المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المشهد الثَّاني: مشهد رسوم الطَّبيعة ولوازم الخلقة

- ‌المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

- ‌المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة

- ‌المشهد السادس: مشهد التوحيد

- ‌المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

- ‌المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصِّفات

- ‌المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدُّد(2)شواهده

- ‌المشهد العاشر: مشهد الرّحمة

- ‌ منزل الإنابة

- ‌ منزل التّذكُّر

- ‌(أبنية التذكُّر

- ‌المفسد الخامس: كثرة النوم

- ‌ منزل الاعتصام

- ‌الاعتصامُ(2)بحبل الله

- ‌ اعتصام العامَّة

- ‌اعتصام الخاصَّة

- ‌اعتصام خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الفرار

- ‌(فرار العامَّة

- ‌فرار الخاصَّة

- ‌فرار خاصَّة الخاصَّة

- ‌ رياضة العامة

- ‌«منزلة الرياضة»

- ‌رياضة الخاصَّة:

- ‌رياضة خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة السَّماع

- ‌ سماع العامّة

- ‌سماع الخاصَّة

- ‌سماع خاصَّة الخاصَّة:

- ‌ منزلة الحزن

- ‌ حزن العامَّة

- ‌ حزن أهل الإرادة

- ‌ التحزُّن للمعارضات

- ‌ منزلة الخوف

- ‌ الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة

- ‌(الدرجة الثانية: خوف المكر

- ‌ منزلة الإشفاق

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌ الدرجة الثالثة

- ‌ منزلة الخشوع

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الإخبات

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الزُّهد

- ‌من أحسن ما قيل في الزُّهد

- ‌ الدرجة الأولى: الزُّهد في الشُّبهة بعد ترك الحرام

- ‌(الدرجة الثانية: الزُّهد في الفضول

- ‌(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد

- ‌ منزلة الورع

- ‌ الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح

- ‌(الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به

- ‌فصلالخوف يثمر الورع

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرجاء

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الرغبة

- ‌ الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر

- ‌(الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال

- ‌(الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشُّهود

- ‌ منزلة الرِّعاية

- ‌ منزلة المراقبة

- ‌ الدرجة الأولى: مراقبة الحقِّ تعالى في السَّير إليه

- ‌الدرجة الثانية: مراقبة نظر الحقِّ إليك برفض المعارضة

- ‌الاعتراض ثلاثة أنواعٍ سارية في الناس

- ‌النوع الأوَّل: الاعتراض على أسمائه وصفاته

- ‌النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره

- ‌(الدرجة الثالثة: مراقبةُ الأزل بمطالعة عين السبق

- ‌ منزلة تعظيم حرمات الله

- ‌(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره

- ‌(الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة

- ‌ منزلة الإخلاص

- ‌ الدّرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة التهذيب والتصفية

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الاستقامة

- ‌ الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد

- ‌(الدرجة الثانية: استقامة الأحوال

- ‌(الدرجة الثالثة: استقامةٌ بترك رؤية الاستقامة

- ‌ منزلة التوكُّل

- ‌الدرجة الثانية: إثبات الأسباب والمسبَّبات

- ‌الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد

- ‌الدرجة الخامسة: حسن الظنِّ بالله

- ‌الدرجة السّادسة: استسلام القلب له

- ‌الدرجة السابعة: التفويض

- ‌ الدرجة الأولى: التوكُّل مع الطلب ومعاطاة السبب

- ‌(الدرجة الثانية: التوكُّل مع إسقاط الطلب

- ‌ منزلة التفويض

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الثِّقة بالله

- ‌ الدرجة الأولى: درجة الإياس

- ‌(الدرجة الثانية: درجة الأمن

- ‌(الدرجة الثالثة: معاينة أزليَّة الحقِّ

- ‌ منزلة التسليم

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌ منزلة الصبر

- ‌(الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة

- ‌(الدرجة الثالثة: الصبرُ في البلاء

- ‌ منزلة الرِّضا

- ‌(الشرط الثالث: الخلاص من المسألة لهم والإلحاح)

