الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا معنى كلامه
(1)
. وفيه نظر، فإنَّ الرغبة أيضًا طلب مُغيَّب، هو على شكٍّ من حصوله، فإنَّ المؤمن يرغب في الجنة وليس بجازمٍ بدخولها، فالفرق الصحيح أنَّ الرجاء طمعٌ والرغبة طلبٌ، فإذا قوي الطمع صار طلبًا.
قال
(2)
: (والرغبة على ثلاث درجاتٍ.
الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر
، تتولَّد من العلم فتبعث على الاجتهاد المنوط بالشُّهود، وتصون السالك عن وهن الفترة، وتمنع صاحبَها من الرجوع إلى غثاثة الرخص).
أراد بالخبر هاهنا الإيمان الصادر عن الأخبار، ولهذا جعل تولُّدها من العلم، ولكنَّ هذا الإيمان متصل بمنزل الإحسان منه، يشرف عليه ويصل إليه، ولهذا قال:(المنوط بالشهود)، أي المقترن بالشُّهود. وذلك الشُّهود هو مشهد مقام الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنَّك تراه. ولا مشهد للعبد في الدُّنيا أعلى من هذا.
وعند كثيرٍ من الصُّوفية أنَّ فوقه مشهدًا أعلى منه، وهو شهود الحقِّ مع غيبته عن كلِّ ما سواه، وهو مقام الفناء، وقد عرفتَ ما فيه
(3)
. ولو كان فوق مقام الإحسان مقامٌ آخر لذكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم لجبريل ولسأله عنه، فإنَّه جمع مقاماتِ الدِّين كلَّها في الإسلام والإيمان والإحسان.
(1)
وذلك حسب ما شرحه به التلمساني، والمؤلف صادر عنه، وإلا فيمكن حمل كلامه على ما ذكره المؤلف من الفرق الصحيح بين الرجاء والرغبة، وقد حمله على قريبٍ منه الإسكندريُّ في «شرحه» (ص 56).
(2)
«المنازل» (ص 27).
(3)
انظر: (1/ 228) وما بعدها.
نعم، الفناء المحمود ــ وهو تحقيق مقام الإحسان ــ أن
(1)
يفنى بحبِّه وخوفه ورجائه والتّوكُّل عليه وعبادته والتّبتُّل إليه عن غيره. وليس فوق ذلك مقام يُطلب إلا ما هو من عوارض الطريق.
قوله: (وتصون السالك عن وهن الفترة)، أي تحفظه عن ضعف فتوره وكسله الذي سببُه عدمُ الرغبة أو قلَّتها.
وقوله: (وتمنع صاحبها من الرُّجوع إلى غثاثة الرُّخص)، أهل العزائم بناءُ
(2)
أمرهم على الجدِّ والصِّدق، والسُّكونُ منهم إلى الرُّخص رجوع وبطالة.
وهذا موضعٌ يحتاج إلى تفصيلٍ، ليس على إطلاقه، فإنَّ الله عز وجل يحبُّ أن يؤخذ برخصه كما يحبُّ أن يؤخذ بعزائمه. وفي «المسند» مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله يحبُّ أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»
(3)
، فجعل الأخذ بالرُّخص قُبالةَ إتيان المعاصي، وجعل حظَّ هذا: المحبَّةَ، وحظَّ هذا: الكراهية.
وما عَرَض للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا
(4)
، والرُّخصة أيسر من العزيمة. وهكذا كانت حاله في فطره في سفره، وجمعه بين الصلاتين، والاقتصار من الرُّباعية على شطرها، وغير ذلك. فنقول: الرُّخصة
(1)
السياق في ع: «الفناء المحمود هو تحقيق مقام الإحسان، وهو أن» .
(2)
ع: «بَنَوا» .
(3)
حديث حسن سبق تخريجه (1/ 395).
(4)
كما في حديث عائشة عند البخاري (3560) ومسلم (2327).
نوعان:
أحدهما: الرُّخصة المستقرَّة المعلومة من الشَّرع نصًّا
(1)
، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها عزيمةٌ باعتبار الأمر والوجوب فهي رخصةٌ باعتبار الإذن والتّوسعة. وكفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاةِ المريض إذا شقَّ عليه القيام قاعدًا، وفطرِ الحامل والمرضع خوفًا
(2)
على ولديهما، ونكاحِ الأمة خوفًا من العنت، ونحو ذلك. فليس في تعاطي هذه الرُّخص ما يوهن رغبته، ولا يردُّه إلى غثاثةٍ، ولا ينقص طلبه وإرادته البتَّة، فإنَّ منها ما هو واجب كأكل الميتة عند الضرورة، ومنها ما هو راجحُ المصلحةِ كفطر الصائم المريض وقصر المسافر وفطره، ومنها ما مصلحته للمترخِّص وغيره، ففيه مصلحتان: قاصرة ومتعدِّية، كفطر الحامل والمرضع؛ ففعلُ هذه الرُّخص أرجح وأفضل من تركه
(3)
.
النوع الثاني: رخص التأويلات واختلاف المذاهب، فهذه تتبُّعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخِّص إلى غثاثة الرُّخص؛ فإنَّ من ترخَّص بقول أهل مكَّة في الصَّرْف، وأهل العراق في الأشربة، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحِيَل في المعاملات، وقولِ ابن عبَّاسٍ في المتعة وإباحة لحوم الحمر، وقولِ من جوَّز نكاح البغايا المعروفاتِ بالبغاء وجوَّز أن يكون زوجَ قحبةٍ، وقولِ من أباح آلات اللهو والمعازف من اليَراع
(1)
ل: «أيضًا» ، تحريف.
(2)
ش: «إذا خافتا» .
(3)
ع: «تركها» .