الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة تعظيم حرمات الله
.
قال تعالى: {يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ} [الحج: 30]. قال جماعةٌ من المفسِّرين رضي الله عنهم: حرمات الله هاهنا معاصيه وما نهى عنه، وتعظيمُها ترك ملابستها. قال اللَّيث رحمه الله
(1)
: حرمات الله: ما لا يحلُّ انتهاكها
(2)
. وقال قوم: الحرمات هي الأمر والنهي. قال الزجَّاج
(3)
: الحرمة ما وجب القيام به وحَرُم التفريط فيه. وقال قوم: الحرمات هاهنا المناسك ومشاعر الحجِّ زمانًا ومكانًا
(4)
.
والصواب: أنَّ الحرمات تعمُّ هذا كلَّه. وهي جمع حرمةٍ، وهي ما يجب احترامه وحفظُه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن، فتعظيمها توفيتُها حقَّها وحفظُها من الإضاعة.
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(5)
: (الحرمة: هي التحرُّج عن المخالفات والمجاسرات).
(1)
هو الليث بن المظفر، صاحب الخليل، جامع «كتاب العين» ، وقوله فيه (3/ 222). ونقله عنه الأزهري في «تهذيب اللغة» (5/ 44).
(2)
ع: «انتهاء كلها» ، تحريف.
(3)
«معاني القرآن وإعرابه» (3/ 424).
(4)
الأقوال المذكورة كلها من «تفسير البغوي» (5/ 382 - 383).
(5)
(ص 30).
التحرُّج: الخروج من حرج المخالفة. وبناء (تفعَّلَ) يكون للدُّخول في الشّيء، كـ (تمنَّى) إذا دخل في الأمنية، و (تولَّج في الأمر) ونحوه؛ وللخروج منه، كـ (تحرَّج) و (تحوَّب) و (تأثَّم)، إذا أراد الخروج من الحرج والحوب والإثم.
أراد أنَّ الحرمة هي الخروج من حرج المخالفة وجسارة الإقدام عليها. ولمَّا كان المخالف قسمين جاسرًا وهائبًا قال: (عن المخالفات والمجاسرات).
قال
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ. الدرجة الأولى: تعظيم الأمر والنهي، لا خوفًا من العقوبة فيكونَ خصومةً للنفس، ولا طلبًا للمثوبة فيكونَ مستشرفًا
(2)
للأُجرة، ولا مشاهدًا لأحدٍ فيكونَ متزيِّنًا
(3)
بالمراياة؛ فإنَّ هذه الأوصاف كلَّها شُعَب من عبادة النفس).
هذا الموضع يكثر في
(4)
كلام القوم. والناس بين معظِّمٍ له ولأصحابه معتقدٍ أنَّ هذا أرفع درجات العبوديَّة
(5)
: أن لا يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه خوفًا من عِقابه ولا طمعًا في ثوابه، فإنَّ هذا واقفٌ مع غرضه وحظِّ نفسه، وأنَّ
(1)
«المنازل» (ص 30).
(2)
ج، ن:«مسترقًّا» ، وكذا في «المنازل» ، وعليه شرحه التلمساني (ص 176).
(3)
لفظ مطبوعة «المنازل» : «متديِّنًا» ، وعليه شرحه التلمساني.
(4)
في هامش م: «فيه» مرموزًا له بـ «خ» .
(5)
لم يذكر المؤلف هنا الفئة المقابلة من الناس، وسيأتي ذكرهم في الفصل القادم، والتقدير: أن الناس بين معظِّم له ولأصحابه .... وبين منكرٍ عليهم جاعلٍ ذلك من شطحات القوم ورعوناتهم.
المحبَّة تأبى ذلك، فإنَّ المحبَّ لا حظَّ له مع محبوبه، فوقوفه مع حظِّه علَّةٌ في محبَّته. وأنَّ طمعه في الثواب تطلُّعٌ إلى أنَّه يستحقُّ بعمله على الله أُجرةً، ففي هذا آفتان: تطلُّعه إلى الأُجرة، وإحسان ظنِّه بعمله، إذ تطلُّعه إلى استحقاق الأجرِ به
(1)
، وخوفُه من العقاب= خصومةٌ للنَّفس، فإنَّه لا يزال يخاصمها إذا خالفت
(2)
ويقول: أَما تخافين النَّار وعذابَها وما أعدَّ الله لأهلها؟! فلا تزال الخصومة بذلك بينه وبين نفسه
(3)
.