- ‌ منزلة الشُّكر

- ‌ الدرجة الأولى: الشُّكر على المحابِّ

- ‌(الدرجة الثانية: الشُّكر في المكاره

- ‌(الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبدُ إلَّا المنعم

- ‌ منزلة الحياء

- ‌ منزلة الصِّدق

- ‌من علامات الصِّدق: طمأنينة القلب إليه

- ‌فصلفي كلماتٍ في حقيقة الصِّدق

- ‌ الدرجة الأولى: صدق القصد

- ‌(الدرجة الثانية: أن لا يتمنَّى الحياة إلا للحقِّ

- ‌(الدرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصِّدق

الفصل: ‌ منزل الإنابة

فصل

فقد علمت أنَّ من نزل في منزل التَّوبة وقام في مقامها نزل في جميع منازل الإسلام، وأنَّ التّوبة الكاملة متضمِّنةٌ لها وهي مندرجة فيها، ولكن لا بدّ من إفرادها بالذِّكر والتّفصيل تبيينًا لحقائقها وخواصِّها وشروطها.

فإذا استقرّت قدمه في منزل التّوبة نزل بعده‌

‌ منزل الإنابة

، وقد أمر به تعالى

(1)

في كتابه، وأثنى على خليله به، فقال:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54]، وقال:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75].

وأخبر أنّ آياته إنّما يتبصّر بها ويتذكّر أهل الإنابة فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6 - 8]، وقال تعالى:{(12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ وَيُنزِلُ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ} [غافر: 13].

وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 30 - 31]، و {مُنِيبِينَ} منصوبٌ على الحال من الضّمير المستكنِّ في قوله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} ، لأنّ هذا الخطاب له ولأمَّته، أي: أقم وجهك أنت وأمّتك منيبين إليه، نظيره:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، ويجوز أن يكون حالًا من المفعول في قوله {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}

ص: 55

أي: فطرهم منيبين إليه، فلو خُلُّوا وفِطَرَهم لما عَدَلتْ عن الإنابة إليه، ولكنَّها تُحوَّل وتغيَّر عمَّا فطرت عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولودٍ إلّا يولد على هذه الملَّة

(1)

حتى يُعرِب عنه لسانُه»

(2)

.

وقال عن نبيِّه داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} [ص: 24].

وأخبر أنّ ثوابه وجنّته لأهل الخشية والإنابة فقال: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [ق: 31 - 34].

وأخبر سبحانه أنَّ البشرى منه إنّما هي لأهل الإنابة فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17].

والإنابة إنابتان: إنابة لربوبيّته، وهي إنابة المخلوقات كلِّها، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، قال الله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33]، فهذا عامٌّ في حقِّ كلِّ داعٍ أصابه ضرٌّ، كما هو الواقع، وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام، بل تجامع الشِّرك والكفر، كما قال تعالى في حقِّ هؤلاء:{ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم: 33 - 34] فهذا حالهم بعد إنابتهم.

(1)

السياق في ع: «على الفطرة ــ وفي رواية: على الملة ــ» .

(2)

أخرجه أحمد (7445)، ومسلم (2658/ 23) من حديث أبي هريرة بنحوه. وأخرجه أيضًا أحمد (15589)، وأبو يعلى (942)، وابن حبان (132) وغيرهم من حديث الأسود بن سَريع بنحوه.

ص: 56

والإنابة الثانية: إنابةُ أوليائه، وهي إنابةٌ لإلهيَّته إنابةَ عبوديّةٍ ومحبّةٍ. وهي تتضمّن أربعة أمورٍ: محبّته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه، فلا يستحقُّ اسم المنيب إلَّا من اجتمعت فيه هذه الأربعة، وتفسير السّلف لهذه اللفظة يدور على ذلك.

وفي اللَّفظة معنى الإسراع والرُّجوع والتّقدُّم، فالمنيب إلى الله المسرع إلى مرضاته، الراجع إليه كلَّ وقتٍ، المتقدِّم إلى محابِّه.

