المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المشهد الثَّاني: مشهد رسوم الطَّبيعة ولوازم الخلقة

- ‌المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

- ‌المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة

- ‌المشهد السادس: مشهد التوحيد

- ‌المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

- ‌المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصِّفات

- ‌المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدُّد(2)شواهده

- ‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

- ‌ منزل الإنابة

- ‌ منزل التّذكُّر

- ‌(أبنية التذكُّر

- ‌المفسد الخامس: كثرة النوم

- ‌ منزل الاعتصام

- ‌الاعتصامُ(2)بحبل الله

- ‌ اعتصام العامَّة

- ‌اعتصام الخاصَّة

- ‌اعتصام خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الفرار

- ‌(فرار العامَّة

- ‌فرار الخاصَّة

- ‌فرار خاصَّة الخاصَّة

- ‌ رياضة العامة

- ‌«منزلة الرياضة»

- ‌رياضة الخاصَّة:

- ‌رياضة خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة السَّماع

- ‌ سماع العامّة

- ‌سماع الخاصَّة

- ‌سماع خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الحزن

- ‌ حزن العامَّة

- ‌ حزن أهل الإرادة

- ‌ التحزُّن للمعارضات

- ‌ منزلة الخوف

- ‌ الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة

- ‌(الدرجة الثانية: خوف المكر

- ‌ منزلة الإشفاق

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌ الدرجة الثالثة

- ‌ منزلة الخشوع

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الإخبات

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الزُّهد

- ‌من أحسن ما قيل في الزُّهد

- ‌ الدرجة الأولى: الزُّهد في الشُّبهة بعد ترك الحرام

- ‌(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول

- ‌(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد

- ‌ منزلة الورع

- ‌ الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح

- ‌(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به

- ‌فصلالخوف يثمر الورع

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرجاء

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرغبة

- ‌ الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر

- ‌(الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال

- ‌(الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشُّهود

- ‌ منزلة الرِّعاية

- ‌ منزلة المراقبة

- ‌ الدرجة الأولى: مراقبة الحقِّ تعالى في السَّير إليه

- ‌الدرجة الثانية: مراقبة نظر الحقِّ إليك برفض المعارضة

- ‌الاعتراض ثلاثة أنواعٍ سارية في الناس

- ‌النوع الأوَّل: الاعتراض على أسمائه وصفاته

- ‌النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره

- ‌(الدرجة الثالثة: مراقبةُ الأزل بمطالعة عين السبق

- ‌ منزلة تعظيم حرمات الله

- ‌(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره

- ‌(الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة

- ‌ منزلة الإخلاص

- ‌ الدّرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة التهذيب والتصفية

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الاستقامة

- ‌ الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد

- ‌(الدرجة الثانية: استقامة الأحوال

- ‌(الدرجة الثالثة: استقامةٌ بترك رؤية الاستقامة

- ‌ منزلة التوكُّل

- ‌الدرجة الثانية: إثبات الأسباب والمسبَّبات

- ‌الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد

- ‌الدرجة الخامسة: حسن الظنِّ بالله

- ‌الدرجة السّادسة: استسلام القلب له

- ‌الدرجة السابعة: التفويض

- ‌ الدرجة الأولى: التوكُّل مع الطلب ومعاطاة السبب

- ‌(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب

- ‌ منزلة التفويض

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الثِّقة بالله

- ‌ الدرجة الأولى: درجة الإياس

- ‌(الدرجة الثانية: درجة الأمن

- ‌(الدرجة الثالثة: معاينة أزليَّة الحقِّ

- ‌ منزلة التسليم

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الصبر

- ‌(الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة

- ‌(الدرجة الثالثة: الصبرُ في البلاء

- ‌ منزلة الرِّضا

- ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

- ‌ منزلة الشُّكر

- ‌ الدرجة الأولى: الشُّكر على المحابِّ

- ‌(الدرجة الثانية: الشُّكر في المكاره

- ‌(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم

- ‌ منزلة الحياء

- ‌ منزلة الصِّدق

- ‌من علامات الصِّدق: طمأنينة القلب إليه

- ‌فصلفي كلماتٍ في حقيقة الصِّدق

- ‌ الدرجة الأولى: صدق القصد

- ‌(الدرجة الثانية: أن لا يتمنَّى الحياة إلا للحقِّ

- ‌(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق

الفصل: ‌ منزلة الرجاء

فصل

ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :‌

‌ منزلة الرجاء

.

قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]، فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبَّة، فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحبَّ، والخوف، والرَّجاء.

وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]. وقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]

(1)

.

وفي «صحيح مسلم»

(2)

عن جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاثٍ: «لا يموتَنَّ أحدكم إلَّا وهو يحسن الظنَّ بربِّه» .

وفي «الصحيح»

(3)

عنه صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل: أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء» .

(1)

في ع زيادة: «وقال تعالى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]» .

(2)

برقم (2877).

(3)

للبخاري (7405) ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة، وليس فيه قوله:«فليظن بي ما شاء» . وبتمامه أخرجه أحمد (16016) والدارمي (2773) وابن حبان (633) والحاكم (4/ 240) من حديث واثلة بن الأسقع بإسناد صحيح.

ص: 259

الرجاءُ حادٍ يحدو القلوب إلى

(1)

الله والدار الآخرة، ويطيب لها السَّير.

وقيل: هو الاستبشار بوجود فضل الربِّ تعالى، والارتياح لمطالعة كرمه

(2)

.

وقيل: هو الثقة بجود الربِّ.

والفرق بينه وبين التمنِّي: أن التمنِّي يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجدِّ والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكُّل. فالأوَّل كحال من يتمنَّى أن يكون له أرضٌ يَبْذُرها ويأخذ زرعها، والثاني كحال من يشقُّ أرضه ويَفْلَحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع.

ولهذا أجمع العارفون على أنَّ الرجاء لا يصحُّ إلَّا مع العمل. قال شاهٌ الكرماني: علامة صحَّة الرجاء: حسن الطاعة

(3)

.

والرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوعٌ غرور مذموم.

فالأوَّلان: رجاءُ رجلٍ عمل بطاعة الله على نورٍ من الله فهو راجٍ لثوابه، ورجلٍ أذنب ذنبًا ثمَّ تاب منه

(4)

فهو راجٍ لمغفرته

(5)

.

والثالث: رجلٌ مُتَمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عملٍ، فهذا هو الغرور والتمنِّي والرجاء الكاذب.

(1)

في ع زيادة: «بلاد المحبوب، وهو» .

