الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون متابعةً وموافقةً، ومع هذا فالالتفات إليها ترفُّهًا وراحةً لا ينافي الصِّدق، فإنَّ هذا هو المقصود منها. وفيه شهود نعمة الله على العبد، وتعبُّدٌ باسمه البَرِّ اللطيفِ المحسنِ الرفيقِ، فإنَّه رفيقٌ يحبُّ الرِّفق
(1)
، وفي «الصحيح»
(2)
: «ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلَّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا» ؛ لِما فيه من روح التعبُّد باسم الرفيق اللطيف، وإجمام القلب به لعبوديَّةٍ أخرى، فإنَّ القلب لا يزال يتنقَّل في منازل العبوديَّة، فإذا أخذ بترفيه رخصةِ محبوبه
(3)
استعدَّ بها لعبوديَّةٍ أخرى. وقد تقطعه عزيمتُها عن عبوديَّةٍ هي أحبُّ إلى الله منها، كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه، والمفطر الذي يضرب الأبنية، ويسقي الرِّكاب، ويضمُّ المتاع؛ ولهذا قال فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ذهب المفطرون اليوم بالأجر»
(4)
.
وأمَّا الرُّخص التأويليَّة المستندةُ إلى اختلاف المذاهب والآراء التي تصيب وتخطئ، فالأخذ بها عندهم عين البطالة ومنافٍ للصِّدق.
فصل
قال
(5)
:
(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق
. فإنّ الصِّدق لا يستقيم في علم أهل الخصوص إلَّا على حرفٍ واحدٍ، وهو أن يتَّفق
(6)
رضا
(1)
يشير إلى حديث عائشة المتفق عليه: «إن الله رفيق يحب الرفق» .
(2)
للبخاري (3560) ومسلم (2327) عن عائشة.
(3)
ج، ع:«رخصةٍ محبوبةٍ» .
(4)
أخرجه البخاري (2890) ومسلم (1119) من حديث أنس.
(5)
(ص 44) و «شرح التلمساني» (ص 244) واللفظ له.
(6)
غير محرَّر في الأصل، يشبه:«يتقن» ، وكذا في ل. وفي ش:«يتيقَّن» . والمثبت من ج، ن، ع هو الصواب، وعليه شرحه المؤلف.
الحقِّ بعمل العبد أو حاله أو وقته، وإيقانِ العبد
(1)
وقصدِه؛ [فـ]ـيكون العبد راضيًا مرضيًّا، فأعماله إذًا مرضيَّة، وأحواله صادقة، وقصوده مستقيمة. وإن كان العبد كُسي ثوبًا مُعارًا، فأحسن أعماله ذنبٌ، وأصدق أحواله زورٌ، وأصفى قصوده قعود).
يعني: أنَّ الصِّدق المحقَّق إنَّما يحصل لمن صدق في معرفة الصِّدق، فكأنَّه قال: لا يحصل حال الصِّدق إلَّا بعد معرفة علم الصِّدق.
ثمّ عرَّف حقيقة الصِّدق فقال: (لا يستقيم الصِّدق في علم أهل الخصوص إلَّا على حرفٍ واحدٍ، وهو أن يتَّفق
(2)
رضا الحقِّ بعمل العبد أو حاله أو وقته، وإيقانِه وقصدِه). وهذا موجَب الصِّدق وفائدته وثمرته. فالشيخ رحمه الله ذكر الغاية الدالَّة على الحقيقة التي يُعرف انتفاءُ الحقيقة بانتفائها، وثبوتُها بثبوتها. فإنَّ العبد إذا صدق الله رضي الله بعمله وحاله ويقينه وقصده، لا أنَّ رضا الله نفس الصِّدق، وإنَّما يُعلَم الصِّدق بموافقة رضاه سبحانه.
ولكن من أين يعلم العبد رضاه؟ فمن هاهنا كان الصادق مضطرًّا أشدَّ ضرورةٍ إلى متابعة الأمر، والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه
(3)
، والتعبُّد به في كلِّ حركةٍ وسكونٍ، مع إخلاص القصد لله، فإنَّ الله لا يرضيه من عبده
(1)
ج، ن:«وإتيان العبد» ، وهو لفظ مطبوعة «المنازل» و «شرح القاساني» (ص 225).