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (الإنابة في اللُّغة الرُّجوع، وهي هاهنا الرُّجوع إلى الحقِّ. وهي ثلاثة أشياء: الرُّجوع إلى الحقِّ إصلاحًا، كما رجع إليه اعتذارًا؛ والرُّجوع إليه وفاءً، كما رجع إليه عهدًا؛ والرُّجوع إليه حالًا، كما رجع إليه إجابةً).

لمَّا كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته، كان من تتمَّة ذلك رجوعُه إليه بالاجتهاد والنُّصح في طاعاته

(2)

، كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70]، وقال:{(159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160]؛ فلا تنفع توبةٌ وبطالةٌ، فلا بدَّ من توبةٍ وعملٍ صالحٍ: تركٌ

(3)

لما يَكره وفعلٌ لما يحبُّ، تخلٍّ عن معصيته وتحلٍّ بطاعته.

(1)

(ص 12) دون الجملة الأولى في تعريف الإنابة لغةً وشرعًا، فإنها من كلام التلمساني في «شرحه» (ص 77)، والمؤلف صادر عنه، فلعله التبس عليه كلامُ الشارح بكلام الماتن.

(2)

م، ج، ن، ع:«طاعته» .

(3)

كذا مضبوطًا بالرفع في الأصل ول. ويصح الجرُّ على البدل.

ص: 57

وكذلك الرُّجوع إليه بالوفاء بعهده؛ كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك، فرجعت إليه بالدُّخول تحت عهده أوَّلًا= فعليك بالرُّجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيًا.

والدِّين كلُّه عهدٌ ووفاءٌ، فإنَّ الله أخذ عهده على جميع المكلَّفين بطاعته، فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته، أو منه إلى الرسول بلا واسطةٍ كما كلَّم موسى، وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرُّسل، وأخذ عهده على الجهَّال بواسطة العلماء، فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم، وعلى هؤلاء بالتعلُّم، ومدَحَ المُوفِين بعهده، وأخبرهم بما لهم عنده من الأجر فقال:{وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، وقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]

(1)

، وقال:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، وقال:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]، وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطَّاعة، وعهودهم مع الخلق.

وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ من علامات النِّفاق الغدرَ بعد العهد

(2)

.

فما أناب إلى الله من خان عهده وغدر به، كما أنَّه لم يُنِب

(3)

إليه من لم يدخل تحت عهده، فالإنابة لا تتحقَّق إلَّا بالتزام العهد والوفاء به.

(1)

في م مكان هذه الآية: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]

(2)

كما في حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري (34) ومسلم (58).

(3)

ظاهر النقط في الأصل ول: «يتُب» ، والمثبت من سائر النسخ هو الصواب.

ص: 58

وقوله: (والرُّجوع إليه حالًا، كما رجعت

(1)

إليه إجابةً)، أي: هو سبحانه قد دعاك فأجبتَه بلبَّيك وسعديك قولًا، فلا بدَّ من الإجابة حالًا تصدِّق به المقال، فإنَّ الأحوال تصدِّق الأقوال أو تكذِّبها، وكلُّ قولٍ فلصدقه وكذبه شاهدٌ من حال قائله؛ فكما رجعت إليه إجابةً بالمقال، فارجِعْ إليه إجابةً بالحال. قال الحسن رحمه الله: ابنَ آدم، لك قولٌ وعملٌ، وعملك أولى بك من قولك؛ ولك سريرةٌ وعلانيةٌ، وسريرتك أَمْلَكُ بك من علانيتك

(2)

.

فصل

قال

(3)

: (وإنَّما يستقيم الرُّجوع إليه إصلاحًا بثلاثة أشياء: بالخروج من التّبعات، والتّوجُّع للعثرات، واستدراك الفائتات).

(الخروج من التّبعات) هو بالتَّوبة من الذُّنوب التي بين العبد وبين الله تعالى، وأداءِ الحقوق التي عليه للخلق.

(والتّوجُّع للعثرات) يحتمل شيئين:

أحدهما: أن يتوجَّع لعثرته إذا عثر، فيتوجَّع قلبه وينصدع، فهذا دليلٌ على إنابته إلى الله، بخلاف من لا

(4)

يتألَّم قلبه ولا ينصدع من عثرته، فإنّه دليلُ فساد قلبه وموته.

