الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال
(1)
:
(الدرجة الثالثة: الزُّهد في الزُّهد
. وهو بثلاثة أشياء: باستحقار ما زهدتَ فيه، واستواء الحالات فيه عندك، والذهاب عن شهود الاكتساب ناظرًا إلى وادي الحقائق).
قد فسَّر الشيخ مراده بالزُّهد في الزُّهد بثلاثة أشياء:
أحدها: احتقاره ما زهد فيه، فإنَّ من امتلأ قلبه بمحبَّة الله وتعظيمه لا يرى
(2)
أنَّ ما تركه لأجله من الدُّنيا يستحقُّ أن يُجعل قربانًا، لأنَّ الدُّنيا بحذافيرها لا تساوي عند الله جناحَ بعوضة، فالعارف لا يرى زهدَه فيها كبيرَ أمرٍ يعتدُّ به ويحتفل به، فيستحيي مَن صحَّ له الزُّهد أن يَجعل لِما تركه اللهُ
(3)
قدرًا يلاحظ زُهدَه فيه، بل يفنى عن زهده فيه كما فني عنه، ويستحيي من ذكره بلسانه وشهوده بقلبه.
وأمَّا (استواء الحالات فيه عنده)، فهو أن يرى أنَّ ترك ما زهد فيه وأَخْذَه متساويان عنده. إذ ليس له عنده قدر. وهذا من دقائق فقه الزُّهد، فيكون زاهدًا في حال أخذه، كما هو زاهدٌ في حال تركه، إذ همَّته أعلى من ملاحظته أخذًا وتركًا لِصغره في عينه.
وأمَّا (الذهاب عن شهود الاكتساب)، فمعناه أنَّ من استصغر الدُّنيا بقلبه
(1)
«المنازل» (ص 24).
(2)
«لا يرى» ساقط من ع.
(3)
ش، ج، ن، ع:«للهِ» ، أي ما تركه العبدُ لله. وعلى المثبت يكون المعنى: ما وضعه الله ونبذه بحيث لا يساوي عنده شيئًا.
واستوت الحالات في أخذها وتركها عنده لم يَرَ أنَّه اكتسب بتركها عند الله درجةً البتَّة، لأنها أصغر في عينه من أن يرى أنَّه اكتسب بتركها الدرجات.
وفيه معنًى آخر: وهو أن يشاهد تفرُّد الله عز وجل بالعطاء والمنع، فلا يرى أنه ترك شيئًا ولا أخذ شيئًا، بل اللهُ وحده هو المعطي المانع، فما أخذه فهو مَجرًى لعطاء الله إيَّاه كمجرى الماء في النهر، وما تركه لله فاللهُ هو الذي منعه منه، فيذهب بمشاهدة الفعَّال وحده عن شهود كسبه وتركه، فإذا نظر الأشياء بعين الجمع وسلك في وادي الحقيقة غاب عن شهود اكتسابه، وهو معنى قوله:(ناظرًا إلى وادي الحقائق). وهذا أليق المعنيين بكلامه.
فهذا زهد الخاصَّة. قال الشاعر
(1)
:
إذا زهَّدَتْني في الهوى خشية الرَّدى
…
جَلَتْ ليَ عن وجهٍ يزهِّد في الزُّهد
* * * *
(1)
البيت لأبي تمام في «ديوانه مع شرح التبريزي» (2/ 62).