(2)
وهنا أيضًا كسابقه.
(3)
زاد في ع: «والاقتداء به» .
إلَّا ذلك. وما عدا هذا فقُوت النفس ومجرَّدُ حظِّها
(1)
، وإن كان فيه من المجاهدات والرِّياضات والخلوات ما كان، فإنَّ الله سبحانه أبى أن يقبل من عبده عملًا أو يرضى به حتَّى يكون على متابعة رسوله وخالصًا لوجهه.
ومن هاهنا يفارق الصادق أكثر السالكين، بل يستوحش في طريقه
(2)
، فإنَّ أكثرهم سائرون على أذواق نفوسهم
(3)
، ومتابعة رسوم شيوخهم. والصَّادق في وادٍ، وهؤلاء في واد.
وقوله: (فيكون العبد راضيًا مرضيًّا). لأنَّه قد رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمَّدٍ رسولًا، فرضي الله به عبدًا، فأعماله إذًا مرضيَّةٌ لله، وأحواله صادقةٌ مع الله، وقصوده مستقيمةٌ على متابعة أوامر الله.
قوله: (وإن كان العبد كُسي ثوبًا معارًا، فأحسن أعماله ذنبٌ، وأصدق أحواله زورٌ، وأصفى قصوده قعود). هذا يراد به أمران:
أحدهما: أن يُكسى حلية الصادقين، ويلبس ثيابهم على غير قلوبهم وأرواحهم، فثوب الصِّدق عاريةٌ له لا مِلْك، فهو كالمتشبِّع بما لم يعط، فإنَّه كلابس ثوبي زورٍ. فهذا أحسن أعماله ذنبٌ يعاقَب عليه، كما يعاقَب المقتول في الجهاد، والقارئُ القرآنِ المتنسِّك، والمتصدِّقُ، ويكونون أوَّل من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة لمَّا لبسوا ثياب الصادقين على قلوب المرائين
(4)
. فهذا
(1)
زاد في ع: «واتباعُ هواها» .
(2)
زاد في ع: «وذلك لقلة سالكيها» .
(3)
ع: «سائرون على طرق أذواقهم، وتجريد أنفاسهم لنفوسهم» .
(4)
يشير إلى حديث أبي هريرة عند مسلم (1905) وغيره، وقد سبق تخريجه مفصَّلًا (ص 346).
معنًى صحيحٌ، وما أظنُّ الشيخ قصده.
وإنَّما أظنُّه قصد معنًى آخر، وهو: أنَّه متى تيقَّن العبد أنَّ وجوده ثوبٌ معارٌ ليس منه، فإنه ليس به ولا له، وإنَّما إيجاده وصفاته وإرادته وقدرته وأعماله عاريةٌ من الفعَّال وحده، والعبد ليس له من ذاته إلَّا العدم، فوجوده وحياته ثوبٌ أُعيرَه= فمتى نظر بعين الحقيقة إلى كسوته رأى أحسن أعماله ذنوبًا في هذا المقام، وأصدق أحواله زورًا، وأصفى قصوده قعودًا. فلا يرى لنفسه عملًا، ولا حالًا ولا قصدًا، فإنّه ليس له من نفسه إلَّا الجهل والظُّلم، فكلُّ ما من نفسه فهو ذنب وزور وقعود، وما كان مرضيًّا فهو بالله ومن الله ولله، لا بالنفس ولا منها ولا لها، فإنَّ العبد إذا رأى أنَّه قد فعل الطاعة كان رؤيته لذلك ذنبًا، فإنَّه نسب الفعل إليه، والله في الحقيقة هو المتفرِّد بالفعل.
فعلى هذا لا يتخلَّص العبد من الذنب قطُّ، فإنَّه إذا خلَّص فعله من الرِّياء
(1)
ومن كلِّ شيءٍ يفسده، اقترن به آخَرُ لا يمكنه الخلاص منه، وهو اعتقاده أنَّه هو الفاعل
(2)
.
والصواب: أنَّ هذا ليس بذنبٍ، ولا هو مقدورٌ للعبد ولا مأمور. والكمال في حقِّه: أن يشهد الأمر كما هو عليه، وأنَّه فاعلٌ حقيقةً، كما أضاف الله إليه الفعل في كتابه كلِّه، والله هو الذي جعله فاعلًا. فإذا شهد نفسه فاعلًا حقيقةً، وشهد فاعليَّته بالله ومن الله، لا من نفسه= فلا ذنب في هذا الشُّهود، ولا زور بحمد الله. وهو نظر بمجموع عينيه إلى السبب والمسبَّب، والشرع
(1)
ل، ش:«ذنب» ، خطأ.