(1)

كذا هنا، ولفظ «المنازل» كما سبق قريبًا:«رجع» .

(2)

أسنده ابن المبارك في «الزهد» (77) ــ ومن طريقه ابن أبي الدنيا في «الصمت» (629) ــ والإمام أحمد في «الزهد» (ص 343) من طريقين عن الحسن بنحوه.

(3)

«منازل السائرين» (ص 13).

(4)

م، ع:«لم» .

ص: 59

الثاني: أن يتوجَّع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر، حتَّى كأنَّه هو الذي

(1)

عثر بها، ولا يَشْمَت به، فهو دليلٌ على رقّة قلبه وإنابته.

(واستدراك الفائتات) هو استدراك ما فاته من طاعةٍ وقربةٍ بأمثالها أو خيرٍ منها، ولاسيّما في بقيَّة عمره عند قرب رحيله إلى الله تعالى، فبقيَّة عمر المؤمن لا قيمة لها

(2)

، يستدرك بها ما فات، ويُحيي بها ما أمات.

فصل

قال

(3)

: (وإنَّما يستقيم الرُّجوع إليه وفاءً

(4)

بثلاثة أشياء: بالخلاص من لذَّة الذّنب، وبترك

(5)

الاستهانة بأهل الغفلة تخوُّفًا عليهم مع الرَّجاء لنفسك، وبالاستقصاء في رؤية علَّة

(6)

الخدمة).

إذا صَفَتْ له الإنابةُ إلى ربِّه تخلَّص من الفكرة في لذَّة الذنب، وعاد

(7)

(1)

«الذي» ساقطة من ع.

(2)

أي: هي فوق أن يقدَّر لها ثَمَن، لعزَّتها وعِظَم خطرها. وبهذا المعنى أيضًا سيأتي (4/ 17) في قوله: «

فتصير أوقاته التي هي مادَّة حياته ــ ولا قيمة لها ــ مستغرقةً في قضاء حوائجهم

». وانظر: «الروح» (ص 633) و «الداء والدواء» (ص 81).

(3)

«منازل السائرين» (ص 13).

(4)

في جميع النسخ: «عهدًا» إلا أنه ضرب عليه في ل وكتب مكانه ما أثبتناه، وهو لفظ «المنازل» ، وقد سبق (ص 57) على الصواب في مطلع كلام صاحب «المنازل» على منزلة «الإنابة» وأنها تكون بثلاثة أشياء، ثانيها:«الرجوع إليه وفاءً» .

(5)

ل: «وترك» .

(6)

لفظ «المنازل» : «علل» ، وهو الذي سيأتي في كلام المؤلف قريبًا.

(7)

ل: «وأعاد» .

ص: 60

مكانها ألمًا وتوجُّعًا لذكره والفكرة فيه، فما دامت لذَّة الفكر

(1)

فيه موجودةً في قلبه فإنابته غير صافيةٍ.

فإن قيل: أيُّ الحالين أعلى: حال من يجد لذَّة الذنب في قلبه فهو يجاهدها لله ويتركها من خوفه ومحبَّته وإجلاله، أو حال من ماتت لذّة الذنب في قلبه وصار مكانها ألمًا وتوجُّعًا وطمأنينةً إلى ربِّه وسكونًا إليه والتذاذًا بحبِّه وتنعُّمًا بذكره؟

قيل: حال هذا أرفع وأكمل، وغاية صاحب المجاهدة أن يجاهد نفسه حتَّى يصل إلى مقام هذا ومنزلته، ولكنَّه تاليه في المنزلة والقربِ ومنوطٌ به.

فإن قيل: فأين أجر مجاهدة صاحب اللَّذَّة، وتركِه محابَّه لله، وإيثارِه رضى الله على هواه؟ وبهذا كان النوع الإنسانيُّ أفضل من النّوع الملكيِّ عند أهل السنَّة

(2)

وكانوا خيرَ البريَّة، والمطمئنُّ قد استراح من

(3)

هذه المجاهدة وعُوفي منها، فبينهما من التَّفاوت ما بين درجة المعافى والمُبتلى.

