الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصادقين
(1)
.
فصل
قال
(2)
:
(الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره
. وهو أن يُبقي
(3)
أعلامَ توحيد العامَّة الخبريَّة على ظواهرها. ولا يَتحمَّل البحثَ عنها تعسُّفًا، ولا يتكلَّف لها تأويلًا، ولا يتجاوز ظواهرها تمثيلًا، ولا يدَّعي عليها إدراكًا أو توهُّمًا).
يشير الشيخ رضي الله عنه بذلك إلى أنَّ حفظ حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها. وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أذهان
(4)
العامَّة. ولا يعني بالعامَّة: الجهَّال، بل عامَّة الأمَّة، كما قال مالكٌ رحمه الله وقد سئل عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالكٌ حتَّى علاه الرُّحَضاء، ثمَّ قال: الاستواء معلوم، والكيف غير معقولٍ، والإيمان به واجب، والسُّؤال عنه بدعة
(5)
؛ فرَّق
(6)
بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر.
(1)
زاد في ع: «أو يذكر مع الصالحين» .
(2)
«المنازل» (ص 30).
(3)
كذا ضبط في ل. وفي ج، ع:«تَبقى» . وهو محتمِل في سائر النسخ.
(4)
ش: «أفهام» .
(5)
أسنده الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 66) وابن المقرئ في «معجمه» (1003) واللالكائي في «شرح السنة» (664) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (867) و «الاعتقاد» (ص 117) من طرق عنه.
(6)
ع: «ففرَّق» .
وهذا الجواب من مالكٍ رحمه الله شافٍ عامٌّ في جميع مسائل الصِّفات، فمن سأل عن قوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] كيف يسمع ويرى؟ أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقولٍ.
وكذلك من سأل عن العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والنُّزول، والغضب، والرِّضا، والرحمة، والضحك، وغير ذلك؛ فمعانيها كلُّها مفهومة
(1)
. وأمَّا كيفيتها فغير معقولةٍ، إذ تعقُّل الكيف
(2)
فرع العلم بكيفيَّة الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقولٍ للبشر، فكيف تُعقل لهم كيفيَّة الصِّفات؟
والعصمة النافعة في هذا الباب: أن تصف
(3)
الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ. بل تُثبت له الأسماء والصِّفات، وتنفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتك منزَّهًا عن التشبيه، ونفيك منزَّهًا عن التعطيل. فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطِّل، ومن شبَّهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثِّل، ومن قال: هو استواءٌ ليس كمثله شيء فهو الموحِّد المنزِّه.
وهكذا الكلام في السمع، والبصر، والحياة، والإرادة، والعلم، والقدرة، واليد، والوجه، والرِّضا، والغضب، والنُّزول والضّحك، وسائر ما وصف به نفسه.
(1)
ش: «معلومة» .
(2)
ع: «الكيفية» .
(3)
ع: «يوصف» .
والمنحرفون في هذا الباب وقد
(1)
أشار الشيخ إليهم بقوله: (لا يتحمَّل البحث عنها تعسُّفًا)، أي لا يتكلَّف التّعسُّف في البحث عن كيفيَّاتها
(2)
. والتّعسُّف سلوك غير الطريق، يقال: ركب فلانٌ التعاسيف في سيره، إذا كان يسير يمينًا وشمالًا جائرًا عن الطريق.
(ولا يتكلَّف لها تأويلًا): أراد بالتأويل هاهنا التأويل الاصطلاحي، وهو صرف اللفظ عن ظاهره عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح. وقد حكى غير واحدٍ من العلماء إجماع السلف على تركه. وممَّن حكاه البغويُّ
(3)
، وأبو المعالي الجوينيُّ في رسالته «النِّظاميَّة»
(4)
بخلاف ما سلكه في «شامله»
(5)
و «إرشاده»
(6)
. وممَّن حكاه سعد بن عليٍّ الزَّنجاني
(7)
. وقبل
(1)
كذا في عامة النسخ عدا ش، ع مسبوقةً بواو الحال، وقد أخذ المؤلف في الجملة الحالية وأطال فيها حتى سها عن ذكر خبر للمبتدأ:«المنحرفون» .
(2)
في النسخ عدا الأصل، ل، ع:«كيفيتها» . ويظهر أنه كان كذلك في الأصل ثم زيدت الألف بعد ذلك.
(3)
في «شرح السنة» (1/ 170 - 171). وانظر: «معالم التنزيل» (3/ 235 - 236) في تفسير {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54].
(4)
(ص 32 - 33).
(5)
انظر فيه: «باب في ذكر تأويل جُمَل من ظواهر الكتاب والسنة» (ص 543 - 570).
(6)
انظر فيه تأويل الاستواء (ص 40 - 42)، والرحمة (ص 145)، واليدين والوجه والمجيء والنزول وغيرها (ص 155 - 164)، والمحبَّة (ص 238 - 239).
(7)
الحافظ الزاهد شيخ الحرم (ت 471). وقد نقل كلامه في ذلك المؤلفُ في «اجتماع الجيوش» (ص 252 - 259) من جواباته على مسائل سئل عنها بمكة. وله أيضًا قصيدةٌ رائيَّة في السنة وشرحٌ عليها، وهي مطبوعة مع القدر الذي وجد من شرحه.