(2)
انظر: «شرح التلمساني» (ص 245).
والقدر، والخلق والأمر.
ثم لو صحَّ ما ذكروه لكان الكافر والعاصي والفاسق أيضًا لا ذنب له ولا معصية في حقيقة الأمر
(1)
، وأنَّه متى شهد نفسه عاصيًا مخالفًا مذنبًا= كان عاصيًا بهذا الشُّهود، لأنَّ الفاعل فيه غيره. وهذا منافٍ للعبوديَّة أشدَّ منافاةٍ، وهو من سير القوم إلى شهود الحقيقة الكونيَّة واعتقاد أنَّه غاية السالكين.
فإن قيل
(2)
: الشيخ رحمه الله هاهنا ما نطق بلسان الأبرار، بل بلسان المقرَّبين. ولا ريب أنَّ حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين، ولسنا نريد أنّ شهود فعله ذنبٌ في الشرع، بل يكون حسنةً كما ذكرتم، لكن هو حسنةٌ للبرِّ، ذنبٌ للمقرَّب، فإنَّ نصيب البرِّ من السيِّئة ما جاء به العلم، ونصيبَ المقرَّب ما جاءت به المعرفة التي هي أخصُّ من العلم.
قيل: هذا أيضًا باطلٌ قطعًا، بل المعرفة الصحيحة مطابقةٌ للحقِّ
(3)
في نفسه شرعًا وقدرًا، وما خالف ذلك فمعرفةٌ فاسدةٌ.
والحقُّ في نفس الأمر: نسبة الأفعال إلى الفاعلين قيامًا ومباشرةً وصدورًا منهم. وذلك محلُّ الأمر والنهي، والثواب والعقاب. والقدح في ذلك مستلزمٌ لإبطال الشرع والجزاء، فإنَّ الشرع إنَّما أمر بأفعالها
(4)
ونهى عنها، والجزاء إنَّما ترتَّب عليها، فشهود أفعالها كذلك من تمام الإيمان
(1)
«ثم لو صحّ
…
حقيقة الأمر» ساقط من ع لانتقال النظر.
(2)
كما في «شرح التلمساني» (ص 245 - 246) بنحوه.
(3)
في النسخ عدا ج، ن:«الحق» .
(4)
كذا في عامَّة النسخ هنا وفي السطر التالي، ولعل الضمير راجع إلى النفس أو نفوس الفاعلين. والرسم في ع يحتمل:«أفعالنا» .
بالشرع والجزاء. ونسبتها إلى الربِّ تعالى قضاءً وقدرًا، وخلقًا للأسباب التي منها إرادتنا وقدرتنا، فلم يجبرنا عليها ولم يكرهنا، بل خلقها بما أعطانا من القدرة والإرادة اللَّتين هما من أسباب الفعل.
فهذا المشهد يحقِّق عبوديّة: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، والمشهد الأوَّل يحقِّق عبوديّة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، و
(1)
يحقِّقان مشهدي: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30]، وقولِه:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29].
وما جاء به العلم لا يناقض ما جاءت به المعرفة، بل المعرفة روح العلم ولبُّه وكماله، وحقيقتها: العلم الذي أثمر لصاحبه مقصوده. ولسان الأبرار لا يخالف لسان المقرَّبين، إنَّما يخالف لسان الفجَّار. نعم، لسان المقرَّبين أعلى منه وأرفع على مقتضى أعمالهم وأحوالهم، فنسبته إليه كنسبة مقام التوكُّل إلى الرِّضا، والرِّضا إلى الحمد والشُّكر.
فإن قيل: كلامكم هذا بلسان العلم. ولو تكلَّمتم بلسان الحال لعلمتم صحَّة ما ذكرناه، فإنَّ صاحب الحال صاحبُ شهودٍ، وصاحبَ العلم صاحبُ غيبةٍ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب. ونحن نشير إليكم إشارةً حاليَّةً علميَّةً، تنزُّلًا من الحال إلى العلم، فنقول
(2)
: الحال تأثُّرٌ عن نورٍ من أنوار الأحديَّة والفردانيَّة، تستر العبد عن نفسه، وتبدي ظهور مشهوده. ولا ريب أنَّه في هذه الحال قد يعتقد أنَّ الشاهد هو المشهود، حتَّى قال أبو يزيد في مثل هذه
(1)
ع: «وهما» .
