الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقابلها أكثر الناس بالجزع والسَّخط، وأوساطُهم بالصبر، وخاصَّتهم بالرِّضا= فقابلها هو بأعلى من ذلك كلِّه، وهو الشُّكر. فكان أسبقهم دخولًا إلى الجنَّة، وأوَّل من يُدعى منهم إليها.
وقسَّم أهلَ هذه الدرجة إلى قسمين: سابقين ومقرَّبين، بحسب انقسامهم إلى من يستوي عنده الحالاتُ من المكروه والمحبوب، فلا يؤثر أحدهما على الآخر، بل قد فني بإيثاره ما يرضى له به ربُّه عمَّا يرضاه هو لنفسه؛ وإلى من يؤثر المحبوب، ولكن إذا نزل به المكروه قابله بالشُّكر.
فصل
قال
(1)
:
(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم
، فإذا شهد المنعم عُبودةً
(2)
استعظم منه النِّعمة، وإذا شهده حبًّا استحلى منه الشدَّة، وإذا شهده تفريدًا لم يشهد منه نعمةً ولا شدَّةً).
هذه الدرجة يستغرق صاحبُها بشهود المنعم عن النِّعمة، فلا يتَّسع شهودُه للمنعم ولغيره.
وقسَّم أصحابها إلى ثلاثة أقسامٍ: أصحاب شهود العبوديَّة، وأصحاب شهود الحبِّ، وأصحاب شهود التفريد. وجعل لكلٍّ منهم حكمًا هو أولى به.
فأمَّا شهوده عبوديَّةً، فهو مشاهدة العبد للسيِّد بحقيقة العبوديَّة والملك له، فإنَّ العبيد إذا حضروا بين يدي سيِّدهم، فإنَّهم ينسون ما هم فيه من الجاه
(1)
«المنازل» (ص 42).
(2)
ل، ش، ع:«عبودية» ، وإليه غُيِّر في الأصل. والمثبت موافق «للمنازل» و «شرح التلمساني» (ص 234).
والقرب الذي اختصُّوا به عن غيرهم باستغراقهم في أدب العبوديَّة وحقِّها وملاحظتهم لسيِّدهم، خوفًا أن يشير إليهم بأمرٍ فيجدَهم غافلين عن ملاحظته. وهذا أمرٌ يعرفه من شاهد أحوال الملوك وخواصَّهم.
فهذا هو شهود العبد للمنعم بوصف عبوديَّته له، واستغراقِه عن الإحساس بما حصل له منه من
(1)
القرب الذي تميَّز به عن غيره.
فصاحب هذا المشهد إذا أنعم عليه سيِّده في هذه الحال مع قيامه في مقام العبوديَّة= يوجب
(2)
عليه أن يستصغر نفسه في حضرة سيِّده غاية الاستصغار، مع امتلاء قلبه من محبَّته، فأيُّ إحسانٍ ناله منه في هذه الحالة رآه عظيمًا. والواقع شاهدٌ بهذا في حال المحبِّ الكامل المحبَّة، المستغرقِ في مشاهدة محبوبه، إذا ناوله شيئًا يسيرًا فإنَّه يراه في ذلك المقام عظيمًا جدًّا، ولا يراه غيره كذلك.
القسم الثاني: يشهد الحقَّ شهود محبَّةٍ غالبةٍ قاهرةٍ له، مستغرقٌ في شهوده كذلك
(3)
، فإنَّه يستحلي في هذه الحال الشدَّة منه، لأنَّ المحبَّ يستحلي فعل المحبوب به. وأقلُّ ما في هذا المشهد: أن يخفَّ عليه حملُ الشدائد، إن لم تسمح نفسه باستحلائها.
وفي هذا من الحكايات المعروفة عند الناس ما يغني عن ذكرها، كحال الذي كان يُضرَب بالسِّياط ولا يتحرَّك، حتَّى ضرب في الآخر سوطًا فصاح
(1)
ل: «في» .
(2)
كذا في النسخ، أي: فذلك يوجب عليه.
(3)
كذا في الأصل وغيره، وأخشى أن يكون صوابه:«لذلك» .
صياحًا شديدًا، فقيل له في ذلك، فقال: العين التي كانت تنظر إليَّ وقت الضرب كانت تمنعني من الإحساس بالألم، فلمَّا فقدتُها وجدتُ ألم الضرب
(1)
.
وهذه الحال عارضةٌ ليست بلازمة، فإنَّ الطبيعة تأبى استحلاء المُنافي كاستحلاء الموافق. نعم، قد يقوى سلطان المحبَّة حتَّى يستحلي المحبُّ ما يستمرُّه
(2)
غيره، ويستخفَّ ما يستثقله غيره، وكذلك يأنس بما يستوحش منه الخليُّ، ويستوحش ممَّا يأنس به، ويستلين
(3)
ما يستوعره. وقوَّة هذا وضعفه بحسب قهر سلطان المحبَّة وغلبته على قلب المحبِّ.
القسم الثالث: أن يشهده تفريدًا، فإنَّه لا يشهد معه نعمةً ولا شدَّة.
يقول: إنَّ شهود التفريد يُفني الرسم، وهذه حال صاحب الفناء المستغرق فيه، الذي لا يشهد نعمةً ولا بليَّةً، فإنَّه يغيب بمشهوده عن شهوده له، ويفنى به عنه، فكيف يشهد معه نعمةً أو بليَّةً؟ كما قال بعضهم في هذا: من كانت مواهبه لا تتعدَّى يديه فلا واهب ولا موهوب. وذلك مقام الجمع عندهم، وبعضهم يحرِّم العبارة عنه
(4)
.