قيل: النّفس لها ثلاثة أحوالٍ: الأمر بالذَّنب، ثمَّ اللَّوم عليه والنَّدم منه، ثمَّ الطُّمأنينة إلى ربِّها والإقبال بكلِّيَّتها عليه، وهذه الحال أعلى أحوالها وأرفعُها. وهي التي يشمِّر إليها المجاهد، وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطُّمأنينة إلى الله، فهو بمنزلة مرتكب القِفار

(1)

م، ج، ن:«الفكرة» .

(2)

انظر هذه المسألة عند شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (4/ 350 - 392) وعند المؤلف في «بدائع الفوائد» (3/ 1104).

(3)

في ع زيادة: «ألم» .

ص: 61

والمَهامِهِ

(1)

والأَهوال ليصل إلى البيت فيطمئنَّ قلبه برؤيته والطَّواف به. والآخَرُ

(2)

بمنزلة من هو مشغولٌ به طائفًا وقائمًا، وراكعًا وساجدًا، ليس له التفاتٌ إلى غيره؛ فهذا مشغول بالغاية، وذاك بالوسيلة، وكلٌّ له أجر، ولكن بين أجر الغايات وأجر الوسائل بَونٌ.

وما يحصل للمطمئنِّ من الأحوال والعبوديَّة والإيمان فوق ما يحصل لهذا المجاهد نفسَه في ذات الله تعالى وإن كان أكثرَ عملًا، فقدر عمل المطمئنِّ المنيب بجملته وكيفيَّته أعظم وإن كان هذا المجاهد أكثر عملًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فما سبق الصِّدِّيق الصّحابةَ بكثرة عملٍ، وفيهم

(3)

من هو أكثر صيامًا وحجًّا وقراءةً وصلاةً منه، ولكن بأمرٍ آخر قام بقلبه، حتّى إنَّ أفضل الصّحابة

(4)

يسابقه

(5)

ولا يراه إلَّا أمامه

(6)

.

ولكن عبوديّة مجاهدٍ نفسَه على لذَّة الذَّنب والشَّهوة قد تكون أشقّ، ولا يلزم من مشقَّتها تفضيلُها في الدَّرجة، فأفضل الأعمال الإيمان بالله، والجهاد

(1)

المَهامِه: جمع المَهْمَه، وهي المفازة البعيدة.

(2)

في الأصل وغيره: «والمتأخر» ، ولعل المثبت من ع أشبه.

(3)

م: «ومنهم» . ج، ن:«وبينهم» .

(4)

أُلحق هنا في هامش ش مصححًا عليه: «بعده» ، ورمز له بـ «ظ» ، أي: الظاهر عند الناسخ صحة هذه الزيادة ليستقيم المعنى.

(5)

ع: «كان يسابقه» .

(6)

لعله يشير إلى قصة عمر المشهورة معه في المسابقة إلى الصدقة بأكثر ما يمكنهما، وقول عمر في آخرها:«لا أسابقك إلى شيءٍ أبدًا» . أخرجها أبو داود (1678) والترمذي (3675) والدارمي (1701) والحاكم (1/ 414) والضياء في «المختارة» (1/ 173، 174) بإسناد حسن.

ص: 62

أشقُّ منه وهو تاليه في الدرجة، ودرجة الصِّدِّيقين أعلى من درجة المجاهدين والشُّهداء، وفي «مسند الإمام أحمد رحمه الله»

(1)

من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذُكر عنده الشُّهداء فقال: «إنَّ أكثر شهداء أمّتي لأصحابُ الفرش، ورُبَّ قتيلٍ بين الصَّفَّين اللهُ أعلم بنيَّته» .

فصل

ومن علامات الإنابة تركُ الاستهانة بأهل الغفلة والخوفِ عليهم مع فتحك بابَ الرَّجاء لنفسك، فترجو لنفسك الرّحمة وتخشى على أهل الغفلة النِّقمة، ولكن ارجُ لهم الرّحمة واخشَ على نفسك النِّقمة

(2)

، فإن كنت لا بدَّ مستهينًا بهم ماقتًا لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه، فكن لنفسك أشدَّ مقتًا منك لهم، وكن لهم أرجى لرحمة الله منك لنفسك.