هؤلاء خلائقُ من العلماء لا يحصيهم إلَّا الله.
(وأن لا يتجاوز ظواهرها تمثيلًا) أي: لا يمثِّلها بصفات المخلوقين. وفي قوله: (لا يتجاوز ظواهرها) إشارة لطيفة، وهي أنَّ ظواهرها لا تقتضي التمثيل كما يظنُّه المعطِّلة النُّفاة، وأنَّ التمثيل تجاوزٌ لظواهرها إلى ما لا تقتضيه، كما أنَّ تأويلها
(1)
تكلُّفٌ وحملٌ لها على ما لا تقتضيه، فهي لا تقتضي ظواهرُها تمثيلًا، ولا تحتمل تأويلًا، بل إجراءً
(2)
على ظاهرها
(3)
بلا تأويلٍ ولا تمثيلٍ، فهذه طريقة السالكين بها سواء السبيل.
وأمَّا قوله: (ولا يدَّعي عليها إدراكًا)، أي لا يدَّعي عليها استدراكًا، ولا فهمًا ولا معنًى غير فهم العامَّة، كما يدَّعيه أرباب الكلام الباطل المذموم بإجماع السَّلف.
وقوله: (ولا توهُّمًا)، أي لا يعدل عن ظواهرها إلى التوهُّم. والتوهُّم نوعان: توهُّم كيفيَّةٍ لا يدلُّ عليه ظواهرها، أو توهُّم معنًى غير ما تقتضيه ظواهرها. وكلاهما توهُّم باطل. وهما توهُّم تشبيهٍ وتمثيلٍ أو تحريفٍ وتعطيلٍ.
وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبيِّن مرتبته من السُّنَّة ومقدارَه في العلم، وأنّه بريءٌ ممَّا رماه به أعداؤه الجهميَّة من التشبيه والتمثيل
(4)
، على عادتهم
(1)
ع: «التأويل» .
(2)
ش: «إجراؤها» .
(3)
ع: «ظواهرها» .
(4)
انظر قصة اتِّهامهم له بذلك بين يدي السلطان ألب أرسلان في «سير أعلام النبلاء» (18/ 512).
في رمي أهل الحديث والسنة بذلك، كرمي الرافضة لهم بأنَّهم نواصب، والمعتزلة بأنَّهم نوابت حشويَّة. وذلك ميراثٌ من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ورمي أصحابه بأنَّهم صُباةٌ قد ابتدعوا دينًا محدَثًا، وميراثٌ لأهل الحديث والسنة من نبيِّهم وأصحابه بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة. وقدَّس الله روح الشافعيِّ حيث يقول وقد نُسِب إلى الرَّفض
(1)
:
إن كان رفضًا حبُّ آل محمَّدٍ
…
فليشهد الثقلان أنِّي رافضي
ورضي الله عن شيخنا أبي عبد الله
(2)
ابن تيميَّة حيث يقول:
(1)
كما في «الحلية» (9/ 153) و «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 71).
(2)
كذا في جميع النسخ عدا النسخة المصرية (ع) ففيها: «شيخنا عبد الله» . وفي بعض النسخ المتأخرة: «أبي العباس» كما ذكره محققو طبعة دار الكتب المصرية (3/ 66) ودار الصميعي (2/ 1550). وذَكَر ابن القيم هذا البيت أيضًا في مقدمة «الكافية الشافية» (1/ 29) بقوله: «وقدَّس الله روح القائل [وهو شيخ الإسلام ابن تيمية] إذ يقول» ، وما بين الحاصرتين زيادة من بعض النسخ ولم ترد في أكثرها كما أفاده المحقق، وأخشى أن يكون زاده بعض النساخ من عنده. تحصَّل مما سبق ثلاثة احتمالات:
الأول: أن «أبي عبد الله» سهو من المؤلف أو النساخ، الصواب:«أبي العباس» . ويُشكل عليه أن السهو في مثله بعيد جدًّا.
الثاني: أن الصواب: «عبد الله» غير مسبوق بـ «أبي» على ما جاء في النسخة المصرية (ع). وعليه فيكون المراد شقيقَ شيخ الإسلام أبي العباس المتوفى سنة 727. ويُشكل عليه إثبات «أبي» قبله في أكثر النسخ.
الثالث: أن المراد بـ «أبي عبد الله» : محمد بن أبي القاسم الخَضِرِ بن محمد، فخر الدِّين ابن تيمية (ت 622)، شيخ حرَّان وخطيبها، عمُّ أبي البركات عبد السلام ابن تيمية. ولكن يُشكل عليه وصف المؤلف له بـ «شيخنا» .
هذا، وقد ذكر شيخ الإسلام في «درء التعارض» (1/ 240) بيتين آخرين في هذا المعنى مِن «قول القائل»:
إذا كان نصبًا ولاءُ الصِّحاب
…
فإني كما زعموا ناصبي
وإن كان رفضًا ولاءُ الجميع
…
فلا بَرِح الرفضُ من جانبي