(2)

ذكره في «القشيرية» (360) عن أبي عبد الله بن خفيف.

(3)

«القشيرية» (ص 359). وأسنده السلمي في «طبقات الصوفية» (ص 193).

(4)

ع: «ذنوبًا ثم تاب منها» .

(5)

ع: «لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه» .

ص: 260

وللسالك نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله، يفتح عليه باب الخوف. ونظرٌ إلى سعة فضل ربِّه وكرمه وبرِّه، يفتح عليه باب الرّجاء. ولهذا قيل في حدِّ الرجاء: هو النظر إلى سعة رحمة الله.

وقال أبو عليٍّ الرُّوذْباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتمَّ طيرانُه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حدِّ الموت

(1)

.

وسئل أحمد بن عاصمٍ: ما علامة الرجاء في العبد؟ فقال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان أُلهم الشُّكر، راجيًا لتمام النِّعمة من الله عليه في الدُّنيا وتمامِ عفوه عنه في الآخرة

(2)

.

واختلفوا أيُّ الرجائين أكمل: رجاء المحسنِ ثوابَ إحسانه، أو رجاء المذنب المسيء التائب مغفرةَ ربِّه وعفوه؟ فطائفةٌ رجَّحت رجاء المحسن لقوَّة أسباب الرجاء معه. وطائفةٌ رجَّحت رجاء

(3)

المذنب لأنَّ رجاءه مجرَّدٌ عن علَّة رؤية العمل، مقرونٌ بذلَّة رؤية الذنب.

قال يحيى بن معاذٍ: يكاد رجائي لك مع الذُّنوب يغلب على رجائي لك مع الأعمال، لأنِّي أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحرزها وأنا بالآفات معروفٌ! وأجدني في الذُّنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوفٌ!

(1)

ع: «الموات» . وقد أسنده البيهقي في «شعب الإيمان» (996) والقشيري (ص 360).

(2)

أسنده القشيري (ص 360).

(3)

ع: «جانب» .

ص: 261

وقال أيضًا: إلهي، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحبُّ الساعات إليَّ ساعةٌ يكون فيها لقاؤك

(1)

.

فصل

قال صاحب «المنازل» رحمه الله

(2)

: (الرجاء أضعف منازل المريد، لأنَّه معارَضةٌ من وجهٍ واعتراضٌ من وجه، وهو وقوعٌ في الرُّعونة في مذهب هذه الطّائفة. ولفائدةٍ واحدةٍ نطق به التنزيل والسُّنة

(3)

، وتلك الفائدة هي كونه يبرِّد حرارة الخوف حتَّى لا يُفضي بصاحبه إلى الإياس).

شيخ الإسلام حبيبٌ إلينا، والحقُّ أحبُّ إلينا منه، وكلُّ من عدا المعصوم فمأخوذٌ من قوله ومتروك. ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثمَّ نبيِّن ما فيه:

أمَّا قوله: (الرجاء أضعف منازل المريد)، يعني بالنِّسبة إلى ما فوقه من المنازل، كمنزلة المعرفة، والمحبَّة، والإخلاص، والصِّدق، والتوكُّل، لا أنَّ مراده ضعف حال هذه المنزلة في نفسها وأنَّها منزلة ناقصة.

وأمَّا قوله: (لأنه معارضة من وجه، واعتراض من وجه)، فلأنَّه تعلُّق

(1)

ذكرهما القشيري (ص 361).

(2)

(ص 26)، ولفظه من «شرح التلمساني» (ص 155).

(3)

في ش زيادة: «ودخل في مسالك المحققين» . وجاءت في هامش الأصل أيضًا مرموزًا لها بـ (خ. م)، أي: أنها استدركت من نسخةٍ من «المنازل» . وهي ثابتة في متنه المطبوع وفي «شرح التلمساني» ، ولم نثبتها في المتن هنا لأن المؤلف لم يتعرَّض لها في الشرح، فالظاهر أنها لم تكن في النسخة التي اعتمدها.

ص: 262

بمراد العبد من ربِّه من الإحسان والثواب والإفضال، وقد يكون مراده تعالى من عبده استيفاءَ حقِّه ومعاملتَه بحكم عدله لِما له في ذلك من الحكمة؛ فإذا أراد العبد منه معاملته بحكم الفضل دخل في نوع معارَضةٍ، فكأنَّ الراجي تعلَّق قلبُه بما يعارض تصرُّفَ المالك في ملكه. وذلك ينافي حكم استسلامه وانقياده وانطراحه بين يدي ربِّه مستسلمًا لِما يحكم به فيه، فرجاؤه معارَضة لحكمه وإرادته، ووقوفٌ مع مراده من سيِّده، وذلك يعارض مراد سيِّده منه. والمحبُّ الصادق من فني بمراد محبوبه عن مراده منه، ولو كان فيه تعذيبُه!

وأمَّا وجه الاعتراض فهو أن القلب إذا تعلَّق بالرجاء ولم يظفر بمرجوِّه اعترض، حيث لم يحصل له مرجوُّه ولم يظفر به. وإن ظفر به اعترض، حيث فات غيرَه ذلك المرجوُّ

(1)

، لأن كلَّ أحدٍ يرجو فضل الله ويحدِّث نفسه به.

وفيه وجهٌ آخر من الاعتراض: وهو أنه يعترض على ربِّه بما يرجوه منه، لأنَّ الراجي متمنٍّ لما يرجو مُوثِرٌ له، وذلك اعتراضٌ على القدر، منافٍ لكمال الاستسلام والرِّضا بما سبق به القضاء؛ فإذا تيقَّن أنَّه قد سبق له القضاء بشيءٍ، وأنَّه لا بدَّ أن يناله، فعلَّق قلبه برجاء شيءٍ من الفضل= فقد اعترض على القضاء، ولم يعرف للاستسلام للحكم حقَّه. وذلك وقوعٌ في الرُّعونة في مذهب السائرين على درب الفناء الناظرين إلى عين الجمع، إذ الرُّعونة هي الوقوف مع حظِّ النّفس، والرجاء هو الوقوف مع الحظِّ لأنَّه يتعلَّق بالحظوظ.

(1)

فيقول الظافر معترضًا: «لِمَ لا يشمل الجميعَ بالرحمة؟» . انظر: «شرح التلمساني» (ص 154).