قال بعض السَّلف: لن تفقه كلَّ الفقه حتَّى تمقت الخلق

(3)

في ذات الله، ثمّ تُقبل على

(4)

نفسك فتكون لها أشدَّ مقتًا

(5)

.

(1)

برقم (3772)، وقد أُعلَّ بابن لهيعة وبجهالة «أبي محمد» الراوي عن ابن مسعود. فأمَّا العلّة الأولى فمدفوعة بمتابعة الليث بن سعد له عند ابن أبي شيبة في «مسنده» (403)، وأما الثانية فبأن الراوي عن أبي محمد قد وصفه بأنه كان من أصحاب ابن مسعود»، والأصل في أصحابه أنهم كلهم ثقات. وعليه فإسناده حسن إن شاء الله.

(2)

«ولكن

النقمة» سقط من ج، ن لانتقال النظر.

(3)

ع: «الناس» .

(4)

ع: «ترجع إلى» .

(5)

رُوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه. أخرجه معمر في «جامعه» (20473) وابن أبي شيبة (35726) وأحمد في «الزهد» (ص 167) وكذا أبو داود (242) وغيرهم من طريق أيوب عن أبي قلابة عنه، وهو مرسل لأن أبا قلابة لم يُدرك أبا الدرداء، إلا أن يكون حدَّثته بذلك أم الدرداء (الصغرى) فإن له نظائر.

ص: 63

وهذا الكلام لا يعلم معناه إلَّا الفقيه في دين الله تعالى، فإنّ من شهد حقيقة الخلق وعجزَهم وضعفَهم وتقصيرَهم، بل تفريطَهم وإضاعتَهم لحقِّ الله وإقبالَهم على غيره، وبيعَهم حظَّهم من الله بأبخس الثَّمن من هذا العاجل الفاني= لم يجد بدًّا من مقتهم، ولم يمكنه غير ذلك البتَّة، ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره، وكان على بصيرةٍ من ذلك= كان لنفسه أشدَّ مقتًا واستهانةً؛ فهذا هو الفقيه.

وأمَّا (الاستقصاء في رؤية علل الخدمة)

(1)

فهو التّفتيش عمَّا يشوبها من حظوظ النفس، وتمييز حقِّ الربِّ منها من حظِّ النّفس، ولعلَّ أكثرها أو كلَّها أن تكون حظًّا لنفسك وأنت لا تشعر.

فلا إله إلَّا الله، كم في النُّفوس من عللٍ وأغراضٍ وحظوظٍ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصةً وأن تصل إليه! وإنَّ العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشرٌ البتَّة وهو غير خالصٍ لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقًا وهو خالصٌ لوجه الله، ولا يميِّز هذا من هذا إلَّا أهلُ البصائر وأطبَّاء القلوب العالمون بأدوائها وعللها.

فبين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قطَّاعٌ تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثيرَ العمل وما وصل منه إلى قلبه محبّةٌ ولا خوفٌ ولا رجاءٌ، ولا زهدٌ في الدُّنيا ورغبةٌ في الآخرة، ولا نورٌ يفرِّق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحقِّ والباطل، ولا قوَّةٌ في أمره. فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحقَّ والباطل، وميَّز بين أولياء الله

(1)

الخدمة: حقُّ العبودية وأدبها وواجبها، كما سيأتي في كلام المؤلف (ص 173).

ص: 64

وأعدائه، فأوجب

(1)

له ذلك المزيد من الأحوال.

ثمَّ بين القلب وبين الرّبِّ مسافة، وعليها قطَّاعٌ تمنع وصول العمل إليه، من كبرٍ وإعجابٍ وإدلالٍ، ورؤية العمل ونسيان المنَّة، وعللٍ خفيَّةٍ لو استقصى في طلبها لرأى العجب، ومن رحمة الله سَتْرُها على أكثر العُمَّال، إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشدُّ منها، من اليأس والقنوط، والاستحسار وترك العمل، وخمود العزم وفتور الهمَّة. ولهذا لمّا ظهرت «رعاية أبي عبد الله الحارث بن أسدٍ المحاسبيِّ»

(2)

واشتغل بها العبَّاد عطِّلت منهم مساجد كانوا يَعْمُرونها بالعبادة. والطّبيب الحاذق يعلم كيف يَطُبُّ النُّفوس، فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرًا.