ومن وجهٍ آخرَ أيضًا: وهو أنَّه كالمخاصم عن نفسه، المدافع عنها لخصمه الذي يريد هلاكه، وهو عين الاهتمام بالنَّفس والالتفاتِ إلى حظوظها مخاصمةً عنها واستدعاءً لها ما تلتذُّ به.
ولا يخلِّصه من هذه المخاصمة وذلك الاستشراف إلَّا تجريدُ القيام بالأمر والنهي من كلِّ علَّةٍ، بل يقوم به تعظيمًا للآمر الناهي، وأنَّه أهلٌ أن يعبد وتعظَّمَ حرماتُه ولو لم يخلق جنةً ولا نارًا، فهو يستحقُّ العبادة والتعظيم والإجلال لذاته، كما في الأثر الإسرائيليِّ:«لو لم أخلق جنةً ولا نارًا، أما كنتُ أهلًا أن أُعبَد؟»
(4)
.
(1)
ش: «استحقاق الأجرة» .
(2)
ش: «خالفته» .
(3)
هذا ما فسَّره به التلمساني (ص 176)، لكنه مخالف لمقصود الماتن، لأنه قال في آخره:«هذه الأوصاف كلَّها شُعَب من عبادة النفس» ، وليس مخاصمته للنفس من عبادتها في شيء، وإنما يكون ذلك إذا خاصم عنها ودافع عنها. والظاهر أن المؤلف أدرك ذلك فأتبعه بالتفسير الآتي.
(4)
ذكره في «قوت القلوب» (2/ 56) على أنه نقله وهب بن منبه من الزبور.
ومنه قول القائل
(1)
:
هَبِ البعثَ لم تأتنا رُسْلُه
…
وجاحِمةُ النار لم تُضْرَمِ
أليس من الواجب المُستَحَقّْ
…
على ذي الورى الشُّكرُ للمنعم
فالنُّفوس العليَّة الزكيَّة تعبده لأنَّه أهلٌ أن يُعبَد ويُجَلَّ ويحبَّ ويعظَّم، فهو لذاته مستحقٌّ للعبادة.
قالوا: ولا يكون العبد كأجير السوء، إن أُعطي أجرَه عمل وإلَّا
(2)
لم يعمل، فهذا عبد الأُجرة لا عبد المحبَّة والإرادة.
قالوا: والعمَّال شاخصون إلى منزلتين: منزلة الأجرة، ومنزلة القربة
(3)
من المطاع. قال تعالى في حقِّ نبيِّه داود صلى الله عليه وسلم: {عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَادَاوُودُ} [ص: 25]، فالزُّلفى منزلة القرب، وحسن المآب حسن الثواب والجزاء.
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فالحسنى الجزاء، والزِّيادة منزلة القربة
(4)
، ولهذا فسِّرت بالنظر إلى وجه الله عز وجل
(5)
.
(1)
البيت الأول للوزير الحسن بن محمد المُهلَّبي (ت 352) كما في «يتيمة الدهر» (2/ 240)، والثاني عنده:
أليس بكافٍ لذي فكرةٍ
…
حياءُ المسيء من المُنعم
وأنشدهما ابن الجوزي في «المدهش» (ص 494) والمؤلف أيضًا في «مفتاح دار السعادة» (2/ 1082) باختلاف الشطر الرابع.
(2)
ع: «وإن لم يُعطَ» .
(3)
م، ش:«القرب» . وكذا غيَّره بعضهم في ل.
(4)
م، ش:«القرب» . وكذا غيَّره بعضهم في ل.
(5)
كما عند مسلم (181) من حديث صهيب رضي الله عنه مرفوعًا.
وهذان هما اللَّذان وعدهما فرعون للسحرة إن غلبوا موسى، فقالوا له:{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 41 - 42].
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
قالوا: فالعارفون عملهم على المنزلة والدَّرجة، والعمَّال عملهم على الثواب والأجرة، وشتَّان ما بينهما!