وحقيقته: اصطلامٌ يرفع إحساس صاحبه برسمه، فضلًا عن رسم غيره، لاستغراقه في مشهوده وغيبته به عمّا سواه، وهذا هو مطلوب القوم.
(1)
الحكاية بنحوها في «الفتوحات المكية» (2/ 524).
(2)
أي: يجده مُرًّا.
(3)
ع: «ويستأنس» ، تصحيف.
(4)
انظر: «شرح التلمساني» (ص 236).
وقد عرفت أنَّ فوقه مقامًا أعلى منه وأرفعَ وأجلَّ، وهو أن يصطلم بمراده عن غيره، فيكون في حال مشاهدته واستغراقه منفِّذًا لمراده ومراسيمه، ملاحظًا لِما محبوبُه ملاحظٌ له من المرادات والأوامر.
فتأمَّل الآن عبدين بين يدي ملكٍ من ملوك الدُّنيا، وهما على موقفٍ واحدٍ بين يديه، أحدهما مشغولٌ بمشاهدته فانٍ في استغراقه في ملاحظة الملك، ليس فيه متَّسعٌ إلى ملاحظة شيءٍ من أمور الملك البتَّة. وآخر مشغولٌ بملاحظة حركات الملك وكلماته، وأيشٍ أمرُه، ولحظاتِه وخواطرِه، ليرتِّب على كلٍّ من ذلك ما هو مرادٌ للملك.
وتأمَّل قصَّة بعض الملوك الذي كان له غلامٌ يخصُّه بإقباله عليه وإكرامه والحظوة عنده من بين سائر غلمانه، ولم يكن أكثرَهم قيمةً ولا أحسنهم صورةً، فقالوا له في ذلك، فأراد السُّلطان أن يبيِّن لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره، فيومًا من الأيَّام كان راكبًا
(1)
ومعه الحشم، وبالبعد منه جبلٌ عليه ثلج، فنظر السُّلطان إلى ذلك الثلج وأطرق، فركض الغلام فرسه، ولم يعلم القوم لماذا ركض، فلم يلبث أن جاء ومعه شيءٌ من الثلج، فقال السُّلطان: ما أدراك أنِّي أريد الثلج؟ فقال الغلام: لأنَّك نظرت إليه، ونظر السلطان
(2)
إلى شيءٍ لا يكون عن غير قصدٍ، فقال السُّلطان: إنَّما أخصُّه بإكرامي وإقبالي لأنَّ لكلِّ واحدٍ
(3)
شغلًا، وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي ــ يعني في
تحصيل مرادي
(1)
.
وسمعت بعض الشُّيوخ يقول
(2)
: لو قال ملكٌ لغلامَين له بين يديه، مستغرقَين في مشاهدته والإقبال عليه: اذهبا إلى بلاد عدوِّي، فأوصلا إليهم هذه الكتب، وطالعاني بأحوالهم، وافعلا كيت وكيت؛ فأحدهما مضى
(3)
لوجهه وبادر ما أُمِر به؛ والآخر قال: أنا لا أدع مشاهدتك، والاستغراقَ فيك
(4)
، ودوامَ النظر إليك، وأشتغلَ
(5)
بغيرك= لكان هذا جديرًا بمقت الملك له، وبغضه إيَّاه، وسقوطه من عينه؛ إذ هو واقفٌ مع مجرَّد حظِّه من الملك، لا مع مراد الملك منه، بخلاف صاحبه
(6)
.
وسمعته أيضًا يقول: لو أنَّ شخصين ادَّعيا محبَّة محبوبٍ، فجاءا حتى حضرا بين يديه، فأقبل أحدهما على مشاهدته والنظر إليه فقط، وأقبل الآخر على استقراء مراداته ومراضيه وأوامره ليمتثلها؛ فقال: ما تريدان؟ فقال أحدهما: أريد دوام مشاهدتك والاستغراقَ في جمالك، وقال الآخر: أريد تنفيذ أوامرك وتحصيلَ مراضيك، فمرادي منك ما تريده منِّي
(7)
، والآخر قال: مرادي منك تمتُّعي بمشاهدتك؛ أكانا عنده سواءً؟ ومن هو صاحب
(1)
«القشيرية» (ص 448).
(2)
وقد سبق أن ذكر المؤلف نحو هذا المثال في (1/ 405 - 406).
(3)
زاد في ع: «من ساعته» .
(4)
«فيك» من ج، ن.
(5)
ع: «ولا أشتغلُ» ، لم يفهم السياق فزاد حرف النفي.
(6)
ع: «صاحبه الأول» .
(7)
زاد في ع: «لا ما أريده أنا منك» .
المحبَّة المعلولة
(1)
النفسانيَّة، وصاحب المحبَّة الصحيحة الصادقة
(2)
؟
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي عن بعض العارفين أنَّه قال: الناس يعبدون الله، والصُّوفيَّة
(3)
يعبدون نفوسهم
(4)
. أراد هذا المعنى
(5)
، وأنَّهم واقفون مع مرادهم من الله، لا مع مراد الله منهم، وهذا عين عبادة النفس.
فليتأمَّل اللبيب هذا الموضع حقَّ التأمُّل، فإنّه محكٌّ وميزان. والله المستعان.
* * * *
(1)
زاد في ع: «المدخولة الناقصة» .
(2)
زاد في ع: «التامة الكاملة؟ أهذا أم هذا؟» .
(3)
ع: «وبعض الصوفية» .
(4)
سبق أن نقله في منزلة التوبة (1/ 404).
(5)
زاد في ع: «المتقدم» .