الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويُدعى خصوم الله يوم معادهم
…
إلى النَّار طرًّا فرقة القدريَّة
فصل
المشهد الرّابع: مشهد القدريّة النُّفاة
، يشهدون أنَّ هذه الجنايات والذُّنوب هم الذين أحدثوها، وأنّها واقعةٌ بمشيئتهم دون مشيئة الله تعالى، وأنَّ الله لم يقدِّر ذلك عليهم ولم يكتبه، ولا شاءه، ولا خلق أفعالهم، وأنّه لا يقدر أن يهدي أحدًا ولا يضلَّه إلَّا بمجرَّد البيان، لا أنَّه
(1)
يلهمه الهدى والضَّلال والفجور والتّقوى فيجعل ذلك في قلبه.
ويشهدون أنَّه يكون في ملك الله ما لا يشاؤه
(2)
، وأنَّه يشاء ما لا يكون، وأنَّ العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله، فالمعاصي والذُّنوب خَلْقُهم وموجَبُ مشيئتهم، لا أنها خلق الله ولا تتعلّق بمشيئته، وهم لذلك مبخوسو الحظِّ جدًّا من الاستعانة بالله تعالى والتوكُّل عليه والاعتصام به
(3)
، وسؤالِه أن يهديهم وأن يثبِّت قلوبهم وأن لا يزيغها، وأن يوفِّقهم لمرضاته ويجنِّبهم معصيته، إذ هذا
(4)
كلُّه واقعٌ بهم وعين
(5)
أفعالهم، ولا يدخل تحت مشيئة الربِّ تعالى.
(1)
م: «أن» .
(2)
ش: «يشاء» .
(3)
ج، ن:«والاستعانة به» ، خطأ.
(4)
م، ج، ن:«هو» . وكذا كان في الأصل ثم أصلحه المقابل.
(5)
ج، ن:«عن» ، تصحيف.
والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر، فلا يؤزُّهم إلى المعاصي ذلك الأزَّ، ولا يزعجهم إليها ذلك الإزعاج، وله في ذلك غرضان مهمّان:
أحدهما: أن يقرِّر في قلوبهم صحَّة هذا المشهد
(1)
وهذه العقيدة، وأنّكم تاركون للذُّنوب والكبائر التي يقع فيها أهل السُّنَّة، فدلَّ على أنّ الأمر مفوَّضٌ إليكم، واقعٌ بكم، وأنَّكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية.
الغرض الثاني: أنّه
(2)
يصطاد على أيديهم الجُهَّال، فإذا رأوهم أهل عبادةٍ وزهادةٍ وتورُّعٍ عن المعاصي وتعظيمٍ لها قالوا: هؤلاء هم أهل الحقِّ.
والبدعة عنده آثر وأحبُّ إليه من المعصية، فإذا ظفر بها منهم واصطاد الجهَّال على أيديهم، كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبِّحها في أعينهم وقلوبهم.
ولا يكشف هذه الحقائق إلَّا أرباب البصائر.
فصل
المشهد الخامس ــ وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة ــ: مشهد الحكمة، وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم ويعاقب عليه، وأنّه لو شاء لعصمه منه ولحال بينه وبينه، وأنّه سبحانه لا يعصى قسرًا، وأنّه لا يكون في العالم شيءٌ إلَّا بمشيئته؛ {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
(1)
م، ش:«الشبهة» ، تصحيف.
(2)
م، ج، ن:«أن» .
وهؤلاء يشهدون أنّ الله سبحانه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا سُدًى، وأنَّ له الحكمةَ البالغة في كلِّ ما قدّره وقضاه من خيرٍ وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ، حكمةً باهرةً تعجِز العقول عن الإحاطة بكنهها وتَكِلُّ الألسُنُ عن التَّعبير عنها؛ فمصدر قضائه وقدره لِما يُبغضه ويَسخطه اسمه «الحكيم» الذي بهرت حكمته الألباب.
وقد قال تعالى لملائكته لمَّا قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فأجابهم سبحانه بقوله: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذُّنوب والجرائم وترتُّب آثارها عليها من الآيات والحِكَم، وأنواع التعرُّفات إلى خلقه، وتنويع آياته، ودلائل ربوبيَّته ووحدانيَّته وإلهيَّته وحكمته وعزَّته وتمامِ ملكه وكمالِ قدرته وإحاطةِ علمه= ما يشهده أولو البصائر عيانًا ببصائر قلوبهم، فيقولون: ربّنا ما خلقت هذا باطلًا، إن هي إلّا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.
ولله في كلِّ تحريكةٍ
…
وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ
…
تدلُّ على أنّه واحدُ
(1)
فكم من آيةٍ في الأرض
(2)
بيِّنةٍ دالَّةٍ على الله، وعلى صدق رسله، وعلى أنّ لقاءه حقٌّ = كان سببُها معاصيَ بني آدم وذنوبَهم، كآيته
(3)
في إغراق قوم نوحٍ، وعلوِّ الماء على رؤوس الجبال حتَّى أغرق جميع أهل الأرض ونجا
(1)
البيتان لأبي العتاهية في «ديوانه» (ص 102 - 104) تحقيق شكري فيصل.
(2)
(3)
«كآيته» ساقط من ج، ن.