فصل
وطائفةٌ ثانيةٌ تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم. وتحتجُّ بأحوال الأنبياء والرُّسل والصِّدِّيقين، ودعائهم وسؤالهم، والثَّناء عليهم
(1)
بخوفهم من النار ورجائهم للجنَّة، كما قال تعالى في حقِّ خواصِّ عباده الذين عبدهم المشركون: إنَّهم يرجون رحمته ويخافون عذابه كما تقدَّم
(2)
.
وقال عن أنبيائه ورسله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 89 - 90]، أي رغبًا فيما عندنا ورهبًا من عذابنا. والضمير في قوله:{إِنَّهُمْ} عائدٌ
(1)
«والثناء عليهم» ساقط من ع.
(2)
في آية الإسراء (ص 259).
على الأنبياء المذكورين في هذه السُّورة عند عامَّة المفسِّرين
(1)
. والرَّغَب والرَّهَب: رجاء الرحمة والخوف من النار عندهم أجمعين.
وذكر سبحانه عباده الذين هم خواصُّه
(2)
، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم، وجعل منها استعاذتَهم به من النار فقال:{يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)} [الفرقان: 65 - 66].
وأخبر عنهم أنَّهم توسَّلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار، فقال تعالى:{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16]، فجعلوا أعظم وسائلهم إليه ــ وسيلةَ الإيمان ــ أن ينجيهم من النار.
وأخبر تعالى عن العارفين
(3)
أولي الألباب والفكر أنَّهم كانوا يسألونه جنَّته ويتعوَّذون به من ناره، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا
(1)
هو قول البغوي في «تفسيره» (5/ 353) ولم ينسبه إلى أحد. وقال الطبري في «تفسيره» (16/ 389) أن الضمير عائد إلى زكريا وزوجه ويحيى فقط. وذكر ابن الجوزي القولين في «زاد المسير» (5/ 385). وأما قول المؤلف: «عند عامَّة المفسرين» ، فأخشى أن يكون انتقل نظره إلى السطر الذي قبله في «تفسير البغوي» حيث قال فيه بعد ذكر تفسير {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}:«قاله أكثر المفسرين» .
(2)
ع: «خواصُّ خلقه» .
(3)
ع: «سادات العارفين» .
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 190 - 194]، ولا خلاف أنَّ الموعود به على لسان رسله الذي
(1)
سألوه هو الجنة.
وقال عن خليله إبراهيم ــ صلى الله على نبينا وعليه وسلَّم ــ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 82 - 87]، فسأل الله الجنَّة واستعاذ به من خزيِ يوم البعث.
وأخبر سبحانه عن الجنَّة: أنَّها كانت وعدًا عليه مسؤولًا، أي يسأله إيَّاها عبادُه وأولياؤه
(2)
.
وأمر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته أن يسألوا له في وقت الإجابة عقيبَ الأذان أعلى منزلةٍ في الجنَّة، وأخبرهم أنَّ من سألها له حلَّت عليه شفاعته
(3)
.
(1)
وفي عامَّة النسخ: «الذين» ، خطأ. والمثبت من ش، وهو نعت للموعود. والسياق في ع:«الموعود به على ألسنة رسله هي الجنة التي سألوها» .
(2)
(3)
كما عند مسلم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي (الوسيلة) فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي (الوسيلة) حلَّت له الشفاعة» .
وقال له سُليمٌ الأنصاريُّ: أما إنِّي أسأل الله الجنة، وأعوذ
(1)
به من النار، لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذٍ، فقال:«أنا ومعاذٌ حولها نُدندِن»
(2)
.
وفي «الصحيح»
(3)
في حديث الملائكة السيَّارة الفُضُلِ عن كُتَّاب الناس: «إنَّ الله تعالى يسألهم عن عباده فيقولون: أتيناك من عند عبادٍ لك يهلِّلونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجِّدونك، فيقول عز وجل: وهل رأوني؟ فيقولون: لا يا ربِّ ما رأوك، فيقول عز وجل: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك لكانوا لك أشدَّ تمجيدًا. قالوا: يا ربِّ ويسألونك جنَّتك، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا وعزَّتِك ما رأوها، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا لها أشدَّ طلبًا. قالوا: ويستعيذونك
(4)
من النار، فيقول عز وجل: وهل رأوها؟ فيقولون: لا وعزَّتِك ما رأوها، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشدَّ منها هربًا، فيقول: أشهدكم أنِّي قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأعذتهم ممَّا استعاذوا منه».