فصل

قال

(3)

: (وإنّما يستقيم الرُّجوع إليه حالًا بثلاثة أشياء: بالإياس من عملك، وبمعاينة

(4)

اضطرارك، وشَيْم برقِ لطفه بك).

الإياس من العمل يفسَّر بشيئين:

(1)

ل، ج، ن، ع:«وأوجب» .

(2)

وهو مطبوع. ألَّفه جوابًا لمن سأله عن الرعاية لحقوق الله عز وجل والقيام بها. وقد فصَّل فيه في ذكر الآفات التي تعرض للعلم والعمل تفصيلًا مطوَّلًا حيث عقد أبوابًا كثيرة في الرياء والعجب والغِرَّة (أي: الاغترار) وأسبابها وصورها وعلاماتها وأحوال الناس فيها، مما قد يجعل القارئ تفتر همَّته ويترك العمل مخافة الوقوع في تلك الآفات.

(3)

«منازل السائرين» (ص 13).

(4)

ج، ن:«ومعاينة» ، وهو لفظ «المنازل» ، والمثبت من سائر النسخ موافق للفظ المتن في «شرح التلمساني» (ص 79).

ص: 65

أحدهما: أنّه إذا نظر بعين الحقيقة إلى الفاعل الحقِّ والمحرِّك الأوَّل، وأنَّه لولا مشيئته لما كان منك فعلٌ، فمشيئته أوجبت فِعلكَ لا مشيئتُك= بقي

(1)

بلا فعلٍ. فهاهنا تنفع مشاهدة القدر والفناءُ عن رؤية الأعمال.

والثاني: أن تيأس من النَّجاة بعملك، وترى النَّجاة

(2)

إنّما هي برحمته وعفوه وفضله، كما في «الصَّحيح»

(3)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لن يُنجي أحدًا منكم عملُه» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ» .

فالمعنى الأوَّل يتعلَّق ببداية الفعل، والثَّاني بغايته ومآله.

وأمَّا (معاينة الاضطرار)، فإنَّه إذا يئس من عمله بدايةً والنَّجاة به نهايةً شهد

(4)

اضطراره إلى الله، بل شهد في كلِّ ذرّةٍ منه ضرورةً تامَّةً إليه، وليست ضرورته من هذه الجهة وحدها، بل من جميع الجهات، وجهاتُ ضرورته لا تنحصر بعددٍ، ولا لها سببٌ، بل هو مضطرٌّ إليه بالذَّات، كما أنّ الله غنيٌّ بالذَّات، فإنَّ الغنى وصفٌ ذاتيٌّ للربِّ، والفقر والحاجة والضَّرورة وصفٌ ذاتيٌّ للعبد. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة

(5)

:

والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا

كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتِي

(1)

جواب «إذا نظر

».

(2)

ج، ن:«أن النجاة» .

(3)

البخاري (5673، 6463) ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

«الاضطرار

شهد» ساقط من ج، ن.

(5)

في مقطوعة له مشهورة سيأتي بعض أبياتها (ص 200 - 201). وهي بتمامها في «العقود الدرية» (ص 450 - 451).

ص: 66

وأمّا (شَيْم برق لطفه بك)، فإنَّه إذا تحقَّق له قوَّةُ ضرورتِه

(1)

، وأيس من عمله والنَّجاة به= نظر إلى ألطاف الله وشام برقها، وعلم أنَّ كلَّ ما هو فيه وما يرجوه وما تقدَّم له لطفٌ من الله به، ومنَّةٌ منَّ بها عليه، وصدقةٌ تصدَّق بها عليه بلا سببٍ منه، إذ هو المحسن بالسَّبب والمسبَّب، والأمر له من قبل ومن بعد، وهو الأوّل والآخر، لا إله غيره، ولا ربّ سواه.

* * * *

(1)

ج، ن:«قوة وضرورية» ، وفي ع والنسخ المطبوعة:«قوة ضروريَّة» ، كلاهما خطأ.

ص: 67