ص: 263

وأصحابُ هذه الطريق أوَّلُ طريقهم: الخروج عن نفوسهم، فضلًا عن حظوظها لأنَّهم عاملون على أن يكونوا بالله لا بنفوسهم، فغاية المحبِّ أنّ يرضى بأحكام محبوبه عليه، ساءته أم سرَّته، حتّى تبلغ بأحدهم هذه الحال إلى أن ينشد

(1)

:

أحبُّك لا أحبُّك للثواب

ولكنِّي أحبُّك للعقابِ

وكلُّ مآربي قد نلت منها

سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

ولو كان نفسُ تلذُّذِه بالعذاب مقصوده من العذاب لكان أيضًا واقفًا مع حظِّه، ولكن أراد أنَّ رضاه بمراد محبوبه منه ــ ولو كان عذابَه ــ لم يدَعْ فيه للرجاء موضعًا ولا للخوف، بل يقول: أنا أحبُّ ما تريده بي، ولو أنه عذابي. وقد كشف بعض المغرورين عن هذا بقوله:

وتعذيبي مع الهجران عندي

أحبُّ إليّ من طيب الوصال

لأنِّي في الوصال عُبيد حظِّي

وفي الهجران عبدٌ للموالي

فأخبر أنَّ التعذيب بالهجران أحبُّ إليه من طيب الوصال لكون الوصال فيه ما تشتهيه النفس، وأمَّا التعذيب فليس فيه للنفس مقصود.

ثمَّ أخبر

(2)

أنَّه لم يأت في القرآن والسُّنّة إلا لفائدةٍ واحدةٍ، وهي تبريده لحرارة الخوف حتَّى لا يفضي بصاحبه إلى الإياس.

فهذا وجه كلامه، وحملُه على أحسن محامله.

(1)

البيتان للحسين بن منصور الحلَّاج، كما في «تاريخ بغداد» (8/ 694). وانظر:«شرح ديوان الحلاج» لكامل مصطفى الشيبي (ص 412).

(2)

أي الهروي صاحب «المنازل» .

ص: 264

فيقال: هذا ونحوه من الشَّطحات التي ترجى مغفرتُها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمالُ الصِّدق وصحَّةُ المعاملة وقوَّةُ الإخلاص وتجريدُ التوحيد، ولم تُضمن العصمة لبشرٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه الشطحات أوجبت فتنةً على طائفتين من النّاس:

إحداهما: حُجِبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطفِ نفوسهم وصدقِ معاملاتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظنَّ بهم مطلقًا. وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كلُّ من أخطأ أو غلط تُرِك جملةً وأُهدرت محاسنُه لفسدت العلوم والصِّناعات والحِكَم، وتعطَّلت معالمها.

والطائفة الثانية: حُجبوا بما رأوه من محاسن الطائفة

(1)

، وصفاءِ قلوبهم، وصحَّة عزائمهم

(2)

، وحسن معاملاتهم= عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانها؛ فسَحَبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم. وهؤلاء أيضًا مُعتدون مُفرِطون.

وأهل البصيرة والإنصاف أعطَوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وأنزلوا كلَّ ذي منزلةٍ منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يُقبَل، وردُّوا ما يردُّ.

وهذه الشحطات ونحوها هي التي حذَّر منها سادات القوم، وذمُّوا

(1)

ع: «القوم» .

(2)

ع: «وقوة عزائمهم» .

ص: 265

عاقبتها، وتبَرَّؤوا منها، حتَّى ذكر أبو القاسم القشيريُّ في «رسالته»

(1)

أنَّ أبا سليمان الداراني رؤي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وما كان شيء أضرَّ عليَّ من إشارات القوم.

وقال أبو القاسم

(2)

: سمعت أبا سعيدٍ الشحَّام يقول: رأيت الأستاذ أبا سهلٍ الصُّعلوكيَّ في المنام، فقلت له: أيُّها الشّيخ، فقال: دع التَّشييخ! فقلت: وتلك الأحوال؟ فقال: لم تُغنِ عنَّا شيئًا! فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بمسائلَ كانت تسألُ عنها العُجُز

(3)

.

وذكر

(4)

عن الجُرَيريِّ: أنَّه رأى الجنيد في المنام بعد موته، فقال: كيف حالك يا أبا القاسم؟ قال: طاحت تلك الإشارات، وبادت تلك العبارات، وما نفعنا إلَّا تسبيحاتٌ كنَّا نقولها بالغدوات

(5)

.

فأمَّا قوله: (الرّجاء أضعف منازل المريدين)، فليس كذلك، بل هو من

(1)

(ص 766).

(2)

«الرسالة» (ص 762).

(3)

أي: العجائز.

(4)

في «الرسالة» (ص 760). وأسنده أبو نعيم في «الحلية» (10/ 257) والبيهقي في «شعب الإيمان» (2986) عن جعفر الخُلْدي أنه رأى تلك الرؤيا، ولفظها: «

وما نفعتنا إلا ركعات كنا نركعها عند السحر». والجُريري والخُلدي كلاهما من أصحاب الجنيد.

(5)

في ع زيادة: «وقال أبو سليمان الداراني: تعرض عليَّ النُّكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلَّا بشاهدي عدلٍ: الكتاب والسُّنّة. وقال الجنيد: مذهبنا مقيّدٌ بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في طريقنا. هذا إلى غير ذلك من الأقوال التي وردت عنهم رضي الله عنهم» . انظر لقوليهما: «القشيرية» (ص 133، 155).

ص: 266

أجلِّ منازلهم وأعلاها وأشرفها. وعليه وعلى الحبِّ والخوف مدارُ السَّير إلى الله. وقد مدح الله أهله وأثنى عليهم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].

وفي الحديث الصحيح الإلهيِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه عز وجل: «ابنَ آدم، إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي»

(1)

.

وقد روى الأعمش عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرتُه في ملإٍ هو

(2)

خيرٌ منهم، وإن اقترب إليَّ شبرًا اقتربتُ إليه ذراعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً». رواه مسلم

(3)

.

وقد أخبر تعالى عن خواصِّ عباده الذين كان المشركون يزعمون أنَّهم يتقرَّبون بهم إلى الله: أنَّهم كانوا راجين له خائفين منه، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 56]. يقول تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم من دوني

(4)

هم

(1)

أخرجه الترمذي (3540) وغيره من حديث أنس، وقد سبق تخريجه (1/ 302).

(2)

«هو» ساقطة من ش، ج، ع. وفي ن:«هم» ، وهو لفظ مسلم.

(3)

برقم (2675/ 2) بنحوه. وهو عند البخاري (7405) أيضًا.

(4)

ع: «من دون الله» .

ص: 267

عبادي، يتقرَّبون إليَّ بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي، فلماذا تدعونهم من دوني؟ فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم من الحبِّ والخوف والرّجاء.