(2)
انظر: «شرح التلمساني» (ص 246).
الحال: سبحاني، وما في الجبَّة إلَّا الله
(1)
. ولا شكَّ أنَّ هذا الاعتقاد زورٌ وإن كان سببه نورًا من أنوار الأحديَّة، وصاحبه معذورٌ ما دام مستورًا عن نفسه بوارده، فإذا رُدَّ إلى رسمه وعقله وحسِّه حال ذلك الحال
(2)
، وعلم صاحبه أنَّه كان زورًا حيث ظنَّ أنَّ الشاهد هو المشهود. فإن أنكرتم ذلك فلا كلام معكم، وإن اعترفتم به حصل المقصود. فهذا معنى كون أصدق أحوال الصادق زورًا.
وإذا عُرف هذا في الحال عرف مثله في كون أحسن أعماله ذنبًا. فإنَّه لصدقه في الطلب، وبذله الجهد في العمل، واستفراغه الوسع فيه= يغيب بذلك عن شهود الحقيقة الكونيَّة، وأنَّ المحرِّك له سواه، وأنَّه آلةٌ ومجرًى للمشيئة، وأنَّ نفسه أعجز وأضعف من أن يكون لها أو بها أو منها فعلٌ أو إرادةٌ أو حركةٌ. فإذا رجع إلى الحقيقة وشهد منَّة الله عليه، وأنَّه هو المحرِّك له، وأنَّ مشيئته هي التي أوجبت سعيه= رأى أحسن أعماله ذنبًا بهذا الاعتبار.
وأمَّا رؤيته أصفى قصوده قعودًا، فلأنَّ القاصد إلى الحقيقة متى شهد مقصوده قعد عن قصده، فإنَّ المقصود المراد أقربُ إلى اللِّسان من نطقه، وإلى القلب من قصده، فالقصد إليه: هو عين القعود عن القصد، لأنَّ القصد إنَّما يكون لبعيدٍ عن المقصود
(3)
. أمَّا من هو أقرب إلى القاصد من ذاته، فمتى شاهد القاصدُ الحقيقةَ علم أنَّ قصده عين القعود عن قصده. والعبارة تزيد هذا المعنى جفوةً، والحوالة فيه على الحال والذوق.
(1)
انظر ما سبق في (1/ 238) وفي (ص 342) من هذا المجلد.
(2)
زاد في ع: «وزال» .
(3)
كذا في النسخ، ولعله سبق قلم، فمقتضى السياق:«القاصد» .
فالجواب أن يقال: من أحالك على الحال فما أنصفك! فإنَّه أحالك على أمرٍ مشتركٍ بين الحقِّ والباطل، فإنَّ كلَّ من اعتقد شيئًا وطلبه طلبًا صادقًا، واستفرغ وسعه في الوصول إليه، كان له لا محالة فيه حالٌ ليست لغيره بحسب صدقه في طلبه وجمع همَّته وقصده عليه. وهذا يكون للأبرار والفجَّار، بل لأولياء الله وأعدائه، فكونُ الرجل له شهودٌ بمشهوده وحالٌ في طلبه لا يوجب كونه حقًّا ولا باطلًا. فإنَّ كلَّ من اعتقد عقيدةً، وارتاض وصقل قلبَه بأنواع الرِّياضة، وجزم بما اعتقده= تجلَّى له صورة معتقده في عالم نفسه، فيظنُّ ذلك كشفًا صحيحًا. وإن كان صادقًا في طلبه وحبِّه لما اعتقده كان له فيه حالٌ وتأثيرٌ بحسبه، فالحوالة على الحال حوالة مفلسٍ من العلم على غير مليءٍ به. ومن هاهنا دخل الداخل على أكثر السالكين وانعكس سيرهم، حيث أحالوا العلم على الحال وحكَّموه عليه.
