الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس: إمَّا طلب التزيُّن في قلوب الخلق، وإمَّا طلب مدحهم والهرب من ذمِّهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم أو خدمتهم
(1)
وقضائهم حوائجه، أو طلب محبَّتهم له، أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عقدُ متفرِّقاتها هو إرادة ما سوى الله بعمله كائنًا ما كان.
قال
(2)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ.
الدّرجة الأولى:
إخراج رؤية العمل من العمل، والخلاص من طلب العوض على العمل، والنُّزول عن الرِّضا بالعمل).
يعرض للعامل في عمله ثلاث آفاتٍ: رؤيته وملاحظته، وطلب العوض عليه، ورضاه به وسكونه إليه. ففي هذه الدرجة يتخلَّص من هذه الثلاثة
(3)
.
فالذي يخلِّصه من رؤية عمله: مشاهدتُه لمنَّة الله عليه وفضله وتوفيقه له، وأنَّه بالله لا بنفسه، وأنَّه إنَّما أوجب عملَه مشيئةُ الله لا مشيئته هو، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]. فهنا ينفعه شهود الجبر، وأنَّه آلة محضة، وأنَّ فعله كحركات الأشجار وهبوب الرِّياح، وأنَّ المحرِّك غيرُه والفاعلَ فيه سواه، وأنَّه ميِّت والميِّت لا يفعل شيئًا، وأنَّه لو خلِّي ونفسَه لم يكن من فعله الصالح شيءٌ البتَّة، فإنَّ النفس جاهلة ظالمة، طبعها الكسل وإيثار الشهوات والبطالة، وهي منبع كلِّ شرٍّ ومأوى كلِّ سوءٍ. وما كان هكذا
(1)
في ع زيادة: «ومحبتهم» ، وسقط منه:«أو طلب محبتهم له» فيما سيأتي.
(2)
«المنازل» (ص 31).
(3)
ع: «من هذه البليّة» ، تصحيف.
لم يصدر منه خيرٌ، ولا هو من شأنه.
فالخير الذي صدر منها إنَّما هو من الله تعالى وبه، لا من العبد ولا به. كما قال تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21].
وقال أهل الجنَّة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {(73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا} [الإسراء: 74].
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
فكلُّ خيرٍ في العبد فهو مجرّد فضل الله ومنَّته وإحسانه ونعمته، وهو المحمود عليه، فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة كرؤيته لصفاته الخَلْقيَّة من سمعه وبصره وإدراكه وقوَّته، بل من صحَّته وسلامة أعضائه، ونحو ذلك؛ فالكلُّ مجرَّد عطاء الله ونعمته وفضله. فالذي يخلِّص العبد من هذه الآفة معرفةُ ربِّه ومعرفة نفسه.
والّذي يخلِّصه من طلب العوض على العمل: علمه بأنَّه عبدٌ محض، والعبد لا يستحقُّ على خدمته لسيِّده عوضًا ولا أجرةً، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديَّته. فما يناله من سيِّده من الأجر والثواب تفضُّلٌ منه وإحسانٌ إليه وإنعامٌ عليه، لا معاوضة؛ إذ الأجرة إنَّما يستحقُّها الحرُّ أو عبد الغير، فأمَّا عبدُه نفسِه فلا.
والذي يخلِّصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران:
أحدهما: مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره فيه، وما فيه من حظِّ النفس ونصيب الشّيطان؛ فقلَّ عملٌ من الأعمال إلّا وللشيطان فيه نصيبٌ وإن قلَّ، وللنَّفس فيه حظٌّ. سئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته فقال:«هو اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد»
(1)
. فإذا كان هذا التفاتُ طَرْفِه ولحظه، فكيف التفاتُ قلبه إلى ما سوى الله؟ هذا أعظم نصيب الشيطان من العبوديَّة.
وقال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: لا يجعل أحدكم للشيطان حظًّا من صلاته، يرى أنَّ حقًّا عليه أن لا ينصرف إلَّا عن يمينه
(2)
؛ فجعل هذا القدر اليسير النزر حظًّا ونصيبًا للشيطان من صلاة العبد، فما الظنُّ بما فوقه؟
وأمَّا حظُّ النفس من العمل فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون.
الثاني: علمه بما يستحقُّه الربُّ جل جلاله من حقوق العبوديَّة وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها، وأنَّ العبد أضعف وأعجز وأقلُّ من أن يوفِّيها حقَّها وأن يرضى بها لربِّه، فالعارف لا يرضى بشيءٍ من عمله لربِّه، ولا يرضى نفسه لله تعالى طرفة عينٍ، ويستحيي من مقابلة الله بعمله. فسوء ظنِّه بنفسه وعمله وبغضه لها، وكراهته لأنفاسه وصعودها إلى الله يحول بينه وبين الرِّضا بعمله والرِّضا عن نفسه.
(1)
أخرجه البخاري (751) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري (852) ومسلم (707).