قوله: (لأنه معارضة من وجهٍ، واعتراض من وجهٍ)، يقال: بل هو عبوديّة وتعلُّقٌ بالله من حيث اسمُه المُحسن البَرُّ، فذلك التّعلُّق والتّعبُّد بهذا الاسم والمعرفةُ بالله هو الذي أوجب له الرجاءَ مِن حيث يدري ومن حيث لا يدري، فقوّة الرجاء على حسب قوَّة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبةِ رحمته غضبَه.

ولولا رَوح الرجاء لعطِّلت عبوديّةُ القلب والجوارح، وهدِّمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيرًا. بل لولا رَوح الرجاء لما تحرَّكت الجوارح بالطاعة. ولولا ريحه الطّيِّبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات. ولي من أبياتٍ:

لولا التعلُّل

(1)

بالرجاء تقطَّعت

نفسُ المحبِّ تحسُّرًا وتمزُّقا

وكذاك لولا برده لحرارة الْـ

أكباد ذابت بالحجاب تحرُّقا

أيكون قطُّ حليفُ حبٍّ لا يُرى

برجائه لحبيبه متعلِّقا؟!

أم كلَّما قويت محبَّته له

قوي الرّجاء فزاد فيه تشوُّقا

لولا الرجا يحدو المطيَّ لما سرت

بحمولها لديارهم ترجو اللِّقا

وعلى حسب المحبَّة وقوَّتها يكون الرجاء. وكلُّ محبٍّ راجٍ خائفٌ بالضّرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحبَّ ما كان إليه. وكذلك خوفه، فإنّه

(1)

ع: «التعلُّق» .

ص: 268

يخاف سقوطَه من عينه، وطردَ محبوبه له وإبعادَه، واحتجابَه عنه؛ فخوفُه أشدُّ خوفٍ.

ورجاؤه لمحبوبه ذاتيٌّ للمحبَّة، فإنَّه يرجوه قبل لقائه والوصولِ إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتدَّ الرجاء له لِما يحصل به

(1)

حياةُ روحه ونعيمُ قلبه من ألطاف محبوبه، وبرِّه وإقبالِه عليه، ونظرِه إليه بعين الرِّضا، وتأهيلِه لمحبَّته، وغيرِ ذلك ممَّا لا حياة للمحبِّ ولا نعيمَ ولا فوزَ إلا بوصوله إليه من محبوبه؛ فرجاؤه أعظم رجاءٍ وأجلُّه وأتمُّه.

فتأمَّل هذا الموضع حقَّ التّأمُّل يُطلعْك على أسرارٍ عظيمةٍ من أسرار العبودية والمحبة، فكلُّ محبة فهي مصحوبةٌ بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكُّنها من قلب المحبِّ يشتدُّ خوفه ورجاؤه. لكنَّ خوف المحبِّ لا تصحبه وحشة بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحبِّ لا تصحبه علَّةٌ بخلاف رجاء الأجير، فأين رجاء المحبِّ من رجاء الأجير؟ بينهما كما بين حالَيهما.

وبالجملة: فالرجاء ضروريٌّ للمريد والسالك والعارف، ولو فارقه لحظةً لتلف أو كاد، فإنَّه دائرٌ بين ذنبٍ يرجو غفرانه، وعيبٍ يرجو صلاحه

(2)

، وعملٍ صالحٍ يرجو قبوله، واستقامةٍ يرجو حصولها أو دوامها، وقربٍ من الله ومنزلةٍ عنده يرجو وصوله إليها؛ ولا ينفكُّ أحدٌ من السالكين عن هذه الأمور أو عن بعضها، فكيف يكون الرجاء مِن أضعف منازله وهذا حاله؟

(1)

في ش زيادة: «مِن» .

(2)

ع: «إصلاحه» .

ص: 269

وأمّا حديث المعارضة والاعتراض فباطل، فإنَّ الراجي ليس معارضًا

(1)

ولا معترضًا، بل راغبًا راهبًا مؤمِّلًا لفضل ربِّه، مُحسنَ

(2)

الظنِّ به، متعلِّقَ الأمل ببرِّه وجوده، عابدًا له باسمه المحسن، البَرِّ، المعطي، الحليم، الغفور، العفو، الجواد، الوهَّاب، الرزاق. والله يحبُّ من عبده أن يرجوه، ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنِّه به.

والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربِّه، بل هو من أقوى الأسباب. ولو تضمَّن معارضةً واعتراضًا لكان ذلك في الدُّعاء والمسألة أولى، فكان دعاء العبد ربَّه وسؤالُه أن يهديه ويوفِّقه ويسدِّده ويعينه على طاعته ويجنِّبه معصيته ويغفر ذنوبَه ويدخله الجنة وينجيه من النار= معارضةً واعتراضًا، لأنَّ الداعي راجٍ وطالبٌ، فمعه رجاء وطلب ما يرجوه، فهو أولى حينئذٍ بالمعارضة والاعتراض.

والذي أوجب للشيخ هذا القَدْرَ الاسترسالُ في القَدَر والفناءُ في شهود الحقيقة الكونية، فإنَّه من الراسخين فيه، الذين لا يأخذهم فيه لومة لائمٍ. وهو شديدٌ في إنكار الأسباب. وهذا موضعٌ زلَّت فيه أقدام أئمَّةٍ أعلام. ولولا أنَّ حقَّ الحقِّ أوجب من حقِّ الخلق لكان في الإمساك فسحةٌ ومتَّسع.

وليس في الرجاء ولا في الدُّعاء معارضةٌ لتصرُّف المالك في ملكه، فإنَّه إنما يرجو تصرُّفه في ملكه أيضًا بما هو أحبُّ الأمرين إليه، فإنَّ الفضل أحبُّ إليه من العدل، والعفو أحبُّ إليه

(3)

من الانتقام، والمسامحة أحبُّ إليه من

(1)

في ع زيادة: «ولا متعرِّضًا» .

(2)

ع: «حسن» .

(3)

«فإن الفضل

أحبُّ إليه» من ع، ولا بد منه لاستقامة السياق، ولعله سقط من الأصل وغيره لانتقال النظر. والسياق في ج، ن: «بما هو أحبُّ الأمرين إليه من الانتقام والمسامحةِ، والمسامحةُ

»

ص: 270

الاستقصاء، والتّرك أحبُّ إليه من الاستيفاء، ورحمته غلبت غضبه.