والقرآن والسنَّة مملوءان من الثناء على عباده وأوليائه بسؤاله
(5)
الجنَّة ورجائها، والاستعاذة من النار والخوف منها.
(1)
ع: «وأستعيذ» .
(2)
حديث صحيح، وقد سبق تخريجه (ص 279).
(3)
أخرجه البخاري (6408) ومسلم (2689) من حديث أبي هريرة.
(4)
ع: «ويستعيذون بك» .
(5)
في النسخ عدا الأصل، ل:«بسؤال» .
قالوا: وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «استعيذوا بالله من النار»
(1)
، وقال لمن سأله مرافقته في الجنة:«أعنِّي على نفسك بكثرة السُّجود»
(2)
.
قالوا: والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصودٌ للشارع من أمَّته ليكونا دائمًا على ذكرٍ منهم فلا ينسونهما، ولأنَّ الإيمان بهما شرطٌ في النجاة، والعملُ على حصول الجنَّة والنجاة من النار هو محض الإيمان.
قالوا: وقد حضَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها أصحابَه وأمَّته بوصفها، وحلَّاها
(3)
لهم ليخطبوها
(4)
، وقال: «ألا مشمِّرٌ للجنَّة؟ فإنَّها ـ وربِّ الكعبة ــ نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزُّ، وزوجة حسناء، وفاكهة نضيجة، وقصر مشيد، ونهر مطَّردٌ
…
» الحديث، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، نحن المشمِّرون لها، فقال:«قولوا: إن شاء الله»
(5)
.
ولو ذهبنا نذكر ما في السنَّة من قوله: «من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنَّة» تحريضًا على عمله لأجلها
(6)
، وأن تكون هي الباعثة على العمل=
(1)
أخرجه مسلم (2867) من حديث أبي سعيد الخدري عن زيد بن ثابت بنحوه.
(2)
أخرجه مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي.
(3)
أي: زيَّنها لهم. في ج، ع:«جلاها» ، وكذا في المطبوعات. والمثبت أولى وأوفق للسياق.
(4)
م، ش:«ليخطبونها» ، وكذا كان في الأصل ثم أُصلح. في ج:«ليحيطوا بها» ، وفي ن:«ليحضوا بها» ، كلاهما تصحيف.
(5)
أخرجه ابن ماجه (4332) والبزَّار (2591) وابن حبَّان (7381) والضياء في «المختارة» (4/ 132) وغيرهم من حديث أسامة بن زيد. وإسناده ضعيف؛ فيه راوٍ مجهول وآخر متكلَّم فيه. انظر: «الضَّعيفة» (3358).
(6)
ع: «لها» .
لطال ذلك جدًّا، وذلك في جميع الأعمال.
قالوا: فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولًا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحرِّض عليه؟! ويقول: «من فعل كذا فتحت له أبواب الجنَّة الثمانية»
(1)
، و «من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلةٌ في الجنَّة»
(2)
، و «من كسا مسلمًا على عُرْيٍ كساه الله من حُلَل الجنَّة»
(3)
، و «عائد المريض في خُرْفة الجنَّة»
(4)
، والحديث مملوءٌ من ذلك. أفتراه يحرِّض الأمة
(5)
على مطلبٍ معلولٍ ناقصٍ، ويدع المطلب العالي البريءَ من شوائب العلل لا يحرِّضهم عليه؟!
(1)
كما في فضل الذكر عقب الوضوء عند مسلم (234) عن عمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي (3464، 3465) وابن حبان (826) والحاكم (1/ 512) وغيرهم من حديث أبي الزبير عن جابر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وانظر: «الصحيحة» (64).