أولياؤه
(1)
وأهلُ معرفته وتوحيده، فكم في ذلك من آيةٍ وعبرةٍ ودلالةٍ باقيةٍ على ممرِّ الدُّهور؟! وكذلك إهلاك
(2)
قوم عادٍ وثمود.
وكم له آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى إليهم ــ بل قبل مبعثه ــ إلى حين إغراقهم؛ لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب. وفي التوراة
(3)
: أنّ الله تعالى قال لموسى: «اذهب إلى فرعون فإنِّي سأقسِّي قلبه وأمنعه عن الإيمان لأُظهر
(4)
آياتي وعجائبي بمصر». وكذلك فعل سبحانه، فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر.
وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النَّار بردًا وسلامًا على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم وإلقائهم له
(5)
في النَّار، حتّى صارت تلك آيةً، وحتّى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخُلَّة.
وكذلك ما حصل للرُّسل من الكرامة والمنزلة
(6)
والزُّلفى عند الله تعالى والوجاهة عنده بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم.
وكذلك اتِّخاذ الله تعالى الشُّهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب
(1)
كذا في الأصل ول، ومقتضى الرسم في سائر النسخ. «ونجَّى أولياءَه» .
(2)
ش: «هلاك» .
(3)
سفر الخروج: الإصحاح السابع (1 - 3). ونحوه أيضًا في الإصحاحَين العاشر (1 - 2) والحادي عشر (9) منه.
(4)
م: «وأظهر» ، تصحيف.
(5)
«له» سقطت من م.
(6)
«والمنزلة» ساقط من م.
صبرهم على أذى أهل المعاصي
(1)
والظُّلم، ومجاهدتهم في الله، وتحمُّلِهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه، واستحقاقِهم بذلك رفعة الدّرجات.
إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه. وكان ذلك محض الحكمة لما يترتَّب عليه ممَّا هو أحبُّ إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية، فحصول هذا المحبوب العظيم أحبُّ إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط، فإنَّ فواته وعدمه وإن كان محبوبًا له لكنَّ حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض= أحبُّ إليه، وفوات هذا المحبوب أكرَه إليه من فوات
(2)
ذلك المكروه المسخوط، وكمال حكمته يقتضي حصولَ أحبِّ الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين، وأن لا يُعطَّل هذا الأحبُّ بتعطيل ذلك المكروه.
وفرض الذِّهن وجودَ هذا بدون هذا كفرضه وجود المسبَّبات بدون أسبابها والملزومات بدون لوازمها، ممَّا تمنعه حكمة الله وكمال قدرته وربوبيَّته.
ويكفي من هذا مثال واحد، وهو أنَّه لولا المعصية من أبي البشر بأكل الشجرة
(3)
لما ترتَّب على ذلك ما ترتَّب من وجود هذه المحبوبات العظام للربِّ تعالى، من امتحان خلقه وتكليفهم، وإرسال رسله، وإنزال كتبه، وإظهار آياته وعجائبه وتنويعها وتصريفها، وإكرام أوليائه، وإهانة أعدائه،
(1)
ع: «أذى بني آدم من أهل المعاصي» .
(2)
كذا في جميع النسخ والمطبوعات، والسياق يقتضي:«حصول» .
(3)
ع: «بأكله من الشجرة» .
وظهور عدله وفضله، وعزَّته وانتقامه، وعفوه ومغفرته، وصفحه وحلمه، وظهور من يعبده ويحبُّه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان.
فلو قُدِّر أنَّ آدم لم يأكل من الشجرة ولم يخرج من الجنَّة هو ولا أولاده لم يكن شيءٌ من ذلك، ولا ظهر من القوَّة إلى الفعل ما كان كامنًا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة، ولم يتميَّز خبيث الخلق من طيِّبه، ولم تتمّ المملكة حيث لم يكن هناك إكرامٌ وثواب، وعقوبة وإهانة، ودارُ سعادةٍ وفضلٍ، ودار شقاوةٍ وعدلٍ.
وكم في تسليط أوليائه على أعدائه، وتسليط أعدائه على أوليائه، والجمع بينهما في دارٍ واحدةٍ، وابتلاء بعضهم ببعضٍ= من حكمةٍ بالغةٍ، ونعمةٍ سابغةٍ!
وكم في طَيِّها من حصول محبوبٍ للرّبِّ، وحمدٍ له من أهل سماواته وأرضه، وخضوعٍ له وتذلُّلٍ، وتعبُّدٍ وخشيةٍ وافتقارٍ إليه، وانكسارٍ بين يديه أن لا يجعلهم من أعدائه، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم وإعراضَه عنهم ومقته لهم وما أعدَّ لهم من العذاب، وكلُّ ذلك بمشيئته وإذنه
(1)
وتصرُّفه في مملكته، فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون على أشدِّ وَجَلٍ وأعظم مخافةٍ وأتمِّ انكسارٍ.
فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له، وهاروت وماروت، وضعت رؤوسها بين يدي الرّبِّ تعالى خضوعًا لعظمته، واستكانةً لعزَّته، وخشيةً من إبعاده وطرده، وتذلُّلًّا لهيبته، وافتقارًا إلى عصمته ورحمته، وعلمت بذلك
(1)
ع: «وإرادته» .