فالراجي علَّق رجاءَه بتصرُّفه المحبوب له المَرضيِّ له، فلم يوجب رجاؤه خروجَه عن تصرُّفه في ملكه، بل اقتضى عبوديَّته وحصولَ أحبِّ التصرُّفين إليه. وهو سبحانه لا ينتفع باستيفاء حقِّه وعقوبة عبده، حتَّى يكون رجاؤه مبطلًا لذلك، وإنَّما العبدُ استدعى العقوبةَ وأَخْذَ الحقِّ منه لشركه بالله وكفره به واجتهاده في غضبه. ولغضبه موجباتٌ وآثارٌ ومقتضيات، والعبدُ موثِرٌ لها ساعٍ في تحصيلها عاملٌ عليها بإيثاره وسعيه في أسبابها، فهو المُهلك لنفسه. وربُّه يحذِّره ويبصِّره ويناديه: هلمَّ إليَّ أحمِك وأصُنْك، وأُنجيك

(1)

ممَّا تحذر، وأؤمِّنك من كلِّ ما تخاف، وهو يأبى إلا شِرادًا

(2)

عليه ونِفارًا عنه، ومصالحةً لعدوِّه ومظاهرةً له على ربِّه، متطلِّبٌ لمرضاة خلقه بمساخطه، رضا المخلوق آثَرُ عنده من رضاه

(3)

، وحقُّه آكد عنده من حقِّه، وخوفه ورجاؤه وحبُّه في قلبه أعظمُ

(4)

، فلم يدع لفضل ربِّه وكرامته وثوابه إليه طريقًا، بل سدَّ دونه طرق مجاريها بجهده، وأعطى بيده لعدوِّه فصالحه وسمع له وأطاع وانقاد إلى مرضاته، فجاء من الظُّلم بأقبحه وأشدِّه، فهو الذي عارض مراد ربه منه بمراده وهواه وشهوته، واعترض لمحابِّه ومراضيه

(1)

كذا في الأصل وغيره بإثبات الياء. وفي ع: «أُنجِك» بالجزم عطفًا على ما سبق.

(2)

م، ش:«شرودًا» .

(3)

ع: «رضا خالقه» .

(4)

في ع زيادة: «مِن خوفه من الله ورجائه وحبِّه» .

ص: 271

بالدفع، ولم يأذن لها في الدُّخول عليه، فأضاع حظَّه وبخس حقَّه وظلم نفسه، وعادى حبيبه ووالى عدوَّه، وأسخط مَن حياتُه في رضاه

(1)

، وأرضى مَن حياتُه في سخطه، وجاد بنفسه لعدوِّه، وبخل بها عن حبيبه ووليِّه.

والرّبُّ تعالى ليس له ثأرٌ عند عبده فيدركه بعقوبته، ولا يتشفَّى بعقابه، ولا يزيد ذلك في ملكه مثقالَ ذرَّةٍ، ولا تَنقُص مغفرتُه لو غفر لأهل الأرض كلِّهم

(2)

مثقالَ ذرَّةٍ من ملكه، كيف والرحمةُ أوسع من العقوبة وأسبقُ مِن الغضب وأغلب له ــ وهو قد كتب على نفسه الرحمة ــ؟! فرجاء العبد له لا ينقص شيئًا من حكمته، ولا ينقص ذرَّةً من ملكه، ولا يخرجه عن كمال تصرُّفه، ولا يوجب خلاف كماله، ولا تعطيل أوصافه وأسمائه. ولولا أنَّ العبد هو الذي سدَّ على نفسه طرق الخيرات وأغلق دونها أبواب الرحمة بسوء اختياره لنفسه لكان ربُّه له فوقَ رجائه وفوقَ أمله.

وأمَّا استسلام العبد لربِّه، وانطراحُه بين يديه، ورضاه بمواقعِ

(3)

حُكمه فيه= فما ذاك إلَّا رجاءً منه أن يرحمه ويقبله

(4)

، ويقيله عثرتَه ويعفو عنه، ويقبلَ حسناتِه مع عيوب أعماله وآفاتها، ويتجاوزَ عن سيِّئاته؛ فقوَّة رجائه أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد والانطراح بالباب، ولا يُتصوَّر هذا بدون

(1)

ع: «مرضاته» .

(2)

في ع زيادة: «لَما نقص» ، إقحام لا حاجة إليه.

(3)

ع: «بجوامع» ، خطأ.

(4)

كان في الأصل: «ويقبل منه» ثم أصلحه إلى المثبت، وهو ساقط من ل، م، ع. وفي ج، ن:«وأن يقبله» .

ص: 272

الرجاء البتَّة، فالرجاء حياةُ الطَّلب والإرادةِ وروحُها

(1)

.

وأمَّا رضاه بمراده منه وإن كان عذابَه، فهذا هو الرُّعونة كلُّ الرُّعونة، فإنَّ مراده سبحانه نوعان:

- مرادٌ يحبُّه ويرضاه ويمدح فاعله ويواليه، فموافقته في هذا المراد هي عين محبَّته، وإرادةُ خلافه رعونةٌ ومعارضةٌ واعتراضٌ.

- ومرادٌ يبغضه ويكرهه ويمقت

(2)

فاعلَه ويعاديه، فموافقته في هذا المراد عين مشاقَّته ومعاداته ومخالفته والتعرُّضِ لمقته وسخطه. فهذا الموضع موضع فرقانٍ، فالموافقة كلُّ الموافقة معارضة هذا المراد واعتراضُه بالدفع والردِّ بالمراد الآخر. فالعبودية الحقُّ: معارضةُ مراده بمراده، ومزاحمة أحكامه بأحكامه. فاستسلامه لهذا المراد المكروهِ المسخوطِ وما يوجبه ويقتضيه عينُ الرُّعونة والخروجُ عن العبودية.

وهو عين الدعوى الكاذبة، إذ لو كان مصدرُ ذلك الاستسلامَ والموافقةَ وتركَ الاعتراضِ والمعارضةِ لكان ذلك مخصوصًا بمحابِّه ومراضيه وأوامره التي الاستسلامُ لها والموافقةُ فيها وتركُ معارضتها والاعتراضِ عليها هو عين المحبة والموالاة.

وأمَّا الفناء بمراد ربِّه عن مراده، فقد تقدَّم أنَّ المحمود من ذلك: الفناءُ بمراده الدينيِّ الأمريِّ، لا الكونيِّ القدريِّ، فإنَّ الكون كلَّه مرادُه القدريُّ خيره وشرُّه.

(1)

في ع والنسخ المطبوعة: «والإرادةُ روحُها» ، سقطت واو العطف ففسد المعنى.

(2)

في م زيادة: «عليه» .

ص: 273

وأمَّا تعلُّق الرجاء بمراده دون مراد سيِّده، فهو إنَّما علَّقه بمراده المحبوب له، هاربًا من مراده المسخوط المكروه له. وعلى تقدير أن يكون محبوبًا له إذا كان انتقامًا، فالعفو والفضل أحبُّ إليه منه؛ فهو إنَّما علَّق رجاءه بأحبِّ المرادين إليه.

