الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذُّنوب وجَرَيانِها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم، وأنّه لا عاصم من غضبه وأسباب سخطه إلَّا هو، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلُّها منه، ومصادرها إليه، وأزِمَّة التوفيق جميعها بيديه، فلا مستعانَ للعباد إلا به ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال تعالى عن شعيبٍ خطيب الأنبياء
(1)
: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
فصل
المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان
، وهو من تمام هذا المشهد
(2)
وفروعه، ولكن أفرد بالذِّكر لحاجة العبد إلى شهوده وانتفاعه به، وقد أجمع العارفون بالله أنَّ التَّوفيق: أن لا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان
(3)
: أن يخلِّي بينك وبينها
(4)
، فالعبيد متقلِّبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في السَّاعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له
(5)
، ثمَّ يعصيه ويخالفه ويُسخطه ويغفل عنه بخذلانه له، فهو دائرٌ بين توفيقه وخذلانه، فإن وفَّقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود في هذا وهذا، له أتمُّ حمدٍ
(6)
وأكملُه، ولم يمنع العبد شيئًا هو
(1)
ج، ن:«عن السيِّد الجليل شعيب خطيب الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم وسلامه» .
(2)
أي: مشهد التوحيد.
(3)
في ع زيادة: «هو» .
(4)
ع: «وبين نفسك» .
(5)
«له» ساقطة من ج، ن.
(6)
ش: «وله أتم الحمد» .
له، وإنّما منعه ما هو مجرَّد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله
(1)
.
فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقَّه، علم ضرورته وفاقته
(2)
إلى التَّوفيق كلَّ نَفَسٍ وكلَّ لحظةٍ وطرفةِ عينٍ، وأنَّ إيمانه وتوحيده ممسَكٌ بيَدِ غيره، لو تخلَّى عنه طرفة عينٍ
(3)
لثُلَّ عرشُه
(4)
ولخرَّت سماءُ إيمانه على الأرض، وأنّ الممسك له مَن يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه، فهجِّيرى قلبه ودأبُ لسانه: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، يا مصرِّف القلوب صرِّف قلبي إلى طاعتك، ودعواه
(5)
: يا حيُّ يا قيُّوم، يا بديع السّماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلَّا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ ولا إلى أحدٍ من خلقك
(6)
.
ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيّته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطرِّ، ويعوذ به مِن خذلانه عياذَ الملهوف، ويُلقي نفسه بين يديه طريحًا ببابه مستسلمًا له، ناكسَ الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلًا مستكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
(1)
ش: «يضعه» .
(2)
ع: «وحاجته» .
(3)
«وأن إيمانه
…
طرفة عين» سقط من ج، ن لانتقال النظر.
(4)
ع: «عرشُ توحيده» .
(5)
ج، ن:«دعاؤه» .
(6)
أكثر ألفاظها أدعية مأثورة.
والتوفيق إرادة الله من
(1)
نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله قادرًا على فعل ما يرضيه، مريدًا له، محبًّا له، مؤثرًا له على غيره، ويبغِّض إليه ما يسخطه ويَكْرهه
(2)
، وهذا مجرَّد فعلِه
(3)
والعبد محلٌّ له؛ قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، فهو سبحانه عليمٌ بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له، حكيمٌ يضعه في مواضعه وعند أهله، لا يمنعه أهلَه ولا يضعه عند غير أهله.
وذَكَر هذا عقيب قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} ، ثمَّ جاء به
(4)
بحرف الاستدراك فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} . يقول سبحانه: لم تكن محبَّتكم للإيمان وإرادته وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك، فآثرتموه ورضيتموه، فكذلك
(5)
لا تقدِّموا بين يدي الله ورسوله
(6)
، ولا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر، فالذي حبَّب إليكم الإيمان أعلم بمصالح عباده وما يُصلحهم منكم، وأنتم فلولا توفيقه لكم لما أذعنَتْ نفوسكم للإيمان، فلم
(1)
«مِن» ساقطة من ج، ن.
(2)
م، ش، ن، ع:«ويكرِّهه إليه» . وكذا كان في الأصل ول، ثم ضرب فيهما على «إليه» .
(3)
ش: «فضله» .
(4)
«به» ساقطة من م.
(5)
رسمه في الأصل وم يحتمل: «فلذلك» .
(6)
يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولا تقدَّمتم به إليها، فنفوسكم تقصر وتعجز عن ذلك ولا تبلغه
(1)
، فلو أطاعكم رسولي في كثيرٍ ممَّا تريدون لشقَّ عليكم ذلك ولهلكتم وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون، ولا تظنُّوا أنّ نفوسكم تريد بكم الرُّشد والصَّلاح كما أردتم الإيمان، فلولا أنِّي حبَّبتُه إليكم وزيَّنته في قلوبكم وكرَّهت إليكم ضدَّه لما وقع منكم
(2)
ولا سمحت به نفوسكم
(3)
.
