الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الصِّدق
. وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي مَن لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطعين الهالكين.
وبه تميَّز أهل النِّفاق من أهل الإيمان، وسكَّان الجنان من أهل النِّيران. وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيءٍ إلَّا قطعه، ولا واجه باطلًا إلَّا أرداه وصرعه. من صال به لم تردَّ صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته. فهو روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي منه دخل الواصلون إلى حضرة ذي الجلال.
وهو أساس بناء الدِّين، وعمود فسطاط اليقين. ودرجته تاليةٌ لدرجة النُّبوَّة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنان تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصِّدِّيقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مددٌ متَّصلٌ ومعينٌ.
وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ المُنعَم عليهم بالنبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصالحين، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} ، فهم أهل الرفيق الأعلى، {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
ولا يزال الله يمدُّهم بنعمه وألطافه ومزيده إحسانًا منه وتوفيقًا، ولهم مزيَّة المعيَّة مع الله، فإنَّ الله مع الصادقين. ولهم منزلة القرب منه، إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيِّين.
وأخبر تعالى أنَّ من صدَقَه فهو خيرٌ له، فقال:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا} [محمد: 21].
وأخبر تعالى عن أهل البرِّ ــ وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام والصدقة والصَّبر ــ بأنَّهم أهل الصِّدق، فقال:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وهذا صريحٌ في أنَّ الصِّدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأنَّ الصِّدق هو مقام الإسلام والإيمان.
وقَسَم سبحانه الناسَ إلى صادقٍ ومنافقٍ، فقال:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24].
والإيمان أساسه الصِّدق، والنِّفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذبٌ وإيمانٌ إلَّا وأحدهما محاربٌ الآخرَ.
وأخبر سبحانه أنَّه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلَّا صدقُه، قال الله تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]، وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا} [الزمر: 33 - 35]، فالذي جاء بالصِّدق هو مَن شأنه الصِّدق في قوله وعمله وحاله، فالصِّدق: في هذه الثلاثة.
فالصِّدق في الأقوال: استواء اللِّسان على الأقوال، كاستواء السُّنبلة على ساقها. والصِّدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرأس على الجسد. والصِّدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغُ الوسع وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصِّدق. وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صدِّيقيَّته، ولذلك كان لأبي بكرٍ الصِّدِّيق ذروةُ سنام الصدِّيقيَّة حتى سمِّي «الصِّدِّيق» على الإطلاق. والصدِّيق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق.
فأعلى مراتب الصِّدق: مرتبة الصدِّيقيَّة، وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمُرسِل.
وقد أمر الله سبحانه رسوله أن يسأله أن يجعل مَدْخَله ومَخْرَجه
(1)
على الصِّدق، فقال:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80].
وأخبر عن خليله إبراهيم ــ عليه السلام ــ أنَّه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الناس
(2)
، فقال:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
(1)
أي: دخوله وخروجه، ويمكن ضبطه:«مُدْخَله ومُخْرجَه» كما في الآية، أي: إدخاله وإخراجه.
(2)
ع: «في الآخرين» .
وبشَّر عباده أنَّ لهم عنده قدم صدقٍ ومقعد صدقٍ، فقال تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، وقال:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 54 - 55].
فهذه خمسة أشياء: مدخل الصِّدق، ومخرج الصِّدق، ولسان الصِّدق، وقدم الصِّدق، ومقعد الصِّدق.
وحقيقة الصِّدق في هذه الأشياء: هو الحقُّ الثابت، المتَّصل بالله، الموصل إلى الله. وهو ما كان به وله، من الأعمال والأقوال. وجزاء ذلك في الدُّنيا والآخرة.
فمدخل الصِّدق ومخرج الصِّدق: أن يكون دخوله وخروجه حقًّا ثابتًا بالله وفي مرضاته، متَّصلًا بالظفر بالبغية وحصول المطلوب، ضدُّ مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساقٌ ثابتةٌ يقوم عليها، كمخرج أعدائه يوم بدرٍ، ومخرجُ الصِّدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة.
وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدقٍ بالله ولله وابتغاء مرضاة الله، فاتَّصل به التأييدُ والظفر والنصر وإدراكُ ما طلبه في الدُّنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنَّه لم يكن بالله ولا لله، بل محادَّةً لله ورسوله، فلم يتَّصل به إلَّا الخذلان والبوار.
وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصن بني قريظة، فإنَّه لمَّا كان مدخل كذبٍ أصابه معهم ما أصابهم
(1)
.
(1)
كذا العبارة في النسخ إلا أن «معهم» ساقطة من ع. ولعل صوابها: «أصابهم معه ما أصابهم» أو «أصابهم ما أصابهم» .
فكلُّ مَدخلٍ ومَخرجٍ كان بالله ولله، وصاحبه ضامنٌ على الله= فهو مدخل صدقٍ، ومَخرج صدقٍ.
وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء، وقال:«اللهمَّ إنِّي أعوذ بك أن أَخرُج مَخرجًا لا أكون فيه ضامنًا عليك»
(1)
، يريد: أن لا يكون المخرج مخرج صدقٍ.
ولذلك فُسِّر مدخل الصدق ومخرجه
(2)
: بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكَّة ودخوله المدينة. ولا ريب أنّ هذا على سبيل التمثيل، فإنَّ هذا المدخل والمخرج من أجلِّ مداخله ومخارجه صلى الله عليه وسلم، وإلَّا فمداخله ومخارجه كلُّها مداخل صدقٍ ومخارج صدقٍ، إذ هي بالله ولله، وبأمره ولابتغاء مرضاته.
وما خرج أحدٌ من بيته ودخل سوقه أو مدخلًا آخر إلَّا بصدقٍ أو كذب، فمخرج كلِّ أحدٍ ومدخله لا يعدو الصِّدق والكذب. والله المستعان.
وأمَّا لسان الصِّدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصِّدق، ليس ثناءً بالكذب، كما قال عن أنبيائه ورسله
(3)
: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ
(1)
لم أجده، وفي الباب ما رواه ابن المبارك في «الزهد» (18 ــ رواية أبي نعيم) وعبد الرزاق في «الأمالي» (200) ــ ومن طريقه أحمد في «الزهد» (ص 221) ــ عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: قيل لأبي هريرة: ألا تركب فتلقى معاوية؟ فقال: «إنى لأكره أن أركب مركبًا لا أكون فيه ضامنًا على الله» . وهو منقطع بين يحيى وأبي هريرة.
(2)
أي في آية الإسراء التي سبقت.
(3)
عَلِيًّا} [مريم: 50]. والمراد باللِّسان هاهنا: الثناء الحسن، فلمَّا كان
(1)
باللِّسان وهو محلُّه عَبَّر به عنه
(2)
. فإنَّ اللِّسان يراد به ثلاثة معانٍ: هذا، واللُّغة كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، وقوله:{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، وقوله:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16].
وأمَّا قدم الصِّدق: ففسِّر بالجنَّة، وفسِّر بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وفسِّر بالأعمال الصالحة
(3)
. وحقيقة القدم ما قدَّموه، ويَقْدَمون عليه يوم القيامة. وهم قدَّموا الأعمال والإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ويَقْدَمون على الجنَّة التي هي جزاء ذلك، فمن فسَّره بها أراد ما يَقْدَمون عليه. ومن فسَّره بالأعمال وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فلأنَّهم قدَّموها وقدَّموا الإيمان به بين أيديهم. فالثلاثة قَدَمُ صدقٍ.
وأمَّا مقعد الصِّدق: فهو الجنة عند الربِّ تبارك وتعالى.
ووصفُ ذلك كلِّه بالصِّدق مستلزمٌ ثبوته واستقراره، وأنَّه حقٌّ، ودوامَه، ونفعَه، وكمالَ عائدته؛ فإنَّه متَّصلٌ بالحقِّ سبحانه، كائنٌ به وله، فهو صدقٌ غير كذبٍ، وحقٌّ غير باطلٍ، ودائمٌ غير زائلٍ، ونافعٌ غير ضارٍّ، وما للباطل ومتعلَّقاته إليه سبيلٌ ولا مدخل.
(1)
«كان» أي: الثناء.
(2)
السياق في ع: «فلما كان الصدق باللسان وهو محلُّه أطلق الله ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاءً وفاقًا، وعبَّر به عنه» .
(3)
انظر: «تفسير الطبري» (12/ 108 - 111).