وأمَّا كون الرجاء اعتراضًا على ما سبق به الحكم، فليس كذلك، بل تعلُّقًا بما سبق به الحكم، فإنَّه إنَّما يرجو فضلًا وإحسانًا ورحمةً سبق بها القضاء والقدر وجُعل الرجاءُ أحدَ أسباب حصولها، فليس الرجاء اعتراضًا على القدر ولا معارضةً للقدر، بل طلبًا لما سبق به القدر.

وأمَّا اعتراضه إذا لم يحصل له مرجوُّه فهذا نقصٌ في العبودية وجهلٌ بحقِّ الرُّبوبيَّة، فإنَّ الراجي والداعي يرجو ويدعو فضلًا لا يستحقُّه ولا يستوجبه بمعاوضةٍ، فإن أُعطيه

(1)

فمحض المنَّة

(2)

والصدقة عليه، وإن منعه فلم يمنع حقًّا هو له، فاعتراضه رعونة وجهالة. ولا يلزم من فوات المرجوِّ وعدمِ حصول المدعوِّ به في حقِّ العبد الصَّادقِ معارضةٌ ولا اعتراض. وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه ثلاث خصالٍ لأمَّته، فأعطاه اثنتين ومنعه واحدةً، فرضي بما أعطاه ولم يعترض فيما منعه، بل رضي وسلَّم

(3)

.

وأمَّا كون الرجاء وقوفًا مع الحظِّ، فأصحابُ هذه الطريق قد خرجوا عن نفوسهم فكيف حظوظِهم

(4)

؟ فيا لله العجب! أيُّ رعونةٍ فيمن يجعل رجاءَ

(1)

ع: «أعطاه» .

(2)

الأصل: «المشيئة» . ولعل المثبت من سائر النسخ هو الصواب.

(3)

أخرجه مسلم (2890) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(4)

أي: فكيف عن حظوظهم، أو بحظوظهم؟ على غرار قول المؤلف الآتي (ص 305):«فكيف بحال المريدين؟ فكيف العارفين» .

ص: 274

العبد ربَّه، وطمعَه في برِّه وإحسانه وفضله، وسؤالَه ذلك بقلبه ولسانه؟!

(1)

فإن الرجاء هو استشراف القلب لنيل ما يرجوه، فإذا كان العبد دائمًا مستشرفًا بقلبه، سائلًا بلسانه، طالبًا لفضل ربِّه، فأيُّ رعونةٍ هاهنا؟ وهل الرُّعونة كلُّ الرُّعونة إلا خلاف ذلك؟

ومن العجب دعواهم خروجَهم عن نفوسهم، وهم أعظم الناس عبادةً لنفوسهم! وليس الخارج عن نفسه إلَّا من جعلها حبسًا على مراد الله الدينيِّ الأمريِّ النبويِّ، وبذلها لله في إقامة دينه وتنفيذه بين أهل العناد والمعارضة والبغي، فانغمس فيهم يمزِّقون أديمه ويرمونه بالعظائم ويخيفونه بأنواع المخاوف ويتطلَّبون دمَه

(2)

بجهدهم

(3)

، لا يأخذه في جهادهم في الله لومةُ لائمٍ، يصدع بالحقِّ عند من يخافه ويرجوه، قد زهد في مدحهم وثنائهم وتعظيمهم وتشييخهم له وتقبيل يده وقضاء حوائجه، يصيح فيهم بالنصائح جهارًا، ويعلن لهم بها ويسرُّ لهم إسرارًا. وقد تجرَّد عن الأوضاع والقيود والرُّسوم، وتعلَّق بمراضي الحيِّ القيُّوم؛ مقامه ساعةً في جهاد أعداء الله، ورباطُه ليلةً على ثغر الإيمان= آثر عنده وأحبُّ إليه من فناءٍ ومشاهداتٍ وأحوالٍ هي أعظم عيش النفس وأعلى قوتها وأوفرُ حظِّها، ويزعم أنه قد خرج عن نفسه فكيف حظِّها!

(4)

ولعلَّه قد خرج عن مراد ربِّه من عبوديَّته إلى

(1)

كذا العبارة في الأصل، ينقصها المفعول الثاني لـ «يجعل». ولو كان السياق: «أيُّ رعونة في رجاء العبد ربَّه

» لاستقام.

(2)

ع: «دينه» ، تصحيف.

(3)

في ع زيادة: «وحدّهم وحديدهم» .

(4)

انظر التعليق على مثله في الصفحة السابقة.

ص: 275

عينِ مرادِه هو وحظِّه

(1)

، ولو فتَّش نفسه لرأى ذلك فيها عيانًا.

وهل الرُّعونة كلُّ الرُّعونة إلا دعواه أنه يحبُّ ربَّه لعذابه لا لثوابه، وأنَّه إذا أحبَّه وأطاعه للثواب كان ذلك حظًّا وإيثارًا لمراد النفس، بخلاف ما إذا أحبَّه وأطاعه ليعذِّبه فإنَّه لا حظَّ للنفس في ذلك. فوالله ليس في أنواع الرُّعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج! وماذا يلعب الشيطان بالنُّفوس؟! وإنَّ نفسًا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة لمحتاجة إلى سؤال المعافاة.

فنزِّل أحوال الأنبياء والرُّسل والصدِّيقين وسؤالَهم ربَّهم على أحوال هؤلاء الغالطين

(2)

، ثمَّ قايس بينهما وانظر التفاوت. فأين هذا من دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«اللهم إنِّي أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك»

(3)

وقولِه لعمِّه: «يا عبَّاسُ، يا عمَّ رسول الله، سل الله العافية»

(4)

، وقولِه للصدِّيق الأكبر وقد سأله أن يعلِّمه دعاءً يدعو به في صلاته:«قل: اللهم إنِّي ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذُّنوب إلّا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم»

(5)

، وقولِه

(1)

ع: «هو حظُّه» ، سقطت واو العطف.

(2)

في ع زيادة: «الذين مرجت بهم نفوسهم» .

(3)

أخرجه مسلم (486) وأبو داود (879) ــ واللفظ له ــ من حديث أبي هريرة عن عائشة رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه أحمد (1766، 1783) والبخاري في «أدب المفرد» (726) والترمذي (3514) وابن حبان (951) والحاكم (1/ 529) والضياء في «المختارة» (8/ 378 - 380) من طرق يعضد بعضها بعضًا من حديث العباس. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

(5)

أخرجه البخاري (834) ومسلم (2705) من حديث عبد الله بن عمرو عن أبي بكر.