(3)
أخرجه أحمد (11101) والترمذي (2449) وأبو يعلى (1111) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3098) من طريقين عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وعطية فيه لين. قال الترمذي:«هذا حديث غريب، وقد روي هذا عن عطية عن أبي سعيد موقوفًا، وهو أصح عندنا وأشبه» . وقال أبو حاتم ــ كما في «العلل» لابنه (2007) ــ: «الصحيح موقوف؛ الحفاظ لا يرفعونه» .
وأخرجه أبو داود (1682) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبير» (4/ 185) ــ بإسناد فيه لين عن نُبيحٍ عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا.
(4)
أخرجه مسلم (2568) من حديث ثوبان.
(5)
ع: «المؤمنين» .
قالوا: وأيضًا فإنه سبحانه يحبُّ من عباده أن يسألوه جنَّته ويستعيذوه من ناره، فإنّه يحبُّ أن يسأل، ومن لم يسأله يغضَبْ عليه، وأعظم ما سئل الجنَّةُ وأعظم ما استعيذ به منه النار. فالعمل لطلب الجنة محبوبٌ للربِّ مرضيٌّ له، وطلبها عبودية للربِّ، والقيام بعبوديَّته كلِّها أولى من تعطيل بعضها.
قالوا: وإذا خلا العامل عن ملاحظة الجنَّة والنار، وطلبِ الجنَّة ورجائها
(1)
= فترت عزائمه، وضَعُفت همَّته، و
(2)
وَهَى باعثُه. وكلَّما كان أشدَّ طلبًا للجنة وعملًا لها كان الباعث له أقوى، والهمَّةُ أشدَّ، والسعيُ أتمَّ. وهذا أمر معلوم بالذَّوق.
قالوا: ولو لم يكن هذا مطلوبًا للشارع لما وصف الجنَّة للعباد وزيَّنها لهم وعرضها عليهم، وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها، وما عداه أخبرهم به مجملًا. كلُّ هذا تشويقًا لهم إليها، وحثًّا لهم على السعي لها سعيَها.
قالوا: وقد قال تعالى: {(24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ} [يونس: 25]. وهذا حثٌّ على إجابة هذه الدعوة والمبادرةِ إليها والمسارعةِ في الإجابة.
والتحقيق أن يقال: الجنَّة ليست اسمًا لمجرَّد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور. وأكثر الناس يغلطون في مسمَّى الجنَّة، فإنَّ الجنّة اسمٌ لدار النعيم المطلق الكامل. ومن أعظم نعيم الجنَّة: التمتُّع بالنظر إلى وجه الرب وسماعِ كلامه، وقرَّةُ العين بالقرب منه
(1)
السياق في ع: «عن ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه والهرب من هذه» .
(2)
واو العطف ساقطة من جميع النسخ عدا ع.
ورضوانِه. فلا نسبة لِلَذَّةِ ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصُّور إلى هذه اللَّذَّة أبدًا، فأيسر يسيرٍ من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك، كما قال تعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، وأتى به منكَّرًا في سياق الإثبات، أي: أيُّ شيءٍ كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنَّة.
قليلٌ منك يقنعني ولكن
…
قليلك لا يقال له قليلُ
(1)
وفي الحديث الصحيح حديث الرُّؤية: «فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى وجهه»
(2)
. وفي حديثٍ آخرَ أنَّه سبحانه إذا تجلَّى لهم ورأوا وجهَه عِيانًا، نَسُوا ما هم فيه من النعيم وذهلوا عنه، ولم يلتفتوا إليه
(3)
. ولا ريب أنّ الأمر هكذا. وهو أجلُّ ممَّا يخطر بالبال أو يدور في الخيال، ولا سيَّما عند فوز المحبِّين هناك بمعيّة المحبَّة، فإنَّ المرء مع مَن أحبَّ
(4)
، ولا تخصيص في هذا الحكم، بل هو ثابتٌ شاهدًا وغائبًا.
فأيُّ نعيم، وأيُّ لذَّةٍ، وأيُّ قرَّةِ عينٍ، وأيُّ فوزٍ يداني نعيم تلك المعيَّةِ ولذَّتَها وقرَّةَ العين بها؟ وهل فوق نعيم قرَّةِ العين بمعيَّة المحبوب الذي لا
(1)
البيت بلا نسبة في «الإبانة» للعميدي (ص 36)، و «الصبح المنبي» (ص 212).