وسير أولياء الله وعباده الأبرار والمقرَّبين بخلاف هذا. وهو إحالة الحال على العلم، وتحكيمُه عليه وتقديمُه، ووزنه به وحكُّه
(1)
به. فإن وافقه العلم، وإلَّا كان حالًا فاسدًا منحرفًا عن أحوال الصدِّيقين بحسب بُعده عن العلم. فالعلم حاكمٌ والحال محكومٌ عليه، والعلم راعٍ والحال من رعيَّته. فمن لم يكن هذا أصلَ بناءِ سلوكه فسلوكُه فاسد، وغايته الانسلاخ من العلم والدِّين، كما جرى ذلك لمن جرى له. وبالله المستعان.
(1)
تصحَّف في ج، ع وبعض المطبوعات إلى:«حكمه» . ومعنى «حكُّه به» أي اختباره، كما يحكُّ الذهب ليُعرف أخالص هو أم بهرج. قال المؤلف في «الصواعق» (2/ 678):«فهلموا نضعِ الشبهاتِ جميعَها في الميزان ونحكَّها على المحكِّ يتبين أنها زغل وزيف» .
ونحن لا ننكر ما ذكرتم من غَيبة الشاهد بمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، وبمحبوبه عن حبِّه؛ لكن ننكر كون هذا أكملَ حالًا من صاحب البقاء والتمييز وشهودِ الحقائق على ما هي عليه، فلا يحتاج يشهد حاله زورًا، لأنَّه لم يحصل له ما حصل لصاحب السُّكر والاصطلام من الزُّور، فهو أكمل منه حقيقةً وشرعًا.
وأمّا الغائب عن الحقيقة الكونيَّة بشهود فعله، فإنّه متى صحبه استصحاب عقد التوحيد، وأنّ مصدر كلِّ شيءٍ مشيئة الله وحده، وأنَّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّه لا يتحرّك متحرِّكٌ في ظاهره وباطنه إلَّا به سبحانه= فلا تضرُّه الغيبة عن هذا المشهد باستغراقه في القصد والطلب والفعل إذ حكمه جارٍ عليه في هذه الحال. وليس ضيقُ قلبه عن استحضار ذلك وقت استجماعِ إرادته وطلبه وفعله = ذنبًا، لا للخاصَّة ولا للعامَّة، ولا بالنِّسبة إلى مقامه أيضًا؛ فإنَّ الذنب تعمُّد مخالفة الأمر، وهذا ليس كذلك، ولا هذا مطالبٌ بالغيبة بشهود الحقيقة والفناءِ فيها عن شهود الفعل وقيامه به، مع اعتقاده أنَّه بمشيئة الله وحوله وقوَّته.
وأمَّا ما ذكرتم من أنَّ مشاهدة القرب تجعل القصد قعودًا، فكلامٌ له خبيء، وقد أفصح عنه بعض المغرورين المخدوعين بقوله
(1)
:
ما بال عِيسِك لا يقرُّ قرارها
…
وإلامَ ظِلُّك لا يني متنقِّلا؟
(1)
ذكره شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (2/ 81) عن ابن إسرائيل. وهو محمد بن سَوَّار بن إسرائيل (ت 677)، شاعر سلك في نظمه مسلك ابن الفارض وابن العربي، وصرَّح بالاتحاد. انظر:«تاريخ الإسلام» للذهبي (15/ 347) و «لسان الميزان» (7/ 190).
فلسوف تعلم أنَّ سيرك لم يكن
…
إلَّا إليك إذا بلغت المنزلا
وكأنَّ صاحبه يشير
(1)
إلى أنَّه وجود قلبه ولسانه، ووجوده أقرب إليه من إرادته ونطقه. هذا خبيءُ هذا الكلام. وتعالى الله عن إلحاد هذا وأمثالِه وإفكهم علوًّا كبيرًا
(2)
، بل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائنٌ من خلقه.
وأمَّا ما ذكرتم من القرب، فإن أردتم عموم قربه إلى كلِّ لسانٍ مِن نطقه وإلى كلِّ قلبٍ مِن قصده، فهذا لو صحَّ لكان قرب قدرةٍ وعلمٍ وإحاطةٍ، لا قربًا بالذات والوجود، فإنَّه سبحانه لا يمازج خلقه، ولا يخالطهم، ولا يتَّحد بهم. مع أنَّ هذا المعنى لم يرد عن الله ورسوله ولا أحدٍ من السلف الأخيار تسميتُه قربًا، ولم يجئ القرب في القرآن والسُّنَّة قطُّ إلَّا خاصًّا كما تقدَّم.