ص: 276

لصدِّيقة النساء وقد سألَتْه دعاءً تدعو به إن

(1)

وافقت ليلة القدر فقال: «قولي: اللهم إنك عفوٌ تحبُّ العفو فاعف عنِّي»

(2)

، وقولِه في دعائه الذي كان لا يدعه، وإن دعا بدعاءٍ أردفه به

(3)

:

«ربنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار»

(4)

.

وقد أثنى تعالى على خاصَّته

(5)

أولي الألباب

(6)

بأنَّهم سألوه أن يقيهم عذاب النار، فقال:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].

وقال لأمِّ حبيبة رضي الله عنها: «لو سألتِ الله أن يُجيرَكِ من عذاب النار لكان خيرًا لك»

(7)

.

(1)

في ع زيادة: «هي» .

(2)

أخرجه أحمد (25384) والترمذي (3513) والنسائي في «الكبرى» (7665) والحاكم (1/ 530) من حديث ابن بريدة عن عائشة. قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقد اُعِلَّ بالإرسال فإن الدارقطني قال في «سننه» (3557) عقب حديث آخر رواه ابن بريدة عن عائشة: «ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا» .

(3)

ع: «إياه» ..

(4)

أخرجه البخاري (6389) ومسلم (2690) من حديث أنس أنه كان أكثرَ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد مسلم:«وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوةٍ دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه» . وعليه فقول المؤلف: «وإن دعا بدعاءٍ أردفه به» إنما هو من فعل أنس موقوفًا عليه، ولم أجده مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

كذا في الأصل، ل، ع. وفي سائر النسخ:«خاصَّة» .

(6)

ع: «وهم أولو الألباب» .

(7)

أخرجه مسلم (2663) من حديث ابن مسعود بنحوه.

ص: 277

وكان يستعيذ كثيرًا من عذاب النار وعذاب القبر. وأمر المسلمين أن يستعيذوا في تشهُّدهم من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجَّال

(1)

؛ حتّى قيل إنَّ هذا الدُّعاء واجبٌ في الصلاة، لا تصحُّ إلا به

(2)

.

وهذا أعظم من أن نستقصيه. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريضٍ يعوده فرآه مثل الفرخ، فقال:«ما كنت تدعو به؟» فقال: كنت أقول: اللهمَّ ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعاقِبْني به في الدُّنيا، فقال:«سبحان الله! إنك لا تطيق ذلك، ألا سألت الله العفو والعافية؟»

(3)

.

وفي «المسند»

(4)

عنه: «ما سئل الله شيئًا أحبَّ إليه من سؤال العفو والعافية» .

وقال لبعض أصحابه: «ما تقول إذا صلَّيت؟» فقال: أسأل الله الجنَّة وأعوذ به من النار، أما إنِّي لا أحسن دندنتَك، ولا دندنةَ معاذٍ، فقال رسول الله

(1)

كما في حديث أبي هريرة عند مسلم (588). وأخرج أيضًا (590) من حديث طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن.

(2)

هو قول طاوس، علَّقه عنه مسلم عقب الحديث السابق، ووصله عبد الرزاق في «مصنفه» (3087).

(3)

أخرجه مسلم (2688) من حديث أنس، ولفظه:«أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» .

(4)

لم أجده فيه، وإنما أخرجه الترمذي (3548)، وإليه عزاه المؤلف فيما سيأتي (ص 581 - 582)، وإسناده ضعيف كما سيأتي بيانه ثَمَّ.

ص: 278

- صلى الله عليه وسلم: «

(1)

حولها ندندن»

(2)

.

فأين هذا من حال من قال: لا أحبُّك لثوابك لأنَّه عين حظِّي، وإنَّما أحبُّك لعقابك لأنَّه لا حظَّ لي فيه، والرجاء عين الحظِّ، ونحن قد خرجنا عن نفوسنا فما لنا وللرجاء؟

فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيه: إنَّه شطح قد يُعذَر فيه صاحبُه إذا كان مغلوبًا على عقله كالسكران ونحوه، ولا تُهدَر محاسنُه ومعاملاته وأحواله وزهده. ولكنَّ الذي ننكر كونُ هذا من الأحوال الصحيحة والمقامات العَليَّة التي يتعاطاها العبد ويشمِّر إليها، فهذا الذي لا تُلبَس

(3)

عليه الثِّياب ولا تَصبر عليه نفوسُ العلماء، وحاشا سادات القوم وأئمَّتهم من هذه الرُّعونات، بل هم أبعد الناس منها.

نعم، قد يعرض لأحدهم حالٌ يحدِّث نفسَه بأنَّه لو عذَّبه لكان راضيًا بعذابه كرضا صاحب الثواب بثوابه، ويعزم على ذلك بقلبه، ولكن هذا عزمٌ وأمنية، وعند الحقيقة لا يكون لذلك

(4)

أثرٌ البتَّة، ولو امتحنه بأدنى محنةٍ

(1)

في ع زيادة: «إنَّا» .

(2)

أخرجه أحمد (15898) وأبو داود (792) وابن ماجه (910) وابن خزيمة (725) وابن حبان (868) بإسناد صحيح من حديث الأعمش عن أبي صالح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه أبو هريرة، ورواية الإبهام أصح. انظر:«العلل» للدارقطني (1944).

(3)

ع: «تلتبس» .

(4)

م: «كذلك ولا لذلك» .

ص: 279

لصاح واستغاث وسأل العافية، كما جرى للقائل

(1)

:

وليس لي من هواك بدٌّ

فكيفما شئتَ فامتحنِّي

فامتحنه بعسر البول، فطاحت هذه الدعوى عنه واضمحلَّ خيالها، وجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمِّكم الكذَّاب!

فالعزم على الرِّضا لونٌ، وحقيقته لونٌ آخر.

وأمَّا قوله: (إن التنزيل نطق به

(2)

لفائدةٍ واحدة، وهي كونه يبرِّد حرارة الخوف)، فيقال: بل لفوائد كثيرةٍ أُخَر سوى هذه:

منها: إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربِّه ويستشرفه من إحسانه، وأنَّه لا يستغني عن فضله طرفةَ عينٍ.

ومنها: أنَّه سبحانه يحبُّ من عباده أن يؤمِّلوه ويرجوه ويسألوه من فضله، لأنَّه المَلِك الحقُّ الجواد، أجوَدُ من سئل وأوسع من أعطى، وأحبُّ ما إلى الجواد أن يُرجى ويؤمَّل ويُسأل. وفي الحديث:«من لم يسأل الله يغضَبْ عليه»

(3)

، والسائل راجٍ وطالب، فمن لم يَرجُ الله يغضب عليه، فهذه فائدة

(1)

في ع زيادة: «وهو سَمْنون» . وهو سَمنون بن حمزة الخوَّاص، معاصر للجنيد. انظر:«حلية الأولياء» (10/ 309) و «تاريخ بغداد» (10/ 324) و «القشيرية» (ص 169).