(2)
أخرجه مسلم (181) من حديث صهيب بنحوه، واللفظ أشبه برواية أحمد (18941) والترمذي (2552).
(3)
روي ذلك من حديث جابر عند ابن ماجه (184) بإسناد واهٍ، ومن حديث ابن عمر عند عبد بن حُميد في «مسنده» (851) وعثمان الدارمي في «النقض على المريسي» (ص 229) بإسناد مُعضَل. وفي الباب قول الحسن البصري موقوفًا عليه، أخرجه الآجُرِّي في «الشريعة» (572).
(4)
كما في حديث ابن مسعود عند البخاري (6169) ومسلم (2640).
شيء أجلُّ منه ولا أكمل ولا أجمل= قرَّةٌ البتَّة؟
وهذا واللهِ هو العَلَم الذي شمَّر إليه المحبُّون، واللِّواء الذي أمَّه العارفون، وهو رُوح مسمَّى الجنَّة وحياتُها، وبه طابت الجنَّة وعليه قامت؛ فكيف يقال: لا يُعبَد الله طلبًا لجنَّته ولا خوفًا من ناره؟!
وكذلك النار، فإنَّ ما
(1)
لأربابها من عذاب الحجاب عن الله، وإهانته، وغضبه وسخطه، والبُعدِ عنه= أعظمُ من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم، بل التهابُ هذه النار في قلوبهم هو الذي أوجب التهابَها في أبدانهم، ومنها سرت إليها.
فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصّالحين هو الجنَّة، وهَرَبُهم
(2)
من النار. والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوَّة إلّا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ومقصد القوم: أنَّ العبد يعبد ربَّه بحقِّ العبوديَّة. والعبدُ إذا طلب من سيِّده أجرةً على خدمته له كان أحمقَ، ساقطًا من عين سيِّده إن لم يستوجب عقوبته، إذ عبوديَّتُه تقتضي خدمته له، وإنَّما يخدم بالأجرة من لا عبوديَّة للمخدوم عليه: إمَّا أن يكون حرًّا في نفسه، أو عبدًا لغيره. وأمَّا مَن الخلقُ عبيدُه حقًّا، وملكه على الحقيقة، ليس فيهم حرٌّ ولا عبد لغيره= فخدمتهم له بحقِّ العبوديَّة، فاقتضاؤهم للأجرة خروجٌ عن محض العبوديَّة.
وهذا لا يُنكَر على الإطلاق، ولا يُقبَل على الإطلاق. وهو موضع
(1)
«ما» ساقطة من ع.
(2)
ع: «مَهْربهم» .
تفصيل وتمييز. وقد تقدَّم في أوَّل الكتاب
(1)
ذكرُ طرق الخلق في هذا الموضع، وبيَّنَّا طريقة أهل الاستقامة. فالنَّاس
(2)
أربعة أقسامٍ:
أحدهم: من لا يريد ربَّه ولا يريد ثوابَه، فهؤلاء أعداؤه حقًّا، وهم أهل العذاب الدائم. وعدم إرادتهم لثوابه إمَّا لعدم تصديقهم به، وإمَّا لإيثار العاجل عليه ولو كان فيه سخطه.
والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه، وهؤلاء خواصُّ خلقه. قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]، فهذا خطابه لخير نساء العالم أزواجِ نبيِّه.
وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]، فأخبر أنَّ السعي المشكور سعيُ من أراد الآخرة.
وأصرح من هذا قوله لخواصِّ أوليائه ــ وهم أصحاب نبيِّه صلى الله عليه وسلم ــ في يوم أحدٍ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، فقسمهم إلى هذين القسمين اللَّذين لا ثالث لهما. وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟ فإنَّ إرادة الآخرة عبارةٌ عن إرادة الله وثوابه، فإرادةُ الثواب لا تنافي إرادة الله.
والقسم الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله. فهذا ناقصٌ غاية النَّقص.
