ع، وهو غير محرَّر في الأصل، يشبه:«فلأن» ، وإليه تصحَّف في سائر النسخ.
ومراده بذلك: القرب وارتفاع الوسائط المانعة منه. ولا ريب أنَّ العبد يَقرُب من ربِّه، والربُّ يقرُب من عبده، فأمَّا قرب العبد فكقوله تعالى:{تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وكقوله في الأثر الإلهيِّ:«من تقرَّب منِّي شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا»
(1)
(2)
.
وفي الحديث الصحيح: «أقرب ما يكون الربُّ من عبده في جوف اللَّيل الأخير
(3)
»
(4)
.
وفي الحديث أيضًا: «أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ»
(5)
.
وفي الحديث الصحيح لمَّا ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السّفر فقال: «يا أيُّها النّاس، ارْبَعُوا على أنفسكم، إنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا
(1)
أخرجه البخاري (7405) ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم (2687) أيضًا من حديث أبي ذر، وهذا لفظه.
(2)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة دون قوله: «فبي يسمع
…
» إلخ، فإنه لم يُروَ مسندًا كما سبق بيانه (1/ 408).
(3)
م، ش:«الآخر» ، وهو لفظ مصادر التخريج.
(4)
أخرجه الترمذي (3579) والنسائي (572) وابن خزيمة (1147) والحاكم (1/ 309) من حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السُّلَمي. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(5)
أخرجه مسلم (482) من حديث أبي هريرة.
غائبًا، إنَّ الذي
(1)
تدعونه سميع قريب، أقرب
(2)
إلى أحدكم من عنق راحلته»
(3)
.
فعبَّر الشيخ رحمه الله عن طلب القرب منه، ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تَقَرُّ عيون عابديه وأوليائه إلَّا به= بالاستحذاء. وحقيقته: موافاة العبد إلى حضرته وقدَّامه وبين يديه، عكس حال من نبذه وراءه ظِهريًّا وأعرض عنه ونأى بجانبه، بمنزلة من ولَّى المطاعَ ظهره ومال بشقِّه عنه.
وهذا أمر لا يدرَك معناه إلَّا بوجوده وذوقه، وأحسن ما يعبَّر عنه بالعبارة النبويَّة المحمديَّة، وأقرب عبارات القوم عنه: أنَّه التقرُّب
(4)
برفع الوسائط التي بارتفاعها يحصل للعبد
(5)
حقيقة التعظيم، فلذلك قال:(الاستحذاء له تعظيمًا).
ومن أراد فهم هذا كما ينبغي فعليه بفهم اسمه تعالى «الباطن» وفهم اسمه «القريب» مع امتلاء القلب بحبِّه ولهج اللِّسان بذكره، ومن هاهنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمِّرًا إليه عاملًا عليه.
فإن كان مشمِّرًا إلى الفناء المتوسِّط، وهو الفناء عن شهود السِّوى، لم
(1)
غير محرَّر الرسم في الأصل، فتصحَّف في ل، م إلى:«الذين» .
(2)
«أقرب» ساقط من ل.
(3)
أخرجه أحمد (19599) ــ واللفظ به أشبه ــ والبخاري (2992) ومسلم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري.
(4)
ع: «التقريب» .
(5)
كذا في ع، وتصحَّف في سائر النسخ إلى:«ويعبد» .
يبق في قلبه شهودٌ لغيره البتَّة، بل تضمحلُّ الرُّسوم وتفنى الإشارات، ويفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل. وفي هذا المقام يجيب داعي الفناء طوعًا ورغبةً لا كرهًا، لأنَّ هذا المقام امتزج فيه الحبُّ بالتّعظيم مع القرب، وهو منتهى سفر الطالبين لمقام الفناء.
وإن كان
(1)
مشمِّرًا للفناء العالي، وهو الفناء عن إرادة السِّوى، لم يبق في قلبه مرادٌ يزاحم مرادَه الدينيَّ الشرعيَّ النبويَّ القرآنيَّ، بل يتَّحد المرادان فيصير عينُ مراد الربِّ عينَ
(2)
مراد العبد، وهذا حقيقة المحبَّة الخالصة، وفيها يكون الاتِّحاد الصحيح، وهو الاتِّحاد في المراد، لا في المريد ولا في الإرادة.
فتدبَّر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلَّت فيه أقدام السالكين، وضلَّت فيه أفهام الواجدين.
وفي هذا المقام حقيقةٌ: يفنى من لم يكن إرادةً
(3)
وإيثارًا، ومحبَّةً وتعظيمًا، وخوفًا ورجاءً وتوكُّلًا، ويبقى من لم يزل. وفيه ترتفع الوسائط بين الرّبِّ والعبد حقيقةً، ويحصل له الاستحذاء المذكور مقرونًا بغاية الحبِّ وغاية التعظيم.
وفي هذا المقام يجيب داعيَ الفناء في المحبَّة طوعًا واختيارًا لا كرهًا، بل ينجذب إليه انجذاب قلب المحبِّ وروحه ــ الذي قد ملأت المحبَّةُ قلبَه
(1)
في ع زيادة: «هذا» .
(2)
ع: «هو عين» . ل، ش:«وعين» ، خطأ.
(3)
بيان للفناء، وليس خبرًا لـ «يكن» لأنها تامَّة، أي: من لم يوجد.
بحيث لم يبق فيه جزءٌ فارغٌ منها ــ إلى محبوبه الذي هو أكمل محبوبٍ وأجمله
(1)
وأحقُّه بالحبِّ. وهذا
(2)
أوجبه الحبُّ الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب، ومحوُ ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبقَ في القلب إلا المحبوب ومراده. وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله، والله المستعان.
وأمّا قوله: (والاشتغال به قربًا)، أي يَشْغَله قرب الحقِّ عن كلِّ ما سواه، وهذا حقيقة القرب، ألا ترى أنّ القريب من السُّلطان جدًّا المقبلُ عليه المكلِّمُ له لا يشتغل بشيءٍ سواه البتَّة؟ فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به.
* * * *
(1)
م: «أجلُّه» . وكذا في طبعة الفقي.
(2)
في ع زيادة: «الفناء» .