(2)

ع: «وإنما نطق به التنزيل» .

(3)

أخرجه أحمد (9701) والبخاري في «الأدب المفرد» (658) والترمذي (3373) وابن ماجه (3827) والحاكم (1/ 491) وغيرهم من حديث أبي المَليح عن أبي صالح الخُوزي عن أبي هريرة. قال الترمذي: «لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ولم يحسِّنه. وإسناده يحتمل ذلك، فأبو صالح ضعَّفه ابن معين، وقال عنه أبو زرعة: لا بأس به. وانظر: «الصحيحة» (2654).

ص: 280

أخرى من فوائد الرجاء: التخلُّص به من غضب الله.

ومنها: أنَّ الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيِّب له المسير، ويحثُّه عليه، ويبعثه على ملازمته. فلولا الرجاء لما سرى أحدٌ، فإن الخوف وحده لا يحرِّك العبد، وإنّما يحرِّكه الحبُّ، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرّجاء.

ومنها: أنَّ الرجاء يطرحه على عتبة المحبَّة ويلقيه في دِهليزها، فإنَّه كلَّما اشتدَّ رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبًّا لله وشكرًا له ورضًا عنه

(1)

.

ومنها: أنَّه يبعثه على أعلى المقامات، وهو مقام الشُّكر الذي هو خلاصة العبوديّة، فإنَّه إذا حصل له مرجوُّه كان ذلك أدعى لشكره.

ومنها: أنَّه يوجب له المزيد من معرفته بأسمائه

(2)

ومعانيها والتعلُّق بها، فإنَّ الرجاء تعلُّقٌ بأسماء الإحسان

(3)

وتعبُّدٌ بها ودعاءٌ بها، وقد قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فلا ينبغي أن يعطَّل دعاؤه بأسماء الإحسان

(4)

التي هي أعظم ما يدعوه بها الداعي، فالقدح في مقام الرجاء تعطيلٌ لعبودية هذه الأسماء والدُّعاء بها.

(1)

ع: «به وعنه» .

(2)

ع: «معرفة الله وأسمائه» .

(3)

ع: «بأسمائه الحُسنى» ، تغيير أفسد المقصود. والمراد بـ «أسماء الإحسان»: البَرُّ، والمحسن، واللطيف، والرحيم، ونحوها من الأسماء.

(4)

ع: «بأسمائه الحِسان» ، وهو خطأ كسابقه.

ص: 281

ومنها: أنّ المحبة لا تنفكُّ عن الرّجاء كما تقدّم، فكلُّ واحدٍ منهما يمدُّ الآخر ويقوِّيه.

ومنها: أنَّ الخوف مستلزمٌ للرجاء، والرجاء مستلزمٌ للخوف، فكلُّ راجٍ خائف، وكلُّ خائفٍ راجٍ. ولأجل هذا حسُن وقوع الرجاء في موضعٍ يحسن فيه وقوع الخوف؛ قال تعالى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، قال كثيرٌ من المفسِّرين: المعنى ما لكم لا تخافون لله عظمةً؟ قالوا: والرجاء بمعنى الخوف

(1)

. والتحقيق أنَّه ملازمٌ له، فكلُّ راجٍ خائفٌ من فوات مرجوِّه، والخوف بلا رجاءٍ يأس وقنوط. وقال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]، قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم، كوقائعه بمن قبلهم من الأمم.

ومنها: أن العبد إذا تعلَّق قلبُه برجاء ربِّه فأعطاه ما رجاه، كان ذلك ألطفَ موقعًا وأحلى عند العبد وأبلغَ من حصول ما لم يرجه. وهذا أحد الأسباب والحكم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار، فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوِّهم

(2)

واندفاع مَخُوفهم.

ومنها: أنّ الله سبحانه يريد من عباده تكميلَ مراتبِ عبوديته من الذُّلِّ والانكسار، والتّوكُّل والاستعانة، والخوف والرجاء، والصّبر والشُّكر،

(1)

انظر: «تفسير الفرَّاء» (1/ 286، 3/ 188) و «مجاز القرآن» لأبي عُبيدة (2/ 271) و «تفسير الطبري» (7/ 456، 23/ 297).

(2)

ع: «بخوفهم وحصولِ مرجوِّهم» ، إقحام مفسد للمعنى.

ص: 282

والرِّضا والإنابة وغيرها. ولهذا قدَّر عليه الذنب وابتلاه به ليُكمِّل

(1)

مراتبَ عبوديَّته بالتوبة التي هي من أحبِّ عبوديَّات عبده إليه، فكذلك يُكمِّلها

(2)

بالرّجاء والخوف.

ومنها: أنَّ في الرجاء من الانتظار والترقُّب والتوقُّع لفضل الله ما يوجب تعلُّقَ القلب بذكره، ودوامَ الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته، وتنقُّلَ القلب في رياضها الأنيقة، وأخذَه بنصيبه من كلِّ اسم وصفةٍ كما تقدَّم بيانه، فإذا فني عن ذلك وغاب عنه فاته حظُّه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصِّفات.

إلى فوائد أخرى كثيرةٍ يطالعها من أحسن تأمُّلَه وتفكُّرَه في استخراجها. وبالله التوفيق.

والله يشكر لشيخ الإسلام

(3)

سعيَه، ويُعلي درجته، ويَجزيه أفضل جزائه، ويجمع بيننا وبينه في محلِّ كرامته. فلو وَجَد مريدُه سعةً وفسحةً في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لَمَا فعل، كيف وقد نفعه الله بكلامه، وجلس بين يديه مجلس التِّلميذ من أستاذه، وهو أحدُ مَن كان على يديه فتحُه يقظةً ومنامًا.

وهذا غاية جهد المقلِّ في هذا الموضع، فمن كان عنده فضلُ علمٍ فليَجُد به، أو فليُعذِر ولا يبادر إلى الإنكار؛ فكم بين الهدهد وسليمان نبيِّ الله ــ صلى الله على نبينا وعليه وسلَّم ــ وهو يقول

(4)

: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]!

(1)

ل، ع:«تكميل» .

(2)

ع: «تكميلها» .

(3)

أي: صاحب «المنازل» أبي إسماعيل الهروي.

(4)

في ع زيادة: «له» .

ص: 283