وهو حال الجاهل بربِّه، الذي سمع أنَّ ثمَّ
(1)
جنةً ونارًا، فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنَّة المخلوقة
(2)
، لا يخطر بباله سواه البتَّة. بل هذا حال أكثر المتكلِّمين، المنكرين رؤيةَ الله والتلذُّذَ بالنظر إلى وجهه في الآخرة، وسماعَ كلامه وحبَّه، والمنكرين على من يزعم أنّه يحبُّ الله. وهم عبيد الأجرة المحضة، فهؤلاء لا يريدون الله تعالى.
ومنهم من يصرِّح بأنَّ إرادة الله محالٌ. قالوا
(3)
: لأنَّ الإرادة إنَّما تتعلَّق بالحادث، فالقديم لا يراد
(4)
، فهؤلاء منكرون لإرادة الله غاية الإنكار، وأعلى الإرادة عندهم: إرادة الأكل والشُّرب والنِّكاح واللِّباس في الجنَّة وتوابعِ ذلك.
فهؤلاء في شقٍّ، وأولئك الذين قالوا: لم نعبده طلبًا لجنَّته ولا هربًا من ناره في شقٍّ. وهما طرفا نقيضٍ، بينهما أعظم من بعد المشرقَين. وهؤلاء من أكثف الناس حجابًا، وأغلظهم طباعًا، وأقساهم قلوبًا، وأبعدهم عن روح المحبَّة والتّألُّه، ونعيم الأرواح والقلوب. وهم يكفِّرون أصحاب المحبَّة والشوق إلى الله، والتّلذُّذِ بحبِّه والتصديق بلذَّة النظر إلى وجهه وسماعِ كلامه منه بلا واسطةٍ.
وأولئك لا يعدُّونهم من البشر إلَّا بالصُّورة، ومرتبتهم عندهم قريبةٌ من
(1)
ع: «ثمَّة» .
(2)
ع: «المخلوق» نعتًا للنعيم.
(3)
ع: «قال» .
(4)
انظر: «البسيط» للواحدي (3/ 470 - 471)، و «الإرشاد» للجويني (ص 238 - 239)، و «أساس التقديس» للرازي (ص 154).
مرتبة الجماد والحيوان البهيم. وهم عندهم في حجابٍ كثيفٍ عن معرفة نفوسهم وكمالها، ومعرفة معبودهم وسرِّ عبوديَّته. وحال الطائفتين عجبٌ لمن اطَّلع عليه.
والقسم الرابع ــ وهو محال ــ: أن يريد الله ولا يريد منه، فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنَّه مطلوبهم، وأنَّ من لم يصل إليه ففي سيره علَّةٌ، وأنَّ العارف ينتهي إلى هذا المقام: أن يكون الله مرادَه ولا يريد منه شيئًا، كما يحكى عن أبي يزيد رضي الله عنه أنَّه قال: قيل لي: ما تريد؟ فقلت: أريد أن لا أريد
(1)
.
وهذا في التحقيق عين المُحال الممتنع عقلًا وفطرةً وحسًّا وشرعًا، فإنَّ الإرادة من لوازم الحيِّ. وإنَّما يعرض له التجرُّد عنها بالغيبة عن حسِّه وعقله، كالسُّكر والإغماء والنَّوم. فنحن لا ننكر التجريد عن إرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم إرادتُها إرادتَه. أفليس صاحب هذه الحال مريدًا لقربه ورضاه، ودوام مراقبته والحضور معه؟ وأيُّ إرادةٍ فوق هذه؟ نعم، قد زهد في مرادٍ لمرادٍ أجلَّ منه وأعلى، فما خرج عن الإرادة، وإنَّما انتقل من
(2)
إرادةٍ إلى إرادةٍ، ومن مرادٍ إلى مرادٍ. وأمَّا خلوُّه عن صفة الإرادة بالكلِّيَّة مع حضور عقله وحسِّه فمحالٌ.
وإن حاكمَنا في ذلك محاكمٌ إلى ذوقِ مصطلمٍ، مأخوذٍ عن نفسه، فانٍ عن عوالمها= لم ننكر ذلك، لكنَّ هذه حالة عارضة غير دائمةٍ، ولا هي غاية مطلوبة للسالكين، ولا مقدورة للبشر، ولا مأمور بها، ولا هي أعلى
(1)
تقدَّم عزوه (ص 107).