وإن أردتم القرب الخاصَّ إلى اللِّسان والقلب، فهذا قرب المحبَّة وقرب الرِّضا والأنس، كقرب العبد من ربِّه وهو ساجد. وهو نوعٌ آخر من القرب، لا مثال له ولا نظير، فإنَّ الرُّوح والقلب يقرب من الله تعالى وهو على عرشه، والرُّوح في البدن، وقد تقدَّم الإشارة إلى ذلك.
وهذا القرب لا ينافي القصد والطّلب، بل هو مشروطٌ بالقصد، فيستحيل وجوده بدونه. وكلَّما كان الطلب والقصد أتمَّ كان هذا القرب أقوى.
فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]؟
(1)
ل، ش:«مشير» .
(2)
هنا ينتهي ما وُجد من المجلد الأول من نسخة شستربيتي (ش).
قيل: هذه الآية فيها قولان للناس:
أحدهما: أنَّه قربه بعلمه، ولهذا قرَنَه بعلمه
(1)
. وحبل الوريد هو حبل العنق: عرقٌ بين الحلقوم والودجين، متى قُطع مات صاحبه. وأجزاء القلب وهذا الحبل يحجب بعضها بعضًا، وعلمُ الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء.
والقول الثاني: أنَّه قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه، فتكون
(2)
أقرب إليه من ذلك العرق. اختاره شيخنا
(3)
، وسمعتُه يقول: هذا مثل قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وقولِه:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، فإنَّ جبريل عليه السلام هو الذي قصَّه عليه بأمر الله، فنسب تعليمه إليه إذ هو بأمره، وكذلك جبريل هو الذي قرأه عليه كما في «صحيح البخاري»
(4)
عن ابن عبَّاس في تفسير هذه الآية: فإذا قرأه رسولُنا فأنصت لقراءته حتَّى يقضيها.
قلت له: فأوَّل الآية يأبى ذلك، قال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]. فقال: وكذلك خلقه الإنسانَ إنَّما هو بالأسباب وتخليق الملائكة.
قلت: وفي «صحيح مسلم»
(5)
من حديث حذيفة بن أسيدٍ رضي الله عنه في
(1)
زاد في ع: «بوسوسة نفس الإنسان» .
(2)
ع: «فيكونون» .
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 128 - 129، 233 - 236، 502 - 507).
(4)
برقم (5، 4949، 7524) بمعناه. وأخرجه مسلم (448) أيضًا.
(5)
برقم (2645).
تخليق النطفة: «فيقول الملك الذي يخلقه: يا ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ أسويٌّ أم غير سويٍّ؟ فيقضي ربُّك ما شاء ويكتب الملك» ، فهو سبحانه الخالق وحده، ولا ينافي ذلك استعمال ملائكته
(1)
بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق، فإنَّ أفعالهم وتخليقهم خلقٌ له سبحانه، فما ثمَّ خالقٌ على الحقيقة غيره.
والمقصود: أنَّ هذا موضعٌ ضلَّت فيه أفهام، وزلَّت فيه أقدام، واشتبه فيه معيَّة العلم والقدرة والإحاطة بالقرب، واشتبه فيه آثار قرب المحبَّة والرِّضا والموافقة وغلبة ذكره ومراقبته بقرب ذاته، واشتبه فيه ما في الذِّهن بما في الخارج، واشتبه فيه اضمحلال شهود الرسم وانمحاؤه من القلب بعدمه وفنائه، واشتبه فيه آثار الصِّفات بحقيقتها، وأنوار المعرفة بأنوار الذات. وأصحابه لتحكيمهم الحال والذوق لا يلتفتون إلى لسان العلم، ولا يصغون إليه. وفي هذا كفاية، والله المستعان
(2)
.
* * * *
(1)
ع: «الملائكة» .
(2)
هنا انتهت نسخة قيون أوغلو، وهي (الأصل) في تحقيق المجلَّدين الأول والثاني. كما انتهت أيضًا نسخة قَره جلبي زاده (ج)، ونسخة ولي الدين الأولى (ن)، ونسخة دار الكتب (ع).