وقد ضُرب للتوفيق والخذلان مَثَل مَلِكٍ أرسل إلى أهل بلدة
(4)
من بلاده رسولًا، وكتب معه كتابًا يُعْلمهم أنَّ العدوَّ مُصبِّحهم عن قريبٍ
(5)
ومُجتاحهم ومخرِّب البلد ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالًا ومراكب وزادًا وعُدَّةً وأدلَّةً، وقال: ارتحلوا إليَّ مع هؤلاء الأدلَّة وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه، ثمَّ قال لجماعةٍ من مماليكه: اذهبوا إلى فلانٍ فخذوا بيده واحملوه ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى فلانٍ كذلك وإلى فلانٍ، وذروا من عداهم فإنَّهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي، فذهب خواصُّ الملك
(6)
إلى من أُمروا بحملهم، فلم يتركوهم يقرُّون، بل حملوهم حملًا وساقوهم سوقًا إلى الملك، فاجتاح العدوُّ من بقي في المدينة وقتلهم وأسر
(1)
ج، ن:«تعجر ولا تعقله» .
(2)
«منكم» ساقط من ج، ن.
(3)
ع: «أنفسكم» .
(4)
ن: «بلدٍ» .
(5)
«عن قريب» ساقط من ج، ن.
(6)
ع: «مماليكه» .
من أسر. فهل يعدُّ المَلِك ظالمًا لهؤلاء أم عادلًا فيهم؟ نعم، خصَّ أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم، إذ لا يجب عليه التّسوية بينهم في فضله وإكرامه، بل ذلك فضله يؤتيه من يشاء.
وقد فسَّرت القدريَّة الجبريَّة التوفيق بأنه خلق الطاعة، والخذلان خلق المعصية. ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحِكَم، وردُّوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سببٍ ولا حكمةٍ.
وقابلهم القدريَّة النُّفاة، ففسَّروا التوفيق بالبيان العامِّ والهدى العامِّ والتمكُّنِ من الطاعة والاقتدار عليها وتهيئة أسبابها، وهذا حاصل لكلِّ كافرٍ ومشركٍ بلغَتْه الحجَّة وتمكَّن من الإيمان. فالتّوفيق عندهم أمرٌ مشترك بين الكفّار والمؤمنين، إذ الإقدار والتمكين والدلالة والبيان قد عمّ به الفريقين، ولم يُفرد المؤمنين عندهم بتوفيقٍ وقع به الإيمان منهم، والكفّارَ بخذلانٍ امتنع به الإيمان منهم، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباةً وظلمًا.
والتزموا لهذا الأصل لوازمَ قامت بها عليهم سوقُ الشَّناعة بين العقلاء، ولم يجدوا بدًّا من التزامها، فظهر فسادُ مذهبهم وتناقُضُه
(1)
لمن أحاط به علمًا وتصوَّره حقَّ تصوُّره، وعَلِم أنّه من أبطل مذهبٍ في العالم وأردئه.
وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ، فلم يرضَوا بطريق هؤلاء ولا طريقِ
(2)
هؤلاء، وشهدوا انحراف الطريقين عن الصِّراط المستقيم، فأثبتوا القضاء والقدر
(1)
ع: «تناقض أقوالهم» .
(2)
ن: «بطريق» .
وعموم مشيئة الله للكائنات، وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح، ونزَّهوا الله عز وجل أن يكون في ملكه ما لا يشاء، أو أن
(1)
يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته، وأن
(2)
يكون شيء من أفعالهم واقعًا بغير اختياره وبدون مشيئته، ومن قال ذلك فلم يعرف ربَّه ولم يُثبت له كمال الرُّبوبيّة.
ونزَّهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح، وأن يخلق شيئًا سدًى، وأن تخلو أفعاله عن حكمٍ
(3)
بالغةٍ لأجلها أوجدها، وأسبابٍ بها سبَّبها، وغاياتٍ جُعلت طرقًا ووسائل إليها، وأنَّ له في كلِّ ما خلقه وقضاه حكمةً بالغةً، وتلك الحكمة صفةٌ له قائمةٌ به، ليست مخلوقةً كما تقول القدريَّة النُّفاة للقدر والحكمة في الحقيقة.
وأهل الصِّراط المستقيم بريئون من الطائفتين، إلّا من حقٍّ تتضمَّنه مقالاتهم فإنّهم يوافقونهم عليه، ويجمعون حقَّ كلٍّ منهما إلى حقِّ الأخرى، ولا يبطلون ما معهم من الحقِّ لما قالوه من الباطل، فهم شهداء الله على الطوائف، أُمَناءُ عليهم، حُكَّامٌ بينهم، حاكمون عليهم، ولا يحكم عليهم منهم أحدٌ، يكشفون أحوال الطوائف، ولا يكشفهم إلّا من كشف
(4)
عن معرفة ما جاءت به الرُّسل وعرف الفرق بينه وبين غيره ولم يلتبس عليه. وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته، ليسوا من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولا من
(1)
ج، ن:«وأن» .
(2)
ع: «أو أن» .
(3)
ش، ج، ن:«حكمة» .
(4)
ع: «كشف له» .