(2)
ش: «عن» .
المقامات فيؤمرَ باكتساب أسبابها. فهذا فصل الخطاب في هذا الموضع. والله أعلم.
فصل
قوله: (ولا مشاهدًا لأحدٍ، فيكون متزيِّنًا
(1)
بالمراياة)، هذا فيه تفصيلٌ أيضًا، وهو أنَّ المشاهدة في العمل لغير الله نوعان:
- مشاهدةٌ تبعث عليه أو تقوِّي باعثَه، فهذه مراياةٌ خالصةٌ أو مشوبةٌ. كما أنّ المشاهدة القاطعة عنه أيضًا من الآفات والحجب.
- ومشاهدةٌ لا تبعث عليه ولا تعين الباعث، بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها. فهذه لا تُدخله في التّزيُّن بالمراياة، ولا سيَّما عند المصلحة الراجحة في هذه المشاهدة: إمَّا حفظًا له ورعايةً، كمشاهدة مريضٍ أو مشرفٍ على هلكةٍ يخاف وقوعه فيها. أو مشاهدة عدوٍّ يخاف هجومَه كصلاة الخوف عند المواجهة. أو مشاهدة ناظرٍ إليك يريد أن يتعلَّم منك، فتكون محسنًا إليه بالتعليم، وإلى نفسك بالإخلاص. أو قصدًا منك للاقتداء وتعريف الجاهل. فهذا رياءٌ محمود. والله عند نيَّة القلب وقصده.
فالرِّياء المذموم أن يكون الباعث قصدَ التعظيم والمدح، والرغبةَ فيما عند من يرائيه، أو الرهبةَ منه. وأمَّا ما ذكرنا من قصد رعايته، أو تعليمه، أو إظهار السُّنة، وملاحظة هجوم العدوِّ، ونحو ذلك= فليس في هذه المشاهدة رياء.
بل قد يتصدَّق العبد رياءً مثلًا، وتكون صدقته فوقَ صدقة صاحب
(1)
ج، ن:«متديِّنا» ، وهو لفظ مطبوعة «المنازل» كما سبق التنبيه عليه.
السرِّ. مثال ذلك: رجلٌ مضرورٌ سأل قومًا ما هو محتاجٌ إليه، فعلم رجلٌ منهم أنَّه إن أعطاه سرًّا حيث لا يراه أحدٌ لم يقتدِ به أحدٌ ولم يحصل له سوى تلك العطيَّة، وأنَّه إن أعطاه جهرًا اقتُدي به واتُّبع، وأنف الحاضرون من تفرُّده عنهم بالعطيَّة، فجهر له بالعطاء، وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين؛ فهذه مراياة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصدَ التعظيم والثناء، وصاحبُها جديرٌ بأن يحصل له مثلُ أجور أولئك المعطين.
قوله: (فإنَّ هذه الأوصاف كلها من شُعَب عبادة النفس)، يعني أنَّ الخائف مشتغل بحفظ نفسه من العذاب، ففيه عبادة لنفسه، إذ هو متوجِّه إليها. وطالب المثوبة متوجِّهٌ إلى طلب حظِّ نفسه، وذلك شعبة من عبوديَّتها. والمشاهدُ للناس في عبادته فيه شعبةٌ من عبوديَّة نفسه، إذ هو طالبٌ لتعظيمهم وثنائهم ومدحهم. فهذه شعبٌ من شعب عبادة النفس
(1)
.
والأصل الذي هذه الشُّعب فروعُه هي النفس، فإذا ماتت بالمجاهدة، والإقبال على الله، والاشتغال به، ودوام المراقبة له= ماتت هذه الشُّعب. فلا جرم بناء أمر هذه الطائفة على ترك النفس
(2)
.
وقد علمت أنَّ الخوف وطلب الثواب ليس من عبادة النفس في شيءٍ. نعم، التّزيُّن بالمراياة عين عبادة النفس والناس
(3)
. والكلامُ في أمرٍ أرفع من هذا، فإنَّ حال المرائي أخسُّ ونفسَه أسقطُ وهمَّتَه أدنى من أن يدخل في شأن